وبما أننا في ذكرى مولد السيد البدوي (رضي الله عنه) حالياً، فإن سؤالاً لا بد من أن يُطرح: لماذا كان السيد البدوي أشهر الأولياء في مصر قاطبة؟. ولأنني من طنطا أستطيع القول أني عايشت واقع مولده لسنوات. في المولد يكون الفرح وتكون المسرّات، و"مبيكنش هناك مكان لموضع قدم بالشارع" من ازدحام الناس. فلماذا يحب أهل مصر هذا الرجل؟ وما طبيعة علاقتهم به؟
من البدوي إلى الملثم: حكاية الرباط والمدد
بادئ ذي بدء، ثمة نقطتان مهمتان بالنسبة لي عند ذكر السيد البدوي (رضي الله عنه). النقطة الأولى، وهي الأهم بالنسبة لي، هو ما ينتابني كل عام من ذكريات في تشرين الأول/ أكتوبر عن طنطا. ذكريات طفولتي عن طنطا غريبة ومكتظة. لم أكن أقدر على التنفس ولا حتى فتح عيني، بسبب حرق "قش" الأرز بعد الانتهاء من موسم حصاده في مثل هذه الأيام، وفي الآن عينه لم أكن أجد موطئ قدم لي في الشوارع من ازدحام الناس في ذكرى مولد البدوي.ا
وأغلب الظن أن ذكرى مولد السيد البدوي (رضي الله عنه) حالياً لا علاقة لها بذكرى مولده الحقيقي. فقد يكون أن اختار الفقراء هذا التوقيت ليناسب انتهاءهم من جني الأرز. الأرز هو المحصول الزراعي الأساسي عند غالبية فلاحي مصر. لذا، توافقت الناس، من دون اتفاق في ما بينها، على الاجتماع كل عام عند هذا الولي الصالح إحياءً لمولده وجباية لزكاة خِراج محاصيلهم، وإيفاءً لنذور يقدمونها لصندوق أوقاف المسجد الأحمدي. وللمسجد الأحمدي حكاية مع أهل طنطا. في المسجد مدرسة لتعليم القرآن، يأتيها الناس من كل العالم لتعلم القرآن على القراءات العشر. ومنه تخرج كل أعلام مدرسة التلاوة المصرية.ا
وبما أننا في ذكرى مولد السيد البدوي (رضي الله عنه) حالياً، فإن سؤالاً لا بد من أن يُطرح: لماذا كان السيد البدوي أشهر الأولياء في مصر قاطبة؟. ولأنني من طنطا أستطيع القول أني عايشت واقع مولده لسنوات. في المولد يكون الفرح وتكون المسرّات، و"مبيكنش هناك مكان لموضع قدم بالشارع" من ازدحام الناس. فلماذا يحب أهل مصر هذا الرجل؟ وما طبيعة علاقتهم به؟.ا
والسيد البدوي، هو أحمد بن علي بن يحيى البدوي الحسيني الفاسي (1199 - 1276). إمام يُعتبر عند كثير من المتصوفة ثالث أقطاب الولاية الأربعة (وهم: الشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ أحمد الرفاعي، والشيخ أحمد الدسوقي، والشيخ أحمد البدوي) وإليه تنسب الطريقة البدوية ذات الراية الحمراء. لُقب بالبدوي بسبب تغطية وجهه باللثام. وله الكثير من الألقاب أشهرها: شيخ العرب، والسطوحي.ينتهي نسب البدوي من جهة أبيه إلى الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهم). عاش البدوي بمدينة فاس بعد مولده، ثم هاجر إلى مكة مع أهله وهو ابن السابعة، استغرقت الرحلة أربع سنوات، منها ثلاث سنوات أقامها أهله بمصر. وعندما بلغ الثمانية والثلاثين من عمره، سافر إلى العراق مع شقيقه الأكبر، ثم عاد بعد عام واحد إلى مكة، ثم إلى مصر في نفس العام، وتحديداً إلى مدينة طنطا، لتكون الأخيرة موطن انتشار طريقته.ا
وكان أول ما يلفتني في ذكرى مولده قول "الطنطاوية" - والمصريين عموماً -، "يا بدوي هات الأسرى" أو "البدوي جاب الأسرى". ومع أن الموضوع تحوّل إلى أسطورة شعبية تتناول خوارق "سيدنا البدوي"، وأنه جلب أسرى مصريين بمعجزة،إلا أن للحكاية أصل واقعي.ا
