Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

يحاول هذا المقال تتبع المحطات الرئيسية في مسار قضية جورج إبراهيم عبد الله، ليس فقط كسرد تاريخي، ولكن كشهادة على أن هذه العقود الأربعة لم تكن فراغاً في حياته

بشار اللقيس

جورج عبدالله وسنوات المعنى

"اعتقلت من مكان عملي، حيث كنت قبل دقائق من ذلك قد حضّرت فنجان نسكافيه، واستعددت لتناول رغيفين، أحدهما بالزيت والزعتر، والآخر باللبنة، كانت أمي قد حضّرتهما لي. عندما قضمت من عروسة اللبنة، كما تسمونها في لبنان، قضمة واحدة، وقبل أن أتمكن من بلعها، كنتُ ملقىً على الأرض ومقيداً. في هذه اللحظة، أوّل (فسّر) عقلي المشهد بالكامل. والعقل في لحظة الصدمة مُخادع، إذ لخّص المشهد بفقداني رغيف اللبنة الذي بقي مذاقه يُذكرني بوالدتي لا بالاعتقال، الذي إن كان في الزمن العادي لحظة، فإنه في زمن السجون لحظة امتدت حتى الآن 34 عاماً."

 

الأسير الشهيد وليد دقة[1]

 

***

من أكثر الأمور إثارةً للألم والغضب تتبع مسار قضية جورج عبد الله منذ اعتقاله في فرنسا. فذلك التوقيف الذي حصل في ليون يوم 24 تشرين الأول/ أكتوبر 1984 بتهمة حمل وثائق مزورة (التي تبين لاحقاً أنها صادرة رسمياً من الدولة الجزائرية)، كان بمثابة البوابة التي أُغلقَت خلفه ليفتح أمامه نفقاً مظلماً من الاعتقال امتد لأربعة عقود كاملة. أربعون عاماً من العمر المُهدر بعيداً عن أهله ومجتمعه، محروماً من أبسط حقوقه في حياة كريمة وإنتاج فكري وسياسي.

في هذا السياق، يحاول هذا المقال تتبع المحطات الرئيسية في مسار قضية جورج إبراهيم عبد الله، ليس فقط كسرد تاريخي، ولكن كشهادة على أن هذه العقود الأربعة لم تكن فراغاً في حياته، بل كانت فصلاً مليئاً بالنضال والصمود والأمل. تماماً كما فعل الأسرى الفلسطينيون، حوّل جورج عبد الله سجنه إلى ساحة جديدة للمقاومة، مؤكداً أن الاعتقال لم يكن نهاية الطريق، بل بداية مرحلة نضالية مختلفة داخل أقبية السجون الفرنسية.

قد يشار إلى تاريخ 14 كانون الثاني/ يناير 2013‏ إلى كونه أحد أهم التواريخ في قضية الأسير جورج إبراهيم حيث فيه صدر قرار بالافراج مع الترحيل وفيه احتفل لبنان شعبياً ورسمياً بهذا القرار. لكن في العودة إلى 23 آذار/ مارس 1985‏ نكتشف أن الأسير جورج عبدلله كان أقرب للحرية من أي وقت مضى، حين أقدمت "الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية –FARL"‏ ‏على ختطاف جيل سيدني بيرول (الملحق الثقافي الفرنسي في لبنان) ‏في طرابلس لمبادلته بجورج عبد الله. وبعد ‏مفاوضات وعدت فرنسا الجزائر بالإفراج ‏عن الأسير لكنها تحايلت على الصفقة وأبقت جورج عبد الله في السجن بعد استلامها لجيل سدني. ويقول الرئيس السابق للاستخبارات الفرنسية إيف بونيه "ذهبت الى الجزائر وخضنا مفاوضات صعبة للغاية، وتعهّدت باسم الحكومة الفرنسية لرئيس الأمن العسكري الجزائري العقيد لكحل عياط بالإفراج عن عبدالله بعد الافراج عن بيرول، بعدما حصلت على تعهد سياسي بذلك من وزيري الداخلية والخارجية الفرنسيين. ولكن، للأسف، أخلّت فرنسا بتعهدها ولم تطلق سراح عبدالله. ولاحقاً أثقل ملفه القضائي بأدلة تدينه، ما أدى الى محاكمته وصدور حكم بسجنه مدى الحياة".

