شهدت منطقة المشرق العربي خلال العقدين الماضيين تحوّلات جيوسياسية عميقة وغير مسبوقة، بلغت ذروتها مع عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول 2023
طوفان الأقصى كزلزال جيوسياسي
شهدت منطقة المشرق العربي خلال العقدين الماضيين تحوّلات جيوسياسية عميقة وغير مسبوقة، بلغت ذروتها مع عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول 2023. لم تكن هذه العملية مجرّد حدث عسكري عابر، بل مثّلت زلزالاً استراتيجيّاً أعاد تشكيل المشهد الإقليمي برمّته، وكشفت عن ديناميكيات جديدة في موازين القوى، وفتحت مساراً سياسيّاً واستراتيجيّاً طويلاً ومعقّداً. إنّ النتائج النهائية لهذا المسار ستحدّد ملامح مستقبل المنطقة لعقود قادمة، مؤكّدةً أنّ "طوفان الأقصى" لم يكن حدثاً معزولاً، بل كان تتويجاً لتراكم طويل من الاختلالات الجيوسياسية الإقليمية والدولية.
الخلفية الجيوسياسية والانفجارات المحتومة
لم يكن "طوفان الأقصى" حدثاً مفاجئاً أو معزولاً عن سياقه التاريخي والجيوسياسي، بل كان تتويجاً لمسار طويل من التفاعلات المعقّدة والاختلالات المتراكمة في موازين القوى الإقليمية والدولية. فقبل أشهر من العملية، تنبّأت تحليلاتٌ استراتيجيةٌ بوقوع انفجار إقليمي وشيك، بناءً على قراءة واقعية ومنهجية للواقع الإقليمي، وفق منطلقات الواقعية السياسية.
فلقد أظهرت تطوّرات الحرب في أوكرانيا أنها باتت تُحاكي حرباً عالمية ثالثة من ناحية الأهداف والنتائج، ولا سيّما إذا ما أخذنا في الحسبان أبعاد الحرب الاقتصادية التي تدور بالتوازي مع الحرب العسكرية بين معسكرين عريضين. ورغم عدم خلوّ كلا المعسكرين المتقابلين من تباينات في بعض التكتيكات والقضايا التفصيلية، فإنّ ذلك لا يبدّل من جوهر تقييمهما الاستراتيجي للحرب الدائرة، ويتوافق مع طبيعة العلاقات الدولية في هذه المرحلة الحساسة، التي تختلف في طبيعتها عمّا اعتاد العالم رؤيته لعقود عقب الحرب العالمية الثانية.
تُدير الأطراف الدولية الكبرى مجريات الحرب الراهنة بناءً على قواعد اشتباكٍ ارتضتها ضمناً فيما بينها، أملاً في تفادي وقوع أمرين: توسّع رقعة القتال العسكري إلى خارج الجغرافيا الأوكرانية، وتصاعد الاشتباك العسكري القائم إلى مرحلة الصدام النووي بين القوى النووية. لكنّ الحروب لا تلتزم دوماً بضوابط المتحاربين كما يعلّمنا التاريخ، لا سيّما حين تكون بين قوى كبرى يتحدّد عليها مصيرها، أو عندما تكون الآثار المترتبة على نتيجتها ذات طبيعة استراتيجية، كتحديد شكل النظام العالمي لعقود مقبلة.
لذلك، ما دامت الحرب في أوكرانيا مستمرة، فإنه يصعب الجزم بالمدى الذي ستصل إليه. بل على العكس، تزداد مع مرور الوقت إمكانيّة تفجّر ساحات أخرى، سواء في الجغرافيا المحيطة بأوكرانيا أم في ساحات أخرى بعيدة قابلة للاشتعال، لا سيّما في ظلّ عالمٍ بات أكثر تشابكاً من أيّ وقتٍ مضى.
