يبدأ فيلم "ذا مان فروم إيرث" (2007) من حيث تنتهي معظم الأفلام: لا حدث، لا حركة، لا صراع خارجي. المشهد عبارة عن غرفة مغلقة، ومجموعة من الأكاديميين يحيطون بزميلهم "جون أولدمان"، الذي يقرر فجأة مغادرة عمله بعد 10 سنوات دون سبب واضح
هشاشة اليقين وتحوّلات الحقيقة: قراءة في فيلم ذا مان فروم إيرث
يبدأ فيلم "ذا مان فروم إيرث" (2007) من حيث تنتهي معظم الأفلام: لا حدث، لا حركة، لا صراع خارجي.ا
المشهد عبارة عن غرفة مغلقة، ومجموعة من الأكاديميين يحيطون بزميلهم "جون أولدمان"، الذي يقرر فجأة مغادرة عمله بعد 10 سنوات دون سبب واضح.ا
لكن خلف هذا القرار البسيط تكمن واحدة من أكثر التجارب الحوارية جرأة في السينما المعاصرة: حوار يتخذ من السرد التاريخي ذريعةً لامتحان العقل الإنساني أمام الزمن والمعرفة والإيمان.ا
ويضع الفيلم المشاهد أمام الزمن كخبرة وجودية لا كمعيارٍ حسابي؛ الزمن هنا هو مادة الفكر، لا مجرد سياقه، أو هو، كما يقول مارتن هايدغر، "ليس شيئاً يمرّ، بل هو ما نصير إليه".1ا
لا يُقاس الفيلم بحبكته، بل بأسئلته. فهو لا يقدّم قصة بقدر ما يقدّم معملاً فكرياً، تجربة فلسفية، يتقاطع فيها التاريخ بالأنثروبولوجيا، والخيال باللاهوت، والعلم بالإيمان.ا
وبينما تتكشّف رواية "جون" عن كونه عاش آلاف السنين وشهد تحوّلات الحضارات، تبدأ شخصيات الفيلم، ومعها المشاهد، رحلة في "هشاشة اليقين الإنساني": كيف يمكن لكلمةٍ واحدة، أو فرضيةٍ مختلفة، أن تُربك منظومة الاعتقاد المستقرة
وتحوّل الثابت إلى سؤال، والمقدّس إلى احتمال؟ا
هشاشة اليقين والعقل الشكّاك
يقدّم الفيلم نموذجاً نادراً في السينما للحظة اصطدام العقل بالدوغما. فمجرد أن يشرع البطل في سرد روايته عن كونه قد عاش 14 ألف عام، تبدأ القناعات الراسخة لدى أصدقائه بالاهتزاز، ليس لأن قصته مقنعة بالضرورة، بل لأنها ممكنة، وهذا وحده كان كافياً لإحداث الزلزلة.ا
وهنا تتجلّى الفكرة الأعمق: أنّ العقل الإنساني، بتكوينه، لا يتّسق مع اليقين المطلق، فهو بطبيعته كائنٌ متحوّل، يميل إلى الشكّ والسؤال أكثر مما يميل إلى الاطمئنان، وهو ما يعبر عنه أبو حامد الغزالي في سياقٍ مشابه، بقوله إنّ "الشكّ هو أصل اليقين، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يُبصر، ومن لم يُبصر بقي في عمى التقليد".2ا
فاليقين بالنسبة إلى الإنسان ليس حالة دائمة، بل هو هدنة مؤقتة في مسار التفكير، لحظةُ راحةٍ بين موجتين من الشكّ، تمنحه القدرة على الاستمرار في البحث لا على التوقف عند الإجابة. فـ"الإنسان كائن يرفض أن يكون ما هو عليه".3ا
الفيلم، بهذا المعنى، هو تجربة فكرية حول مرونة الوعي: كيف يمكن لسرديةٍ واحدةٍ، غريبةٍ وغير مألوفة، أن تكشف مدى هشاشة أنظمتنا المعرفية، مهما بدت عقلانية أو علمية أو دينية.ا
