اليوم، يُنظَر إلى المجتمعات غير الأوروبية كـ"تلاميذ" في مدرسة الغرب، عليهم أن يتعلّموا الدرس نفسه كي يصبحوا "حداثويين". الجامعات، ومناهج التنمية، ومؤسسات التمويل الدولية، وشركات التكنولوجيا، وصولاً الى العادات والتقاليد، جميعها تُعيد إنتاج الفرضية ذاتها: أن الغرب هو مقياس التقدّم - الغرب هو المعيار الصحيح للتطور البشري وأن الآخرين في حاجةٍ دائمة إلى اللحاق به
فهم الكولونيالية كحاجة سياسية وأخلاقية
وُلِد ما نسمّيه اليوم "العالم الحديث" من أربع وقائع كبرى حدثت تقريباً في الحقبة نفسها: الغزو الأوروبي للأميركيتين وما صاحبه من إبادة للشعوب وتدمير لمخطوطاتهم. تأسيس تجارة العبيد الأطلسية التي حوّلت ملايين الأفارقة إلى سلعة. طرد المسلمين واليهود من الأندلس مع إحراق مكتباتهم في أوروبا نفسها، ومحاكمات النساء المتهمات بممارسة السحر فأحرقن أحياء أمام الملأ. وإذا كان حرق الكتب في الأندلس أو مخطوطات الأزتيك والمايا في الأمريكيتين شكّل إبادةً للذاكرة المكتوبة للآخر، فإن حرق النساء داخل أوروبا نفسها كان الوجه الموازي: إبادة للذاكرة الحيّة، حيث عوملت أجسادهن كأنها مكتبات حيّة يجب محوها. في الحالتين نحن أمام قوة تسعى للهيمنة لا فقط على الأرض، بل على المعرفة ذاتها. بمعنى آخر، نحن إزاء قوة تواجه العالم بسؤال: من يحق له أن يعرف؟ وأي معرفة يُسمح لها بالبقاء؟ ا
هذه القراءة لوقائع التاريخ تجعلها حلقات مترابطة في مشروع واحد رسم ملامح النظام العالمي الحديث. فلم يكن هدف القوة الصاعدة في أوروبا آنذاك يقتصر على الثروات والموارد، بل هدفت أيضاً إلى إعادة تشكيل الذاكرة والمعرفة، حتى تحتكر موقعية "المرجع الوحيد للحقيقة". هنا يظهر ما يسمّيه المفكّرون "كولونيالية السلطة": منظومة تجمع بين السيطرة المادية والسيطرة المعرفية، بحيث تُصنَّف معارف الآخرين إمّا كخرافة أو كخطر يجب استئصاله (واليوم نرى الكثير من العلوم غير الغربية تصنف ببساطة "غير علمية"، "غير دقيقة" فتُستبعد تلقائيّاً). طبعا هذه الحاجة لإلغاء وإقصاء كلّ ما هو آخر من معرفة وعلوم ضرورية لتحقيق عالم حديث أوروبيّ الهيمنة. ا
شاركت كلّ أوروبا في صناعة الهيمنة، سيما مفكّريها، فوصف الفيلسوف هيغل أفريقيا والأمريكيتين بأنهما "خارج التاريخ"، ووضع كانط العقلانية فقط عند الأوروبيين الشماليين، مستبعداً كل من ليس رجلاً وليس أبيضا باعتبارهم دونيين. هذه الفلسفات تؤكد على مركزية الأوروبيين في صنع المعرفة وتباعا في صنع السردية. إذ لا يمكن ممارسة السيطرة المادية على العالم من دون السيطرة على المعرفة التي تحدد ما هو حقيقي، وما هو صحيح، وما هو مشروع. المعرفة والسلطة ارتبطتا ارتباطاً وثيقاً: السيطرة على ما يُسمح بمعرفته تبرر السيطرة على من يُسمح لهم بالعيش. ا