القصة الحقيقية أن السيد البدوي، ومعه جمع من مريديه ودراويشه، كانوا قد خرجوا للجهاد ضد الحملة الصليبية السابعة على مصر بين عامي 1249 – 1250 (الحملة التي قادها لويس التاسع ملك فرنسا)، بعد أن أوشكت الحملة الصليبية على احتلال مصر كلها. ولولا المقاومة الشعبية التي تشكّلت من دراويش الصوفية، لمااستطاع المماليك من الصمود ومن ثم أسر لويس التاسع نفسه. كانت تلك الحملة مفصلية في انتهاء سلطة الايوبيين، التي لم تستمر طويلاً، وقيام سلطة المماليك، ومن ثم بزوغ نجم قطز وبيبرس بما أنهم كانوا أمراء حرب في الجيش الذي قاوم الصليبيين.ا
الشاهد هنا، أن اول من دعا إلى تكوين مقاومة شعبية من المصريين كان مشايخ الصوفية وعلى رأسهم السيد البدوي الذي ذهب مع مريديه من طنطا ودمياط لقتال الغزاة، وأنه أول من حرر أسرى المسلمين من قبضة الحملة الصليبية. تقول المرويات أنه وبعد فك أسر المسلمين عاد السيد البدوي إلى طنطا ومعه كل ما غنمه من سلاح وعتاد صليبي. ومن هنا، جاءت عبارة "يا بدوي هات الأسرى"، ولهذا زار لاحقاً الظاهر بيبرس السيد البدوي في طنطا لسؤاله عما يأمر. قال بيبرس: "تمنى عليّ يا ولي الله"، فأمره السيد البدوي باغلاق الخمارات والكرخانات ليس إلا.ا
الحالة الاجتماعية فترة حياة السيد البدوي:ا
عموماً، ينبغي علينا تذكر الجو العام في مصر في ذلك الوقت، التي عاش فيها عدد هائل من الأولياء والعلماء وجامعي الولاية والعلم، مثل العز بن عبد السلام الذي جاهر بمواجهة الملك الكامل محمد بن العادل، بعدما باع الأخير القدس للصليبيين، وتنازل عنها لهم بعدما حررها عمه صلاح الدين، مقابل وعد من الصليبيين بمساعدته ليواجه ابن عمه، من أجل السيطرة على عرش مصر والسلطنة الايوبية.ا
وبخلاف الكثير مما نعرفه عن العز بن عبد السلام. هو لم يكن صوفياً بادئ الأمر، وما كان يرى في الصوفية غير دروشة "مالهاش لازمة ولا داعي". وظل على ما هو عليه إلى أن قابل سيدنا أبي الحسن الشاذلي (رضي الله عنه)، فخرج من عنده وهو يقول إن في كلام الرجل أثر من كلام النبوة. عندها فقط، صار العز بن عبد السلام شاذلي الطريقة.ا
مرة جديدة، لم يكن "سيدي" الشاذلي مجرد صوفي فحسب، بل كان مجاهداً بدوره، فشارك في معركة المنصورة كتلميذ للمرسي ابو العباس بعد أن كف بصر الأخير وعمي في آخر حياته.ولهذا السبب، يقول الإسكندرانية "اقروا الفاتحة لأبو العباس يا اسكندرانية يا اجدع ناس". العبارة تلك منبعها فزعة أهل الطريقة الشاذلية ضد حملة لويس التاسع، وبما أنهم كانوا في ذلك الوقت في "كوم الدكة" والعطارين بالاسكندرية فقد قال المصريين عنهم يا "اسكندرانية يا أجدع ناس".ا
هنا، ثمة نقطة مهمة لا يتناولها الكثيرون عند تناولهم لتاريخ الصوفية. وهي أن "سيدي" الشاذلي كان من المرابطين الذين رفضوا سلطة الدولة المرابطية، وكان مثله مثل "سيدي" المرسي أبو العباس الذي ترك مرسيليا بإسبانيا - لا لمشكلة مع الإسبان، بل لمشكلة مع دولة الموحدين نفسها -، إلى أن التقيا معاً في تونس، وكان الشاذلي بصحبة خادمه ماضي ابو العزائم، فدخلوا الاسكندرية سوياً. القصد من سيرتهم، ها هنا، لفت الانتباه إلى هذه الجنبة من الصوفية، وإلى دورهم - الذي قلما تناولته الكتابات الصوفية - في إدخال نظام المرابطة الجهادية الصوفي/ الطرقي عند دخولهم لمصر. فما من سبب لتمركزهم في الإسكندرية إلا لكونها ثغر الجهاد الأعلى آنذاك.ا
من البدوي الملثم إلى ملثم فلسطين:ا