المشرق العربي: منطقة مشتعلة ومرشّحة للتصعيد
تُعدّ منطقة المشرق العربي من المناطق المشتعلة أصلاً، وإن كان ذلك بوتائر مختلفة. فبرغم التقدير الخاطئ الذي شاع مطلع تسعينيات القرن الماضي، والذي خمَّن أن المنطقة تدخل مرحلة السلام الموهوم والازدهار المزعوم، جاءت الأحداث على امتداد السنوات الثلاثين الماضية، التي أفضت إلى عملية "طوفان الأقصى" بصفتها لحظة التفجير، لتُثبت قصور هذا التقدير عن إدراك الواقع الجيوسياسي وامتداداته التاريخية والحضارية لمنطقة المشرق العربي، التي تعيش مرحلةً من الكيانيّة الشاذّة وغير المستقرّة من عمرها، لكونها تتنافى وطبيعة البنية التاريخية والحضارية للمنطقة التي امتدّت لقرون من الزمن، والتي لا يزال صداها حاضراً في الوعي الجمعي لشعوب هذه المنطقة.
لهذا، تُعدّ منطقتنا من أكثر المناطق تأثّراً بارتدادات حالة السيولة الدولية التي يعيشها العالم في هذه الحقبة المفصلية. ورغم محاولات جميع الأطراف الدولية والإقليمية تفادي التصعيد الشامل، الذي سيكون أكثر تدميراً من كلّ ما شهدته المنطقة حتى اللحظة، إلا أنّ السياقات التاريخية وتفاعلاتها عادةً ما تفرض ذاتها على الجميع، ولطالما اقتضت الحكمة السعي للاستفادة منها والبناء عليها. كما أنّ الخاسر هو من يتعامى عنها أو يحاول معارضتها.
طوفان الأقصى: زلزال استراتيجي وتحوّل في قواعد الاشتباك
كان "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول 2023 بمثابة نقطة تحوّل فارقة في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني، وزلزالٍ استراتيجيٍّ ضرب المنطقة بأسرها. لم تكن العملية مجرّد هجوم عسكري، بل كانت تعبيراً عن تراكمٍ طويلٍ من الإحباط والظلم، ورفضاً قاطعاً للوضع الراهن الذي فرضته قوى الاحتلال والهيمنة.
لقد باتت غزّة، منذ "طوفان الأقصى"، مركزاً للصراع الدائر، وشاهداً حيّاً على جريمة الإبادة الجماعية المتواصلة التي يرتكبها الكيان الصهيوني. وإنّ المجاعة التي يفرضها الاحتلال على غزّة هي جزءٌ من سياسةٍ ممنهجة تهدف إلى كسر إرادة الصمود لدى الشعب الفلسطيني. ومع ذلك، فإنّ هذه السياسات لم تَزِد الشعب الفلسطيني إلّا إصراراً على التمسّك بحقوقه ومقاومة الاحتلال. لقد أصبحت غزّة رمزاً للصمود والتحدّي في وجه الظلم، وملهماً للشعوب الحرّة في العالم.
هذه السياسة، التي تُعَدّ انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، لم تُحقّق أهدافها، بل على العكس، زادت من تلاحم الشعب الفلسطيني حول مقاومته، وكشفت الوجه الحقيقي للاحتلال أمام الرأي العام العالمي.
لا تلوح في الأفق أيّ مؤشّراتٍ جدّية لوقف إطلاق النار حتى اللحظة، في ظلّ تعنّت الكيان الغاصب ورفضه الإقرار بأنّ الحرب قد استنفدت غاياتها العسكرية. إنّ هذا التعنّت يعكس أزمةً استراتيجيةً يواجهها الكيان المؤقّت، فهو غير قادرٍ على تحقيق النصر العسكري الحاسم، وفي الوقت نفسه يرفض الاعتراف بفشل سياساته.
إنّ كتائب القسام ما زالت تُبدع في تطوير أساليبها لمواجهة العدوان ومجرياته الميدانية. ورغم الكلفة البشرية الباهظة على المدنيين الفلسطينيين، فإنّ المقاومة تُوقِع خسائر مستمرّة في صفوف جيش الاحتلال، بين قتيلٍ وجريح، بقدر ما تسمح به ظروف المعركة غير المتكافئة والقاسية، مقدّمةً نموذجاً فريداً في النضال من أجل الحرية والكرامة. إنّ هذا الصمود يُمثّل عاملاً حاسماً في تحديد ملامح مستقبل المنطقة.
