Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

وعلى غير ميعاد، وجدت فصائل الثورة نفسها في دمشق على مرمى حجر من الحدود مع فلسطين المحتلة، الأمر الذي فاجأ كيان الاحتلال أيضاً ودفعه للتحرك وتوسيع احتلاله لأراضٍ سورية، في مقابل انكفاء سوري تفادياً لمواجهة غير محسوبة وانخراط في مفاوضات مباشرة مع كيان الاحتلال للوصول إلى اتفاق أمني معدّل على اتفاق فض الاشتباك لعام 1974

أنس خضر

مناورة تحت وابل النيران: كيف تنظر دمشق للعلاقة مع تل أبيب؟

"لا يكن حبك كَلَفاً ولا بُغضك تَلَفاً، إذا أحببتَ كَلفت كلَفَ الصبي، وإذا أبغضتَ أحببتَ لصاحبك التلَف". تعد هذه العبارة من عيون الوصايا النافعة في الأدبيات الإسلامية، في باب العلاقات مع الأفراد والجماعات والدول، وهي تتفق مع ضوابط التحليل الموضوعي المنصوص عليها في أدبيات التحليل الاستخباري المعاصرة، خاصة حين تنص على تفادي "التحيّزات" النفسية والفئوية في الحكم على الأحداث وفواعلها.ا

لقد أشبع العقدُ المنصرم النفوسَ بالتحيزات الفئوية التي لها مبرراتها الموضوعية، وتعززت هذه المشاعر خلال السنوات الخمس الأخيرة مروراً بطوفان الأقصى وحروب الاحتلال الإسرائيلي على غزة ولبنان واليمن وإيران، وتداعيات سقوط نظام بشار الأسد في سوريا ووصول قوى الثورة إلى الحكم في دمشق.ا

وعلى غير ميعاد، وجدت فصائل الثورة نفسها في دمشق على مرمى حجر من الحدود مع فلسطين المحتلة، الأمر الذي فاجأ كيان الاحتلال أيضاً ودفعه للتحرك وتوسيع احتلاله لأراضٍ سورية، في مقابل انكفاء سوري تفادياً لمواجهة غير محسوبة وانخراط في مفاوضات مباشرة مع كيان الاحتلال للوصول إلى اتفاق أمني معدّل على اتفاق فض الاشتباك لعام 1974.ا

كَلَف التبرير والتخوين

أمام هذا الواقع، وما يتخلّله من مناورات سياسية حادة في دمشق، انقسم الشارع العربي والإسلامي بين مبرر بدافع الأمل والولاء ومخوّن ينطلق من مواقف مسبقة، بينما يتجاهل كلا الفريقين سبر الموقف وفق محدداته الموضوعية: فلا المبررون تنبّهوا لخطورة اللحظة الصهيو-أمريكية في المنطقة، ولا المخوّنون راعوا إكراهات السياسة والميدان.ا

في نقاش الصنف الأول، تبرز حقيقة القوة الإسرائيلية المفرطة وتفوقها التقني والاستخباري الذي حققت من خلاله إنجازاتها في غزة ولبنان وإيران، ما يلجئ النظام الجديد في دمشق لتفادي المواجهة ويكرهه على التفاوض مع العدو لدفع أعلى المفسدتين، وكسب المزيد من الوقت استعداداً للمواجهة القدرية اللاحقة.ا

لكن هذا الفريق يتجاهل نقاطاً مؤثرة في هذا التقييم: إن كيان الاحتلال يدرك تماماً أن إدارة الرئيس أحمد الشرع قادمة من خلفية عقدية ومنهجية ترى في الصهيونية خطراً تجب مواجهته، وفي فلسطين والمسجد الأقصى حقاً مسلوباً تجب استعادته، تشهد لذلك العديد من الكلمات الصوتية والمقابلات المصورة والبيانات المكتوبة والفعاليات المعلنة، للشرع وصناع القرار معه. ولذا، صرح رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في آب\ أغسطس 2025، في معرض تبريره الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا: "لست ساذجاً، استخدمنا القوة لأني أفهم مع من نتعامل".ا

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ النقاط الرئيسية التي يتمسك بها الاحتلال في مفاوضاته مع سوريا تضمن أمن الكيان وسيطرته، وتسلب الحكومة السورية سيادتها على الجنوب السوري وكامل الأجواء السورية، وحقها في بناء جيش مقتدر ورادع في استنساخ لتجربة الجيش اللبناني.ا

على المقلب الآخر، ينطلق المخوّنون من تحيزات فئوية تتجاهل واقع سوريا غير المؤهل لخوض حرب كهذه: فالقدرات العسكرية متهالكة تصلح لحروب الميليشيات فقط، ولا بنية تحتية عسكرية تساعد على حرب عصابات على غرار غزة، إلى جانب التدمير الكبير الذي طال البنية التحتية المدنية، فضلاً عن الانكشاف الأمني الكبير الذي تعاني منه الساحة السورية.ا