فكلّ يقينٍ، مهما اشتدّ رسوخُه، يحمل في داخله بذرة شكّه؛ وما إن تُسقى بمعطى جديد حتى تبدأ بالتشقّق، و"ذا مان فروم إيرث" لا يهدم اليقين، بل يعيده إلى طبيعته الأصلية: نتيجة متغيّرة لرحلةٍ من التساؤل، رحلة لا يبلغ فيها الإنسان الحقيقة إلا ليبدأ منها نحو حقيقةٍ أخرى.ا
الحقيقة بين الموضوعية والنسبية
في البنية الحوارية للفيلم، لا تظهر "الحقيقة" كقيمةٍ مطلقة، بل كفعلٍ مستمر من الكشف والتأويل. كل شخصية تحمل أدواتها الخاصة لفهم الواقع: العالِم يبحث عن البرهان، والمؤمن يستند إلى الإيمان، وعالم الأنثروبولوجيا يفسّر عبر التاريخ، أما البطل "جون" فيضع الجميع أمام احتمالٍ يربكهم جميعاَ: أن الحقيقة ليست ما نعرفه، بل ما لم نجرّب بعد أن نشكّ فيه.ا
الحقيقة، بهذا المعنى، هي "الفهم البشري الآني للواقع الخارجي"؛ تعبير مؤقت عن قدرة العقل على قراءة ما يراه في لحظته، مع وعيٍ بأنّ رؤيته نفسها ستتبدّل مع تغيّر الضوء والمعطيات.ا
تشبه الحقيقة هنا وتداً في الغابة عند الغسق؛ تبدو في البداية شيئاً غامضاً، ومع انبلاج الفجر يتّضح أنه شجرة، ثم مع اقتراب النهار نكتشف أنها شجرة خوخٍ مثمرة. كلّ هذه الإدراكات صحيحة في لحظتها، لكنها ليست الحقيقة الأخيرة؛
إنها مراحل من الوضوح، لا قفزات في العمى.ا
فـ"الحقيقة ليست ما يُكتشَف بل ما يُستنار به، وكل لحظة وعي هي نافذة جديدة على الشيء ذاته".4ا
وفي مشاهد الفيلم، تتجلّى هذه الفكرة من خلال تنوّع ردود الشخصيات: كلٌّ منهم يملك يقينه الخاص، لكن حين تُلقى أمامهم رواية جديدة، يبدأون جميعاً في إعادة تعريف "الواقع". فالعالِم يتردد، والمتدين يغضب، والمفكر يشكّ، وكلٌّ منهم يواجه حدود زاويته.
وهكذا يصبح الحوار بين الشخصيات مرآةً لتاريخ الوعي الإنساني نفسه، حيث يتبدّل الفهم كلما ازداد الضوء، وحيث لا يُلغى اليقين القديم، بل يُعاد تفسيره في ضوءٍ أوسع.ا
تطوّر القيم والأخلاق
وكما تتبدّل الحقيقة بتبدّل المعطيات، تتطور القيم الأخلاقية مع تغيّر حاجات الإنسان وتحدياته.ا
فالأخلاق ليست منظومة جامدة، بل هي استجابة حية للواقع؛ وكل حقبة تُعيد تعريف الخير والشر وفق ما تواجهه من أسئلة ومخاطر. ومع ذلك، تبقى المبادئ الكبرى – كالخير والعطاء والغفران – كالأوتاد الراسخة في أرض الوعي الإنساني،
تتغير حولها التفاصيل، وتثبت هي كجهاتٍ دلاليةٍ لا تفقد معناها.ا
فالخير والشر، بهذا المعنى، ليسا ضدين مطلقين، بل عمليتان متقابلتان في مسار التطور التاريخي: حين يتقدّم أحدهما يتعقّد الآخر، فكلما ابتكر الإنسان أشكالاً أسمى من الخير، ابتكر أنماطاً أكثر خفاءً من الشر.ا
وهذا ما نبّهت إليه حنّا أرندت في كتابها، تفاهة الشر، حين رصدت كيف حوّلت البيروقراطية الحديثة القتل الجماعي إلى "وظيفة إدارية"، يُمارس فيها الشرّ ببرودٍ وبدون وعيٍ بالذنب، فأصبح الشرّ تفاهةً لا بطشاً، مجرد أداء للواجب، لا اختياراً للدم