خيارات الكيان الصهيوني:
يُواجه الكيان الصهيوني، بعد "طوفان الأقصى"، تحدّياتٍ استراتيجية غير مسبوقة، تكشف عن حدود نجاحه وفشله في تحقيق أهدافه الأمنية والسياسية. فبعد عقودٍ من التفوّق العسكري والسيطرة الإقليمية، وجد الكيان الغاصب نفسه في مأزق، حيث أظهرت عملية "طوفان الأقصى" هشاشةً أمنية لم تكن متوقعة، وكشفت عن عجزٍ في مواجهة المقاومة الفلسطينية. هذا الواقع الجديد يفرض على الكيان خياراتٍ صعبة، تتراوح بين التصعيد العسكري الشامل أو القبول بالواقع الجديد الذي فرضته المقاومة.
لقد أثبتت عملية "طوفان الأقصى" أنّ مفهوم الردع الذي طالما اعتمد عليه الكيان الصهيوني قد تآكل بشكلٍ كبير. فالمقاومة الفلسطينية، بقدراتها المتواضعة مقارنةً بالآلة العسكرية الصهيونية، تمكّنت من اختراق التحصينات الأمنية، وإلحاق خسائر غير مسبوقة بالكيان.
هذا التآكل في الردع لا يقتصر على الجانب العسكري فحسب، بل يمتدّ ليشمل الجانب الاستخباراتي، حيث فشلت أجهزة الكيان في التنبّؤ بالعملية أو إحباطها، رغم نجاحاته الاستخبارية في ساحاتٍ أخرى كلبنان وفي الداخل الإيراني.
وقد أدّى هذا الفشل إلى اهتزاز الثقة في القيادة العسكرية والسياسية للكيان، وفتح الباب أمام تساؤلاتٍ جدّية حول مستقبل أمنه. ولقد أثبتت التجربة أنّ الخيار العسكري، رغم وحشيّته، لم يُحقّق أهدافه في القضاء على المقاومة أو فرض الاستسلام، بل زاد من إصرار الشعب الفلسطيني على المقاومة.
من جهة أخرى، فإنّ صعود اليمين الصهيوني الأكثر تطرّفاً إلى سدّة الحكم في الكيان المؤقّت، عرّى حقيقة الكيان الجوهرية، وزاد من تعقيد المشهد. فهذه الحكومة تسعى إلى إحداث تغييراتٍ ديموغرافية بطرقٍ وأساليب أكثر صراحةً وعدوانية، وذلك من خلال سياسات التوسّع الاستيطاني، وتهجير الفلسطينيين، سواءً أكانوا من سكان الضفة أم غزة أم في الأراضي المحتلة عام 1948، وهدم المسجد الأقصى.
هذه السياسات تزيد من حدّة التوتّر في المنطقة، وتدفع نحو توسّع الانفجار الإقليمي. إنّ هذا التوجّه الأكثر عدوانيةً لا يُهدّد الأمن الإقليمي فحسب، بل يُهدّد أيضاً مستقبل الكيان الصهيوني نفسه، إذ يزيد من عزلته الدولية، والأرجح أن يُفضي إلى اتساع مدى استنزافه على المدى المتوسّط، ممّا يمكن أن ينعكس سلباً على وضعه الأمني بدلاً من تعزيزه.
التحديات الداخلية والانقسامات السياسية:
يُواجه الكيان الصهيوني أيضاً تحدّياتٍ داخلية تتمثّل في الانقسامات السياسية والاجتماعية، وتراجُع الثقة في القيادة. فبعد "طوفان الأقصى"، تصاعدت الأصوات التي تنتقد أداء الحكومة والجيش، وتُطالب بإعادة تقييم شامل للاستراتيجية الأمنية.
هذه التحدّيات الداخلية تزيد من ضعف الكيان المؤقّت، وتجعله أكثر عرضةً للضغوط الخارجية. إنّ هذه الانقسامات تعكس أزمةَ هويةٍ يواجهها الكيان، حيث تتصادم الرؤى حول طبيعة الدولة ومستقبلها، ممّا يؤثّر على قدرته على اتخاذ قراراتٍ استراتيجيةٍ موحّدة.