محاور إشغال

توازياً مع محور الجهد الرئيسي الذي يعمل الاحتلال الإسرائيلي من خلاله في الجنوب السوري، تبدو الدولة السورية مشتتة على محاور إشغال تبدد طاقات حكومة الرئيس الشرع وتعزز من عوامل الإكراه التي يعمل تحت وطأتها: فالدعوات الانفصالية تحت شعار حقوق الأقليات وضعت الحكومة السورية في موقع الاتهام أمام المجتمع الدولي، ما جعلها منشغلة بمحاولات الدفاع عن شرعيتها أمام العالم والمؤسسات الأممية والحقوقية وتقدم التنازلات في سياق هذا الدفاع.ا

وعلى المستوى الاقتصادي، لوّحت الإدارة الأمريكية بجزرة رفع العقوبات، التي قد تعود لتتحول إلى عصا من جديد، وفقاً لمتطلبات المرحلة. فرفع العقوبات مشروط بمراقبة سلوك إدارة الرئيس الشرع، وإلغاء قانون قيصر أو تمديده رهن بالتزامات دمشق تجاه السياسة الأمريكية في المنطقة.ا

وأمام هذه التعقيدات، يبرز دور المبعوث الأمريكي إلى لبنان وسوريا توم باراك الذي يمارس الابتزاز الناعم بدلاً من الدبلوماسية، ويطلق الوعود المغرية في الهواء لقاء تنازلات تدريجية من سوريا وفق سياسة "دبيب النمل". ومع ذلك، لا يستحي باراك من التصريح بعجزه عن منع كيان الاحتلال من مواصلة اعتداءاته، بل يصرح في أن حدود سايكس بيكو لم تعد تعني شيئاً بالنسبة لنتنياهو، في تهديدات متتابعة يلبسها لبوس العجز أمام النشوة الصهيونية.ا

نقطة التحول

تكمن الخطورة في الحالة السورية المستجدة في التفكير تجاه الكيا الإسرائيلي بعقلية ما قبل "7 أكتوبر"، حيث كانت تل أبيب ترضى-مرحلياً-بالتطبيع والعلاقات الندية وفق مصالح متبادلة، وسياسة الاحتواء لانتقال بالمحيط العربي من حالة العداء أو القطيعة إلى السلام والتطبيع. لكن الأمر اختلف منذ طوفان الأقصى ولم يعد كيان الاحتلال يفكر كذي قبل، فقد تحول من الاحتواء إلى الهيمنة ومن المصالح المشتركة والمتبادلة إلى فرض التطبيع بشرط الاستسلام وبلا مقابل، بل دون مراعاة لما قام عليه التطبيع من قبل كحل الدولتين.ا

يشعر الكيان اليوم بنشوة انتصاراته التكتيكية، ويسعى لاستثمار زخم نيرانه في المنطقة والدعم الأمريكي المطلق لـ "فرض الهيمنة من خلال القوة"، في معادلة أثارت مخاوف دول مطبعة وأخرى تحظى بعلاقات إيجابية مع الاحتلال. ثم جاءت محاولة الاغتيال في الدوحة، في استهداف للمفاوض على أرض الوسيط لحسم المسألة الغزية عسكرياً، هذا فضلاً عن قرار توسيع الاستيطان في الضفة الغربية وصولاً إلى الضم وفرض السياسة، وكلها سياسات تصعيدية أثارت حكام الخليج قبل غيرهم.ا

أما في الحالة السورية، فالمفاوضات تجري تحت وابل النيران، وتقوم في الأساس على ركيزة حماية الكيان وتوسيع منطقته الأمنية العازلة وتكريس سيطرته على الجنوب السوري انطلاقاً من بقائه في جبل الشيخ، فضلاً عن سيطرة مطلقة على الأجواء السورية، وشروط تتعلق بطبيعة تسليح الجيش السوري وتدريبه.ا

مسؤولية مشتركة

يحتم التوحش الإسرائيلي في المنطقة على الجميع تحمل مسؤولية مشتركة تجاه إفشال مشاريع التقسيم والتوظيف والإخضاع: فلا لتقسيم المنطقة إلى دويلات أقلّوية، ولا للعب دور وظيفي في مواجهة جهات أخرى خدمة لمصالح الاحتلال، ولا لإقرار إخضاع هذه الجهات على تنوعها، لما لذلك من تداعيات على سائر المنطقة من خلال حرية الحركة المتزايدة التي يكتسبها الاحتلال مع كل تقدم.ا

وتوازياً مع المناورات الحادة التي نشهدها هذه الأيام، فإن المطلوب تسكين الخلافات وإدارتها لاستثمار الوقت الحالي إعداداً للمواجهة الحتمية المقبلة، التي وإن فر منها البعض فستقوده إليها نشوة الاستكبار الإسرائيلي. لذا، يجب التنبه إلى أن اللحظة لحظة مراكمة للقوة مع اليقظة لا الغفلة، فحين يسكن عدوك فيما يبدو لك إنما يجمع قائمة أهدافه المستقبلية. كما يجب التنبه إلى خطورة التخلي عن أوراق القوة والإشغال ركوناً لوعود العدو ورعاته، فضلاً عن أهمية إعادة قراءة "إسرائيل" وفق عقليتها الجديدة في "عالم ما بعد 7 أكتوبر"، والتي تقوم على الاستباقية والتوحش في عالم يزداد تخلياً عن الدبلوماسية لصالح العسكرة والقوة.ا

 

باحث في الشؤون الإسلامية من لبنان