هكذا، وعلى امتداد الثغور المصرية كان أولياء الصوفية يقيمون الرباط للمجاهدين من أهل الطريقة. وهو ما ظل حاضراً في ثقافة المصريين وعموم الناس في منطقتنا إلى اليوم. ففكرة الرباط تلك هي التي ألهمت عمر المختار غرباً، وعز الدين القسام شرقاً، وصولاً إلى جهاد أسيادنا وتاج رؤوسنا في فلسطين اليوم. وإذا ما أراد أحدنا فهم كلام الملثم (رضي الله عنه أن كان حياً أو شهيداً) عن العقد القتالية للمجاهدين في غزة، ما عليه غير التعرف على نظام الرباط الذي أقامه الشيخ عبد الله ياسين في موريتانيا والمغرب العربي، والذي سمّيتْ عاصمة المغرب حالياً بالرباط تكرماً بنظام رباطه، والذي حاول سميّه الراحل الشيخ عبد السلام ياسين مؤسس جماعة العدل والإحسان إحياءه في المغرب حالياً. وهو النظام نفسه الذي كان قد أدخله "سيدي" الشاذلي، والمرسي أبو العباس، إلى مصر من قبل.ا
ومن الملحوظ أيضاً أن الطريقة الشاذلية لم تكن طريقة صوفية فحسب، بل مدرسة علمية كاملة، نمت فيها ذرى العقلنة الإسلامية. ففي تلك الفترة عرف العالم الإسلامي جهداً عقلياً لا يُستهان به. وكانت الشاذلية محور مدار ذلك الجهد. فبالإضافة إلى العز بن عبدالسلام، كان من تابعي سيدي الشاذلي سيدس ياقوت العرش، وابن عطاء الله الاسكندري، الذي تعتبر مؤلفاته مثل "الحِكم العطائية" و"التنوير في إسقاط التدبير" ذروة خلاصة حكمة التصوف. وكان ممن رباهم سيدي المرسي أبو العباس إبن الحاجب صاحب "المختصر"، وابن الصلاح صاحب "تأصيل مصطلح الحديث" والحافظ المنذري، والإمام محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري، المعروف بـ"ابن دقيق العيد" (1228 - 1302)، ومن بعد هؤلاء بقليل الحافظ العراقي، وسيدي ابراهيم الدسوقي. والدسوقي هذا، هو أول من تولى منصب شيخ الإسلام في عهد الظاهر بيبرس، بعد أن ألح عليه الظاهر بيبرس بتولي منصب شيخ الإسلام، فقبل المنصب شريطة أن يهب مخصصاته للفقراء، حتى إذا ما توفي الظاهر بيبرس اعتزل منصب شيخ الإسلام ورفض توليه للسلطان قلاوون. ولعل من بركة زماننا أن أحد أحفاده، وهو الشيخ عبد العزيز الشهاوي، صار شيخ الشافعية بمصر والعالم.ا
عودة للأصل. ما أردت قوله أنه لعل في قيام السيد البدوي بأمر الجهاد في سبيل الله في وقت كانت مصر توشك أن تقع بيد الصليبيين، ومع صلاح حاله وتقواه وذيوع كراماته، لعل في كل ذلك ما يجعل من سيدي الأعلى أثراً والأكثر انتشاراً.وفي هذا بركة من الله وأثر من الولاية التي نشاهدها بأعيننا.ا
اليوم، وفي ذكرى مولد السيد البدوي هذا العام، يتجاوز عدد زائري طنطا في مولده المليون.يزحف المحبون في مولده إلى طنطا، من الإسكندرية إلى أسوان، ومن أقاصي بلدان أفريقيا إلى أواسط بلدان آسيا يتقاطر المحبون في ذكرى مولده. وقد لا يعرف هؤلاء جميعاً (على الأغلب) أي تفاصيل مما سبق، وعلى الأغلب كذلك قد لا يعرف من يقول "يا بدوي هات الأسرى" شيئاً عن الموضوع، وفي ظل "هبد وعجن" خصوم الصوفية من السلفيين الذين وصل بهم الأمر إلى التشكيك بوجود السيد البدوي (لا يدرون أنهم يستخدمون حرفياً نفس منهجية المستشرقين في التشكيك بتاريخية وجود سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نفسه)، وانتشار الخرافات من الجهة الأخرى، ما يمس بهذه الاحتفائية الروحانية الحسنة. وعلى الأغلب قليل جداً من يعرف شيئاً عن "سيدنا" البدوي كشخصية تاريخية، وما زال هذا الولي الصالح يزيد الله في ميزان حسناته كل عام.ا
Related Posts
باحث وكاتب مصري