يُدرك الكيان أنّ السبيل الوحيد لإبطال الوضع الاستراتيجي الذي ظهّرته عملية "طوفان الأقصى"، ينحصر في استكمال مشروع التهجير الذي بدأه عام 1948، وإحداث نكبةٍ جديدة في الشعب الفلسطيني، تمتدّ تداعياتها لتشمل باقي دول المنطقة، بما فيها حركات ودول التحرّر العربي - الإسلامي. وهذا هو لُبّ ما يحاول الكيان القيام به منذ 7 تشرين الأول 2023، في سعيٍ لاستعادة ركائز أمنه الاستراتيجي الذي انهار صبيحة ذاك اليوم المجيد.
يفرض هذا الوضع على الكيان المؤقّت أحد خيارين: فإمّا أن يستمرّ في سياساته العدوانية، مع كلّ ما يحمله هذا الخيار من مخاطر التصعيد والفشل، أو أن يرضخ للواقع الجديد، ويقبل بوقفٍ لإطلاق النار يكون شاملاً وحقيقياً على جبهة غزّة وباقي الجبهات، بما يعنيه ذلك من فشلٍ في استعادة أمنه الاستراتيجي، أو ما يسمّيه نتنياهو تحقيق "النصر الكامل".
الضفة الغربية وسلطة التنسيق الأمني: المصير الغامض
تُعَدّ الضفّة الغربية، بما فيها القدس، ساحةً أخرى للصراع المحتدم، حيث تتشابك فيها تعقيدات الاحتلال مع دور السلطة الفلسطينية، التي استحقّت لقب "سلطة التنسيق الأمني"، بعد أن انتهى بها الأمر لتكون أشبه بجيش لحد الجنوبي في لبنان، بما تقوم به من دورٍ وظيفيٍّ بحت لصالح إدامة الاحتلال وحماية مستوطنيه، في مشهدٍ جعل بقاءها رهيناً بإدامة الاحتلال ذاته.
فعقب "طوفان الأقصى"، تصاعدت اعتداءات الاحتلال في الضفّة الغربية، كما تزايدت اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين، ضمن توجّهٍ ممنهجٍ يهدف إلى إنهاء التواجد الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1967.
يحدث هذا في ظلّ تماهٍ كاملٍ من قِبل سلطة التنسيق الأمني مع جيش الاحتلال وجهاز الشاباك، إذ انحصرت وظيفة قوات أمن السلطة بقمع أيّ حراكٍ مقاوم يمكن أن ينشأ في الضفّة ضدّ المحتل، حالُها في ذلك حالُ جميع سلطات الحكم الذاتي العميلة تحت الاحتلال في تجارب الشعوب الأخرى.
يضع هذا الوضع الضفّة الغربية أمام مفترق طرق: فإمّا أن يمضي الكيان في مخطّطاته لاستكمال قضم أراضي الضفّة وتهجير أهلها دون ردود أفعالٍ رادعة من قِبل سكان الضفّة – وهذا أمرٌ غير مرجّح –، وإمّا أن تصل الأحوال إلى لحظة انفجارٍ في وجه المحتل، تأخذ فيه فصائل المقاومة الفلسطينية مسؤولياتها في تصعيد الفعل المقاوم في الضفّة بصورةٍ جدّية، وبطريقةٍ أكثر فاعليةً ممّا يبدو عليه المشهد الراهن.
إيران: الغموض النووي
لقد نشبت، في ضوء هذا المشهد الإقليمي المتفجّر، أولُ حربٍ عسكريةٍ مباشرةٍ بين الجمهورية الإسلامية في إيران وبين الكيان الغاصب، المدعوم من حلفٍ غربيٍّ وعربيٍّ متصهينٍ بقيادة الولايات المتحدة. ورغم تلقّي إيران ضربةً استخباريةً قاسيةً في الساعات الأولى من الحرب، فإنها استطاعت استعادة زمام المبادرة سريعاً، وخاضت حرباً متكاملةً مع الحلف المعادي استمرّت اثني عشر يوماً.