وبعد ذلك وفي 1آذار/ مارس 1987‏ حوكم المناضل جورج عبد الله  بتهمة التواطؤ في أعمال "إرهابية". ‏وصدر بحقه قرار بالسجن المؤبد. ورغم فظاعة هذا الحكم و"لاشرعيته" إلا أن الأسير كان قد أنهى الحكم المؤبد منذ عام ‏1999،‏ وكان يحق له قانونياً ان يفرج عنه وأن يعود إلى بلده منذ 26 عاماً. إلا أن النظام الفرنسي المتواطئ مع العدو الصهيوني والذي يسعى إلى اسمرار هيمنتة الاستعمارية استخدم قضية المناضل جورج عبدلله كورقة سياسية وكذلك لمعاقبة نهج مقاومة كامل كان قد تشكل منذ نهاية ستينات القرن الماضي وهو الذي يتلخص في شعار القائد وديع حداد "وراء العدو في كل مكان".

منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2003‏ بدأت رحلة المناضل عبد الله مع طلبات الافراج المشروط بمغادرته فرنسا، وكانت قد قررت منذ هذا التاريخ محكمة Pau الإفراج عنه بتاريخ 15 ‏كانون الأول/ ديسمبر 2003 بشرط مغادرته فرنسا، إلا أن محكمة الاستئناف التي عقدت في بدايات 2004 رفضت الإفراج المشروط وأبقت عليه في السجون دون تهمة. وفي شباط 2005 قدم الأسير عبدالله طلباً في الإفراج. ومع التأجيلات وظروف الاعتقال السيئة كان قد تعرض الأسير جورج عبدلله لجلطة دماغية وأمضى أياماً في ‏المستشفى بتاريخ 26 نيسان/أبريل 2005‏، ورغم هذا رُفضت قرارات الأفراج المشروط، وكذلك طلب الإفراج الثالث في شباط/ فبراير 2006 ‏بسبب "عدم تغيير قناعاته ضد الإمبريالية ‏والصهيونية"، وكذلك طلب الإفراج الرابع في شباط/ فبراير 2007، وطلب الإفراج الخامس في تشرين الأول/ أكتوبر2007‏.

لجنة داتي:

عام 2008 تم إقرار قانون المعروف باسم "قانون داتي"، والمتعلق بالإفراج عن المعتقلين من أصحاب الأحكام الطويلة. قضى هذا القانون بخضوع السجين المعني بالإفراج المشروط إلى لجنة متعددة الاختصاص لتقييم وضعه النفسي والعقلي وتقدير مدى خطورته الجرمية. ومع أن هذه اللجنة تم تأسيسها لقياس مدى قابلية مجرمي الاغتصاب والقتل وغيرها من الجرائم لإعادة ارتكاب نفس الجريمة فإنه تم تطبيق مجال عملها على المعتقلين السياسيين. وهذا ما تم تطبيقه على جورج عبدالله ثم غيره من المعتقلين السياسيين. وفي آب 2008 تم اخضاع المناضل جورج عبدالله لمدة 6 أسابيع للمراقبة النفسية في سجن فرين. وأقرت اللجنة أنها لا تدعم طلب اطلاق السراح وتطالب اللجنة بالابقاء عليه في السجن. ورغم أن لهذه اللجنة صفة استشارية عند القضاء إلا أنه اعتُمدت قراراتها التي تدعي أنه ما يزال "مريضاً" بمواقفه التقدمية والوطنية. وتزامن انعقاد لجنة داتي مع قضية أخرى تمثلت في موضوع ضرورة أن يخضع الأسير جورج عبد الله لفحص DNA ورغم أن الأسير رفض الخضوع للفحص باعتباره فحصاً سياسياً بطلب من المخابرات الأمريكية إلا أن القضاء وضع الفحص كعقبة وقرر محاكمته بالسجن 3 أشهر قابلة للتجديد لرفض الخضوع. إلا أن الأسير جورج عبدالله كان قد انتصر قضائياً في 20 أيار/ مايو 2010 على موضوع فحص الـDNA.

