هل كان اضطراب تعدّد الشخصيات موجوداً قبل القرن التاسع عشر؟ لا. ليس لأن أحداً لم يشعر بالعناء النفسي من قبل، بل لأن المرض بوصه مرضاً والمريض بوصه مريضاً لم يكن قد وُلدا بعد. يشير إيان هاكنغ (2013) إلى أنّ التجربة لا تخلق بالضرورة المفهوم، وأن وجود المعاناة لا يعني وجود فئة تُدرجها ضمنها
عن وهم الهويات وشخص اسمه نور
هل كان اضطراب تعدّد الشخصيات موجوداً قبل القرن التاسع عشر؟ لا. ليس لأن أحداً لم يشعر بالعناء النفسي من قبل، بل لأن المرض بوصه مرضاً والمريض بوصه مريضاً لم يكن قد وُلدا بعد. يشير إيان هاكنغ (2013) إلى أنّ التجربة لا تخلق بالضرورة المفهوم، وأن وجود المعاناة لا يعني وجود فئة تُدرجها ضمنها. ما يميّزه هاكنغ هنا ليس فقط الفرق بين "المرض" و"المريض"، بل بين الفرد كتجربة وبين الفرد كـ"موضوع مصنَّف" الذي أُنتج بزمان ومكان محددين وفي سياق مؤسسي ومعرفي معيّن. المفارقة هنا أن ثمة تصنيفات نعرفها اليوم (ذكي، ارهابي، فقير) هي بمجملها تصنيفات زمكانية؛ أي ولدت بتشكلات جدلية بين السلطة والمعرفة.ا
المقلق هنا، هو أن نقد هاكنغ للتصنيفات العلمية الغربية لم يُستكمل عربياً أو إسلامياً بنقد موازٍ للتصنيفات التي نتبنّاها نحن، في مجتمعاتنا، عن ذواتنا. أدعي أن هناك غياب شبه تام لتفكيك الهويات (الطائفية وغيرها) بوصفها منتجات خطابية ـ سلطوية (عنيفة). على العكس، الهوية تبدو اليوم شيئاً بمثابة المقدّس - قل الهوية من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا -.ا
يخلق تصنيف "تعدد الشخصيات" شخصاً يعيش وفق تصوّر معيّن عن ذاته وعن الواقع، وبالمثل تخلق الطائفية أيضاً "شيعياً" و"سنّياً" و"مسيحياً" لا من باب الوصف، بل من باب الإلزام، أي أنها تحدد لنا كيف نعيش، نحزن، نحب، نقاتل، ونموت. في هذا الباراديغم، يصعب أن تبني جسوراً ما بين الناس (الآخر) أو أن تتجاوز التحيزات العنصرية، ليس من باب التعددية الليبرالية (كمثال كندا)، بل من باب خلق جسور مقاومة شعبية في زمن شحّت فيه البدائل، وسيطرت العزلة والانهزامية على خيالنا السياسي.ا
وكما هي الحال مع كلّ هوية مقموعة أو مهمّشة، لم يكن تشيّع الإنسان العربي ــ حيثما وُجد ــ بمنأى عن هندسات التنميط. بل إنّ التشيّع، كهوية دينية – سياسية - ثقافية، قد جرى اختزاله واستهلاكه - كما في كل زمكان - على نحو يتيح اليوم لأي فرد أن يميّز "الشيعي" من غيره من دون أن يكلّف نفسه عناء السؤال. اللهجة، الملبس، الحيّ السكني، الخاتم في اليد، اللحية، العبارات. علامات دلالية توزّع البشر بين داخل وخارج الهويّة.ا
ولستُ في وارد تفكيك أو تحليل هويات المذاهب الاسلامية. بمعنى آخر، أحاول هنا أن أطلّ على تشيّع آخر (بمعنى اجتماعي - هوياتي وليس عقائدي) لا يحمل في وجهه علامات ما يجب ان نكون.ا
نور: الشيعي الذي لا يبدو كما ينبغي أن يكون