لقد كشفت مجريات الحرب على إيران أنّ الهدف الحقيقي منها كان إسقاط الدولة الإيرانية، بضربةٍ عسكريةٍ مباغتةٍ تعتمد على عملٍ استخباريٍّ معقّدٍ امتدّ لسنوات. ومع فشل الضربة الأولى في تحقيق مبتغاها، دخلت الولايات المتحدة بصورةٍ مباشرةٍ على الحرب عبر توجيه ضربةٍ يتيمةٍ للمنشآت النووية الإيرانية. ولم تتّضح بصورةٍ جليّةٍ آثار تلك الضربة على المشروع النووي الإيراني، لكنّ الأرجح أنّها لم تُشكّل ضربةً قاضية، حسب ما سوّقته الولايات المتحدة، بل أشارت عدّة تقديراتٍ معتبرة إلى أنّ أثرها ربما لم يتخطَّ تعطيل المشروع النووي الإيراني سوى بضعة شهورٍ في أفضل الأحوال.
مع ذلك، فإنّ الهجوم الصهيو-أميركي على المنشآت النووية كان له تداعياتٌ سياسية على القرار الإيراني. فمنذ ذاك الحين، دخلت إيران في طور الغموض النووي، ولم يَعُد واضحاً ما الخطوة النووية القادمة التي يمكن للجمهورية الإسلامية الإقدام عليها، ممّا يجعل توقّف القتال على الجبهة الإيرانية أمراً مؤقتاً على الأرجح، في انتظار جولة التصعيد القادمة، التي يمكن أن تأخذ شكل إعلانٍ إيرانيٍّ عن تصنيعها للسلاح النووي، أو اشتباكٍ صاروخيٍّ جديد، أو حربٍ استخباريةٍ أشدّ ضراوةً من العمليات الاستخبارية التخريبية التي كانت قائمةً قبل وقوع الاشتباك المباشر غير المسبوق بين الجمهورية الإسلامية والكيان الغاصب.
حزب الله: انكفاء تكتيكي
تعرّض حزب الله لضرباتٍ قاسيةٍ في الحرب التي خاضها مع الكيان الغاصب، وذلك على عكس التقديرات العسكرية التي كانت سائدةً قبل الحرب، ممّا ترك كدماتٍ واضحةً على بنيته العسكرية وبيئته الحاضنة، ناهيك عن فقدان شهيد الأمّة الأقدس، السيّد حسن نصر الله، الذي مثّل ارتقاؤه ضربةً معنويةً هائلة على الحزب وبيئته وسائر قوى المقاومة في الإقليم.
ولقد كان مردّ عدم دقّة التقديرات العسكرية لشكل الحرب القادمة بين الحزب وكيان الاحتلال، أنّ جلّ الضربات التي تلقّاها الحزب كانت من الطبيعة الأمنية والاستخبارية الخفية، ولم تكن ضرباتٍ عسكريةً صرفةً يمكن التنبّؤ بها بهامش خطأٍ مقبول.
يتعرّض حزب الله، منذ دخول وقف إطلاق النار الشكلي حيّز التنفيذ، لضغوطٍ أميركيةٍ متصاعدة، مصحوبةٍ بحملاتِ ضغطٍ من قِبل خصومه في الداخل اللبناني، بتشجيعٍ أميركي، تهدف إلى وضع لبنان برمّته على شفا الحرب الأهلية، وإدخاله في حالةٍ من عدم الاستقرار السياسي، في محاولةٍ لإجبار حزب الله على تسليم سلاحه الدقيق من صواريخ ومُحلّقات، اللذَين يُمثّلان قلق الكيان الأبرز، واللذَين لا يزال الحزب يمتلك منهما قدراً لا يُستهان به.
ويتكامل كلٌّ من الكيان المؤقّت، والمجاميع التكفيرية التي باتت تحكم في سورية، في لعب دور الضاغط الأخطر على لبنان وحزب الله، وذلك عبر احتلال الكيان لنقاطٍ جديدةٍ في جنوبيّ لبنان، واستمرار غاراته الجوية على العمق اللبناني، وعبر التهديد العسكري المستجدّ من قِبل المجاميع التكفيرية في سورية على جبهة لبنان الشمالية.
يدرك حزب الله أنّ تخلّيه عن سلاحه الدقيق يعني فقدان لبنان لآخر قدرةٍ ردعيةٍ يتمتّع بها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وأنّ ذلك سوف يعزّز فرص نجاح الولايات المتحدة في فرض الاستسلام الكامل على لبنان، من خلال إدخاله في منظومة دول الاتفاقات الإبراهيمية.