وقد لخّصت أرندت مأساة ذلك العصر بقولها:ا
ا"المأساة الحقيقية ليست في أن الناس أشرار، بل في أن الشرّ يمكن أن يصدر عن بشر عاديين يفكرون بطريقة خاطئة".5
ثم جاء زيجمونت باومن ليكمل الصورة في حديثه عن الشرّ السائل، ذلك الشرّ الذي لم يعد مؤسّساً داخل الدولة فحسب، بل تسلّل إلى البنى الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية، حتى غدا لامرئياً، متدفقاً في تفاصيل الحياة اليومية.ا
وفي عودة لـ"ذا مان فروم إيرث"، فهو على بساطته الظاهرية، يلتقي مع هذه الفكرة من زاوية مختلفة: حين يواجه الأصدقاء رواية "جون"، لا يظهر الشرّ في فعلٍ أو نية، بل في العجز عن الإصغاء، والخوف من المجهول، والدفاع الغريزي عن الثبات. هكذا يصبح الشرّ في هذا السياق ليس نقيض الخير، بل نقيض التفكير ذاته.ا
وفي الختام لا يسعى "ذا مان فروم إيرث" إلى تقديم إجابة، بل إلى تحرير الحقيقة من وهم اليقين. فهو لا يطمئن المشاهد إلى حقيقةٍ جديدة، بل يدفعه لأن يعيد النظر في كل حقيقةٍ يظن أنه يمتلكها.ا
وفي عالمٍ يتكاثر فيه اليقين مثل البضائع، يذكّرنا الفيلم بأنّ اليقين ليس غاية التفكير، بل استراحته المؤقتة. كل يقينٍ يولد من رحم الشكّ، وما إن يستقر حتى يبدأ في التحلّل، ليفسح الطريق لرحلةٍ جديدة من التساؤل والاكتشاف.ا
ويبدو أن ما قاله، كارل ياسبرز، يمكن أن يكون خير خاتمة لهذا المسار: "ليس في الإنسان ما هو نهائيّ؛ إنّه مشروع يتجدّد في كل لحظة من وعيه بذاته".6ا
هكذا يقدّم الفيلم، في جوهره، تأمّلًا في الإنسان ككائن معرفي متحوّل: ليس من مهمّته أن يبلُغ النهاية، بل أن يواصل السير. فالوعي، مثل النهر، لا يثبت مرتين في القالب نفسه، وما دام الإنسان قادراً على الشكّ، فهو يعيش في صلب الحقيقة المتحركة، لا على هامشها، ويظلّ، مهما أرهقته الأسئلة، أقرب إلى جوهرها من أولئك الذين توقّفوا عند أول يقينٍ وسمّوه الحقيقة بأشكالها المطلقة والمقدسة.ا
المراجع
ا[1] مارتن هايدغر، الوجود والزمان، ترجمة عبد الغفار مكاوي، دار النهار، بيروت، 1980.ا
ا[2] أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، دار الفكر، بيروت، 1992.ا
ا[3] جان بول سارتر، الوجود والعدم، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الآداب، بيروت، 1965.ا
ا[4] هنري برغسون، التطور الخلاق، ترجمة جميل صليبا، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1983.ا
ا[5] حنّا أرندت، تفاهة الشر: أيخمان في القدس، ترجمة عمر حافظ، دار الساقي، بيروت، 2015.ا
ا[6] كارل ياسبرز، مدخل إلى الفلسفة، ترجمة فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998.ا
Related Posts
كاتب وإعلامي لبناني