الحملة الدولية والإفراج المتأمل

في تاريخ 29 نيسان/ أبريل 2010‏، تشكلت الحملة الدولية لاطلاق سراح الأسير جورج عبدالله وتشكل مجموعات تضامنية ناشطة في كل من لبنان، الأردن، فلسطن المحتلة، تونس، فرنسا، بلجيكا، إسبانيا، الباسك، الأرجنتين، وعدد من دول العالم. كذلك حملت قضية الأسير جورج عبدالله الحركات الشعبية اليسارية ومؤسسات حقوق الإنسان وكذلك مجمل الحركات والمجموعات التي تطالب في الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين مثل "شبكة صامدون للدفاع عن الأسرى الفلسطينيين" والتي كانت قد تشكلت مع إضراب الشيخ الشهيد خضر عدنان عن الطعام عام 2011. وكذلك اعتبر الأسير عبدالله ذاته كجزء من قضايا الحركة الأسيرة الفلسطينية فوجّه رسائل عديدة إلى قادة الحركة الاسيرة مثل رسائله لأحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكذلك للقائد الشهيد وليد دقة، وأيضاً شارك في الإضرابات المتكررة عن الطعام تضامناً مع الأسرى الفلسطينيين، كان آخرها في تشرين الأول 2022 عندما أعلن 30 أسيراً في سجون العدو الإسرائيلي، الإضراب المفتوح عن الطعام رفضاً لاستمرار اعتقالهم الإداري. وكذلك شكلت الحملة الدولية لإطلاق سراح جورج عبد الله أداة مهمة في خلق شبكات التضامن العالمية وكذلك تنظيم الأنشطة الاحتجاجية والثقافية. وفي عام 2021 انتج الفيلم الوثائقي "فدائي – كفاح جورج عبدالله"[2] (من إنتاج Vacarmes films) من مجموعة من صنّاع الأفلام الوثائقية الملتزمين سياسياً بمحاربة كل أشكال الهيمنة. والمهم في هذا الفيلم أنه ثمرة جهود كبيرة على مستوى السردية التي تبدأ بالحديث عن تاريخ القضية الفلسطينية منذ بدايات القرن العشرين وصولاً لقضية الأسير جورج عبدالله وكذلك يركز الفيلم على نضال الشعب الفلسطيني في قطاع غزة حيث كانت في تلك الفتر تخاض معارك مسيرات العودة وكسر الحصار.

خاتمة: الإفراج المتأمل

لقد كان تعطيل قرار الإفراج عن المناضل جورج عبدلله مرات في مبررات قانونية وأخرى عبر الضغط السياسي المباشر-كما أظهرت وثائق ويكيليكس تدخل ‏وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في ‏تعطيل قرار الافراج عام 2013-. ‏ سبباً كافياً ومنطقياً لادخال اليأس في نفسية الأسير وكل الحركة التضامنية. إلا أننا عندما ننظر إلى رسائل المناضل عبدالله ونتحدث مع عائلته وأهله وأي شخص يتواصل معه، نعلم تماماً أن هذا العنف الذي تعرض له الأسير وكل الاحباط وسنوات السجن الطويلة لم تزد الأسير إلا ثباتاً وإصراراً على الاستمرار بنهجه السياسي المقاومة الجماعي التقدمي الرافض للهيمنة والظلم. قد يكون تاريخ 25 تموز 2025، وهو موعد الإفراج المشروط عن المناضل جورج إبراهيم عبدالله هو التاريخ الذي تنتهي فيه حكاية طويلة وثقيلة جداًعلى الأسير وعائلته فيها فقد أمه وأعز أصدقائه، وعمره وحياته العملية، لكن بالإفراج عن المناضل جورج عبدالله ستكون بداية جديدة نحو مسيرة مليئة بالنضال والإنتاج والأمل والحب.



[1]  من مقابلة مع صحيفة الأخبار اللبنانية: https://shorturl.at/DKxR1

رئيس تحرير صحيفة الخندق