يُضاف إلى ذلك التبعات الداخلية اللبنانية على بيئة المقاومة، التي صار يُجاهر خصومها بنيّتهم تهميشها داخلياً وسياسياً.
يُشكّل هذا الإدراك، بالإضافة إلى عقيدة حزب الله القتالية الراسخة في مواجهة قوى الهيمنة والاحتلال، التي لم تتبدّل نتيجة التراجع التكتيكي الذي أُصيب به جرّاء الحرب، يُشكّل عقباتٍ جديّةً أمام نجاح المعسكر الصهيو-أميركي في الوصول إلى مبتغاه في لبنان، ممّا يُبقي الباب مفتوحاً على احتمال عودة القتال في جنوبيّ لبنان.
المشرق العربي على أبواب مرحلة جديدة:
يشهد المشرق العربي، بعد "طوفان الأقصى"، مرحلةً جديدةً تتّسم بالتحوّلات العميقة والتناقضات الحادّة، حيث تتجاذب المنطقة بين خيار المقاومة والصمود، وبين خطر الانزلاق إلى عصرٍ صهيونيٍّ جديد. لقد كشفت الأحداث الأخيرة عن هشاشة الأنظمة العربية القائمة، وعن فشل الحلول التقليدية في معالجة الأزمات المتراكمة، ممّا يفرض على المنطقة إعادة تقييمٍ شاملةٍ لاستراتيجياتها ومستقبلها.
واقع الأمر، تعيش المنطقة حالةً من السيولة الجيوسياسية، تتغيّر فيها التحالفات وتتبدّل الأولويات. فبينما يسعى الحلف الصهيو - أميركي إلى إعادة فرض هيمنته المطلقة، فإنّ قوى التحرّر تُظهر إصراراً على تغيير قواعد اللعبة. ويعكس هذا التغيّر في التحالفات تحوّلاً في موازين القوى العالمية، حيث يسعى الأميركي إلى منع انحسار نفوذه في منطقتنا والعالم بصورةٍ عامة، ممّا يخلق بيئةً جيوسياسيةً أكثر تعقيداً وتنافسيّة. وعلى الرغم من التحدّيات الكبيرة، فإنّ قوى المقاومة تواصل صمودها، وتُظهر قدرةً على التكيّف مع المتغيّرات. فالمقاومة، بطبيعتها، تعتمد على المرونة والقدرة على التكيّف مع المستجدّات، وهذا ما أظهرته تلك القوى في تعاملها مع الوضع الإقليمي على مدى العقدين الماضيين.
لقد أثبت "طوفان الأقصى" أنّ المشرق العربي يقف على أعتاب مرحلةٍ تاريخيةٍ جديدة، تتّسم بالتحوّلات العميقة وإعادة تشكيل موازين القوى. لم يكن "طوفان الأقصى" مجرّد حدثٍ عسكريّ، بل كان زلزالاً استراتيجيّاً كشف عن هشاشة الكيان الصهيوني، وأعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة الأجندة العالمية، وألهم شعوب المنطقة لمواصلة نضالها من أجل التحرّر والسيادة. كما أن هذه التحوّلات ليست عابرة، بل هي جزءٌ من عمليةٍ أوسع لإعادة رسم ملامح النظام العالمي، حيث يتراجع القطب الواحد، وتصعد قوى متعدّدة تسعى إلى فرض رؤيتها للعالم.
إنّ صمود غزّة، رغم وحشية العدوان والإبادة الجماعية، يُمثّل شهادةً حيّةً على إرادة الشعب الفلسطيني التي لا تُقهَر. فالمقاومة، المدعومة بإرادة شعبها، أثبتت قدرتها على الصمود والتكيّف، وتقديم نموذجٍ فريدٍ في النضال من أجل الحرية والكرامة. كما أن هذا الصمود يؤكّد أنّ أهداف الكيان الصهيوني العسكرية، المتمثّلة في القضاء على المقاومة أو فرض استسلامها، هي أهدافٌ غير قابلة للتحقّق واقعيّاً على الأرض. إنّ غزّة، بصمودها، أصبحت بوصلةً للصراع، ومؤشّراً على أنّ التغيير قادمٌ لا محالة في المنطقة.
Related Posts
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في تركيا