Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

في الرابع والعشرين من حزيران/ يونيو 2025، حصد زهران ممداني أعلى نسبة أصوات في تاريخ الانتخابات التمهيدية لمدينة نيويورك لمرشّح الحزب الديمقراطي لمنصب العمدة. خاض ممداني حملة انتخابية شعبوية لا تسبق لها مثيل، تميز فيها بوضوحه عن التزامه بالاشتراكية الديمقراطية، وبثباته على الدفاع عن الطبقة العاملة، وبدعمه العلني للشعب الفلسطيني، وبتركيزه على مدينة نيويورك دون سواها

باقر الحركة

حين أبتسم المسلم في نيويورك: عن ظاهرة زهران ممداني

أعتقد أننا لوقت طويل كنا نحاول ألّا ننهزم، بدل أن نتعلّم كيف ننتصر

***

في الرابع والعشرين من حزيران/ يونيو 2025، حصد زهران ممداني أعلى نسبة أصوات في تاريخ الانتخابات التمهيدية لمدينة نيويورك لمرشّح الحزب الديمقراطي لمنصب العمدة. خاض ممداني حملة انتخابية شعبوية لا تسبق لها مثيل، تميز فيها بوضوحه عن التزامه بالاشتراكية الديمقراطية، وبثباته على الدفاع عن الطبقة العاملة، وبدعمه العلني للشعب الفلسطيني، وبتركيزه على مدينة نيويورك دون سواها. ا

ركزت حملته على ثلاثة أهداف رئيسية: ١) تخفيض ارتفاع الإيجارات، ٢) جعل وسائل النقل العام مجانية وأسرع، ٣) ضمان طبي شامل للأطفال. رسالة ممداني لامست واقع الناخبين في المدينة فحقق بها فوزاً مدوياً. الناخبون دون الخمسين صوتوا له بنسبة اثنين إلى واحد. تفوق على خصومه في التصويت الآسيوي الأميركي بخمس عشرة نقطة، وفي التصويت الأبيض بخمس نقاط، وفي التصويت اللاتيني بخمس نقاط كذلك. إجمالاً، نال 56% من الأصوات مقابل 44% لحاكم الولاية السابق أندرو كومو. كما حصد دعماً ملحوظاً من اليهود الأميركيين بلغ 20%، وهو رقم لم يحقّقه أي مسلم في تاريخ المدينة السياسي. ا

ربما لم تشهد أميركا منذ نصف قرن شخصية ولا حملة كهذه. أميركا، والعالم، يشهدان ولادة نجم سياسي جديد. ا 

من هو زهران ممداني؟

ولد ممداني في كمبالا، عاصمة أوغندا، لوالدين مثقّفين: المخرجة ميرا ناير والأكاديمي المناهض للاستعمار محمود ممداني، بروفسور في جامعة كولومبيا. من مقتطفات نشأته أنه كان بين موائد يحضرها أسماء لامعة مثل إدوارد سعيد ورشيد خالدي في نيويورك. في دراسته الجامعية، كان بحث تخرجه قراءة في أدبيات الطبيب النفسي والمنظّر المناهض للاستعمار فرانز فانون، والفيلسوف (العنصري) جان جاك روسو. كتب ممداني عن الحاجة إلى قطيعة ثورية كي يستعيد الإنسان المستعمَر حريته. ا

بدأت علاقته بالسياسة من موقع المتطوّع في حملة باراك أوباما، ومنها تدرج في أدوار مختلفة حتى انتخب لاحقا عضوا في مجلس ولاية نيويورك. إحدى وظائفه في سيرته هي مغني راب، وله عدة تسجيلات مصورة على الإنترنت. واليوم، في ٤ نوفمبر 2025، يبدو أنه يتجه نحو فوز كاسح بمنصب عمدة مدينة توصف بأنها غير قابلة للحكم. ميزانية مدينة نيويورك تفوق 116 مليار دولار، وتوظف أكثر من 300 ألف عامل (عدد يفوق موظفون السلطنة العثمانية)، وشرطتها أكبر من جيش بلجيكا. ا 

عن حملة ممداني الانتخابية

نجاح ممداني ليس فقط بسياساته. يملك فن الخطابة، ذكي الحضور، يجمع بين الكاريزما والتعاطف، صادق في طرح سياسات تمس كل سكان نيويورك، وبالأخص الطبقة العاملة. وهو أيضا ضبابيا في الهوية. هو مسلم حاز دعما واسعا من اليهود الأميركيين، ومسلم تجاوز الانقسامات المذهبية بين السنّة والشيعة، مسلم جمع حوله تأييدا من السود الى المسيحيين، ومسلم شارك في مسيرة للمجتمع الكويري في نيويورك رافعا علم مجتمع الميم عين كاف، وجذب بابتسامته ولاية نيو يورك كلها. مسلم يتبنى خطاباً مؤيداً لفلسطين حتى قال إنه سيعتقل نتنياهو إذا دخل المدينة، وإن تراجع في بعض تصريحاته، بعدما اعتبر أن لـ"إسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها". ا