أمّا ديكارت، صاحب الكوجيتو "أنا أفكّر، إذاً أنا موجود"، فقد أسّس — من دون أن يدري ربما — أحد أعمدة الفكر الاستعماري الحديث . فهذه ليست مجرد قاعدة فلسفية حول الوعي والوجود، بل تحمل في عمقها تصوّراً معرفياً إمبريالياً للعالم. الكوجيتو تفترض أن الفاعل المفكر قادر على الوصول إلى معرفة شاملة تتجاوز الزمان والمكان والتاريخ، بمعنى آخر: يستطيع أن يعرف الحقيقة والواقع والأخلاق بشكل موضوعي وغير مرتبط بأي خصوصية أو سياق محدد. تماما مثل الله. غير أنّ هذه "العين الالهية" لم تكن متاحة لكل البشر، بل حُصرت ضمنياً في الرجل الأوروبي الأبيضحيث يضع الرجل الأبيض نفسه في موقع يشبه موقع الله، ويزعم القدرة على تحديد ما هو حقيقي وصحيح وما هو صالح لكل البشرية، والوحيد القادر على التفكير "العقلاني" متجاهلاً التاريخ والسياق والخصوصيات الثقافية للشعوب الأخرى. أي يصبح الرجل الأبيض هو مصدر المعرفة الوحيد، وهو معيار المعرفة الوحيد. وهو من يرى، بينما الآخرون يُرَى إليهم؛ وهو من يُفسِّر، بينما الآخرون يُفسَّرون. ا
ومع توسّع المشروع الاستعماري الأوروبي، تحوّل الكوجيتو من "أنا أفكّر، إذاً أنا موجود" إلى "أنا أحتلّ، إذاً أنا موجود". فإثبات الوجود صار مرهونا بالسيطرة على الآخر وإخضاعه. فالتفكير ذاته صار فعلاً سيادياً، والوجود تأكّد بالهيمنة. فالمعرفة لم تعد بحثاً عن الحقيقة، بل أداةً لإنتاج التفوّق وتبريره. وباسم "العقل" و"العلم" و"التقدّم"، جرى احتلال الشعوب وتدمير ثقافاتها وتجريدها من إنسانيتها. غدت الحداثة الأوروبية، في عمقها، مشروعاً لتأليه الذات الغربية: ذاتٌ ترى من موقع "عين الإله"، وتتصرف كما لو أنّ العالم خُلق ليُعرّف من خلالها. ا
ومع مرور الزمن تغيّر الخطاب، لكن جوهره بقي كما هو؛ فحين انتهى عصر الحروب الصليبية في مرحلة المسيحية الكونية، جاء عصر التنوير ليقدّم التوسّع نفسه بلغة "العقل" و"التمدن"، ثم جاء القرن العشرون ليعيد إنتاج الفكرة بلغةٍ أكثر تهذيبا: "التنمية" و"الحداثة". في كلّ مرة كان الغرب يغيّر مفرداته، لكنه يحتفظ بالموقع نفسه: مركز العالم، والمعلّم، والمرجع الأخلاقي والعلمي للبشرية. ا
وهكذا انتقلت كولونيالية السلطة من مرحلة الغزو بالسيف وإحراق المكاتب إلى مرحلة الغزو بالمناهج والمؤسسات، حيث تُمارَس الهيمنة اليوم عبر الاقتصاد والمعرفة والثقافة والعولمة، أو بالأصح: العولمة الأوروبية. ا
اليوم، يُنظَر إلى المجتمعات غير الأوروبية كـ"تلاميذ" في مدرسة الغرب، عليهم أن يتعلّموا الدرس نفسه كي يصبحوا "حداثويين". الجامعات، ومناهج التنمية، ومؤسسات التمويل الدولية، وشركات التكنولوجيا، وصولاً الى العادات والتقاليد، جميعها تُعيد إنتاج الفرضية ذاتها: أن الغرب هو مقياس التقدّم - الغرب هو المعيار الصحيح للتطور البشري وأن الآخرين في حاجةٍ دائمة إلى اللحاق به. هذه ليست مجرّد تفاصيل اقتصادية أو فكرية. هي امتداد مباشر للمنطق الكولونيالي القديم، الذي يقسم العالم إلى عاقِلٍ وناقِص عقل، متقدّم ومتخلّف، مُعلِّم وتلميذ. ولأن هذا التقسيم قائم على نزع الاعتراف بمعارف الآخرين، فإن أخطر ما ينتجه ليس الفقر أو التبعية الاقتصادية فقط، بل الفقر المعرفي والاغتراب الذاتي. فحين تُقنِع الشعوب بأن خلاصها لا يتحقق إلا عبر النموذج الأوروبي، تُفقِدها ثقتها بذاتها وبذاكرتها وبأنماط تفكيرها. هنا تكتمل الحلقة: "الهيمنة على المعرفة" لا تحتاج بعد ذلك إلى قمعٍ مباشر، لأن المستعمَر يبدأ في ممارسة القمع على نفسه، ويستبطن دونيته في مقابل صورةٍ مثالية عن "الإنسان الحديث" الذي صاغته أوروبا. ا