لم يكن صعود ممداني هيّناً. تعرض الرجل لحملة منظمة من الإسلاموفوبيا، ضخت فيها القوى اليمينية أكثر من 15 مليار دولار لدعم خصمه كومو في محاولة لإسقاطه، فيما صرح دونالد ترامب بأنه "سيغزو نيويورك" إن فاز ممداني. ووصفت بعض وسائل الإعلام انتخابه بأنه "غزو إسلامي للمدينة". وقالت عضوة في الكونغرس إن ممداني سيقيم "خلافة إسلامية في نيويورك"، بينما طالب نائب جمهوري وزارة العدل بإسقاط جنسيته وترحيله. ا

ورغم هذا التحريض والكراهية، تعامل ممداني مع المشهد بحنكة سياسية، إذ لم يقع في استبطان خطاب الضحية، رغم أن تبنيه لذلك الخطاب كان من الممكن أن يمنحه تعاطفاً جماهيرياً واسعاً. ممداني أيضاً له فريق رقمي يدير حضوره الإعلامي كجزء أساسي من مشروعه السياسي. فللرجل حضور قوي على منصات وسائل التواصل. وهو يملك استراتيجيا، ويعرف متى يتكلم، ومتى يصمت، ومتى يترك الضحكة تتكفل بالرد. ا

طريقة ممداني في ممارسة السياسة مختلفة جذرياً عما ألفناه. صحيح أنه يخوض حملته كما يفعل أي رئيس لكنه يفعل ذلك بنحو مختلف. يكاد يكون الفارق الأوضح مع من سبقه التواضع. فالرجل يمشي بين الناس، يعمل مع متطوعيه، يستخدم القطارات للتنقل (لا يملك سيارة)، يتحدث مع العمال وسكان، وربما الأهم والمفارقة انه يستمد من أحاديثهم أساس سياسته وبوصلتها الأخلاقية إذ دائماً ما تشهده يستشهد بقصص وأحاديث ومعاناة الناس. ا

بهذا النهج، جمع حوله ما يقارب تسعين ألف متطوع يعملون لحملته الانتخابية. يطرقون الأبواب بيتاً بيتاً، يتحدثون مع الناس في الشوارع، يوزعون ملصقات، ينظمون نقاشات وفعاليات، ويعيدون السياسة إلى معنى العمل الجماعي. حتى والدته شوهدت وهي تقف في الشارع توزع منشورات تدعو الناس إلى التصويت لابنها. تسعون ألف متطوع في مدينة تمزقها طبقات متراكمة من العنصرية والانقسام العرقي والديني واللغوي والشكلي. ا

استطاع ممداني، وهو ابن الـ٣٤ عاماً فقط، أن يجعل 20% من يهود نيويورك يصوتون لمسلم. وهذا ليس بتفصيل، في لحظة تاريخية تتسم بتوتّر عميق بين المسلمين واليهود. ا

تحت هذا كله، هناك ديناميات كثيرة لا يمكن اختزالها في تحليل سياسي أو اجتماعي بسيط في مقال واحد. فممداني ظاهرة اجتماعية بامتياز، يعيد للسياسة معناها بنقدية وابتكار. هو ظاهرة لأنه خلق قوة ما في هذه المدينة، ولا نعلم حتى الآن كيف ستؤول معالمها. ومع وتيرة حركته ونبض حضوره، يبدو أننا أمام شخصية تدرّس، حتى لو أخفقت لاحقاً. مجرد قدرته على اختراق آلة الكراهية التي أنفقت عليها المليارات، وجمع أولئك أنفسهم في خندق مشترك في قلب أكبر مدينة أميركية وأشدها توتراً وتنوعاً. هذا في حد ذاته عمل استثنائي. ا 

السؤال الأهم الذي تثيره حملة ممداني: ا

ما تبقى أن نراقبه ليس نجاحه أو فشله فحسب. ولا يهمني هنا أن نستمد الدروس منه. لدينا آلاف الدروس التي يمكن أن نتعلمها قبل أن نلجأ لتجربة ممداني. لكن المفارقة التي أستوقفتني في مشروعه هي المناورة السياسية التي تؤمن بتغيير الواقع من داخل النظام. فممداني يفتح النقاش مجدداً، هل يمكن أن نستحدث تغييراً من داخل إطار الدولة والنظام ومؤسساته، أو تبقى هذه استراتيجية مستحيلة؟

هذا يطرح سؤالاً آخر: هل سياسة ومناورة ممداني أنتجت مساحة رمادية فيها معنى أن نقاوم من الداخل؟، وبها يمكن أن ننتج أدوات مغايرة للنضال؟ أظن أن هذا هو السؤال/ الدرس الأهم الذي يمكن أن نستقيه من ممداني، لكن، وحتى حين، نحن لا نملك جواباً قاطعاً بالسلب أو الإيجاب. ا

صحافي لبناني