كتبتُ هذا المقال في محاولةٍ مني لأقول: إنّ فهم كولونيالية السلطة ليس تمريناً فكرياً ترفيّاً أو نقاشاً أكاديمياً مغلقاً، بل حاجةٌ ضرورية سياسياً وأخلاقياً. فهذه الفكرة لا تشرح الماضي فحسب، بل تفسّر حاضرنا أيضاً، إذ ما زالت آثارها تتسرّب إلى تفاصيل حياتنا اليومية من حيث لا نشعر. لقد زرعت فينا قرونٌ من الاستعمار قناعةً خفيّة بأن الغرب هو المعيار، وأنّ التقدّم لا يتحقّق إلا حين نُحاكيه: في منتجاتنا، في مدارسنا، في لغاتنا، وفي طريقتنا في التفكير. أصبحنا نقيس جودة حياتنا بما يراه الغرب متقدّماً، ونتّخذ من نظرته مرجعاً نحاكم به أنفسنا، حتى باتت عبارات مثل "الأوروبي أحسن" و"شغل برا" حقيقةً ضمنية في وعينا الجمعي. ا
وتظهر غزة اليوم كأوضح مرآة لهذا الخلل العميق. فحتى في لحظة الموت، نشعر أنّ علينا أن نُقنع الغرب بإنسانيتنا كي يُصغي. نبحث عن كلمة تضامنٍ من جامعة غربية، أو مقالةٍ في صحيفةٍ أوروبية كأنها صكّ اعترافٍ بوجودنا. نُرسل صور الضحايا إلى الإعلام الغربي، لأننا نعلم أنّ العالم لا يراها "حقيقية" ما لم تمرّ عبر لغته وعدسته، أو اذا لم تشبه "الغربي" بشكله. هذا التناقض الموجِع هو نتيجة مباشرة لقرون من تربية استعمارية جعلتنا نعتقد أنّ القيمة لا تُمنح إلا من الخارج، وأنّ الحقيقة لا تُصدّق إلا إذا نطق بها الأبيض. ا
إنّ التحرّر من هذا الإرث لا يعني فقط كسر قيودٍ سياسية، بل كسر القيود الذهنية التي تجعلنا نُعيد إنتاج التبعية بأنفسنا. حين ننبهر بالجامعة الغربية ونحتقر جامعتنا، أو نثق بالباحث القادم من أوروبا أكثر من زميلنا المحلي، أو نستهلك سلعة غربية ونعتبرها "أجود" لمجرد أنها غربية، فإننا نمارس شكلاً ناعماً من الاستعمار الذاتي. هذه نتيجة مباشرة لكولونيالية السلطة التي لم تكتفِ بالسيطرة على الأرض، بل سعت إلى إعادة تشكيل الذوق والخيال والمعايير.إنها جعلتنا ننظر إلى أنفسنا من خلال عيون الآخر، فصرنا نبحث عن قبول الغرب بدلاً من أن نبحث عن معنى ذواتنا الحقيقي. ا
مجدّداً، كتبت هذا المقال في محاولةٍ مني لأقول: إنّ فهم كولونيالية السلطة ليس تمريناً ترفيّاً، بل حاجةٌ ضرورية سياسياً وأخلاقياً. إنها تمكّننا من إدراك أن مشكلات اليوم مرتبطة بجذورٍ قديمة، وأنّ التحرر لا يكون بمجرد رفع أعلام الاستقلال، ما لم نفكّك البُنى العميقة للهيمنة: في الاقتصاد، والسياسة، والمعرفة. فالعالم ما بعد الكولونيالية ليس حلماً بعيداً، لكنه يحتاج إلى أناسٍ يجرؤون على التفكير خارج القوالب التي صاغها المستعمِر، وإلى من يملكون شجاعة أن يُعيدوا تعريف التقدّم والإنسانية والكرامة من داخل ذاكرتهم، لا من خلال مرآة الآخر. يحتاج إلى من يؤمنون أنّ المعرفة مقاومة، وأنّ استعادة صوتنا ووعينا هي الخطوة الأولى نحو أي تحرّرٍ حقيقي. وأنا أؤمن تماماً أنّنا، نحن الذين نقاوم من أجل أرضنا وكرامتنا، أكثر من هم قادرون. ا
Related Posts
باحثة في الشؤون الدولية تخصص مناهضة الاستعمار