صديقي نور، شاب من جنوب لبنان. عاش في الضاحية الجنوبية لبيروت، بعد أن وُلِد في بيئة شيعية محافظة، وهو ممن يُنظر إليه اجتماعياً على أنّه "شيعي". كل شيء فيه يشير إلى ذلك، لهجته، ملبسه، سيرته، بيئته. لكن نور، كغيره من المعلّقين بين المعنى واللايقين، لا يرى في هذه الهوية خندقاً نهائياً. هي إحدى طبقات وجوده، لا أكثر. يتقلّب بين ما يظنّه عن ذاته، وما يفرضه عليه المجتمع، وما يريد أن يكونه.ا
أينما تجد نور تجده في حالة تضحية دائمة. فحياته مسخّرة لتغيير الواقع. وإذا تطلب منه ذلك ان يخفي تشيّعه فلا مانع لديه، لأن البوصلة كما يقول "هي التحرر وإن ضحيت بصورتي التي ينظر من خلالها الناس إلي". ذكرني نور بصديقتي التي لم تكن مقتنعة بالحجاب (عقائدياً)، ولكنها ترتديه لأنه مسألة اجتماعية (الحجاب يجلب لها الثقة في بيئتها لدواعي التغيير) وسياسي (ذلك أن الحجاب "يزعج" الحداثة). تظهر الهوية في هاتين الحالتين هنا كأداة لفتح باب السياسة للتغيير، لا كشيء جامد، صلب، ثابت بالمطلق، غيبي (قل الهوية من أمر الدنيا وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).ا
في ليلة ما بعد وقف إطلاق النار بين لبنان و"إسرائيل" (27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024)، رأيت نور "يدك" سيجارة الحشيش على خاتمه العقيق. كان ذلك المشهد تجسيداً للتناقض الهوياتي.ا
نور متمرّد، ضحوك، غامض، ذكي، محنّك. محنّك لأنه يمارس نوعاً من التفاوض الدائم مع السياق، أي مع الهوية وما تحتوي من تناقضات. بمعنى آخر، يمارس المناورة بالهوية كما نمارس المناورة في السياسة. يقول إن الهويات ليست نقطة انطلاق السياسة (كما نهج معظم الافراد والجمعيات والساسة التقدميين). يقدم نور نموذجاً آخر حين يقول أن الهوية هي جملة أدوات يُمكن التحايل عليها، تطويعها، أو تسخيرها لبيئته ومجتمعه؛ بينما السياسة هي ما تحدد تمظهرات الهوية لكي تبني مشروعاً شاملاً للتحرير، وليس العكس.ا
نور هذا، يتنقل بين مساحات متعددة، كل منها تعكس جانباً من جوانب شخصيته بدرجات متفاوتة. هو يقدم تنازلات مستمرة لأنه يؤمن بأن الفرد ليس المرجعية الوجودية المكتفية بذاتها، بل المجتمع - تحدياته واحتياجاته المتجذرة في الواقع وتطلعات وتناقضات الناس - هي ما يجب أن نضعه في المركز. والفرد والمجتمع معاً هما الأفق لممارسة صيرورة النضال.ا
هكذا، يصبح نضاله اليومي محاولة لإعادة خلق الذات — وخلق العالم معا — بعيداً عن منطق الهوية كحقيقة نهائية. ففي زمن يُقاس فيه الانتماء بالوضوح، يصر نور أن يكون التباساً دائماً، ضبابياً، متسائلا وحائراً، وأن يكون — بهذا المعنى بالذات — مقاوماً. يقاوم نور المعنى، اللغة، البنية المعرفية التي نبني عليها حياتنا ونفهم بها أنفسنا.ا
ثمة حاجة اجتماعية إلى أن نوسع "بيكار" من هو في الداخل وإعادة تعريف ما هو الخارج، وأن نعي أن الالتباس والغموض هي إحدي أدواتنا للنضال ضد الامبريالية والاحتلال. فتصنيفات "الشيعي، المواطن، اللبناني" هي تصنيفات معرفية زمانية - مكانية تبلورت إلى جانب "السلطة – القوة"، بما أن الإثنان يكملان بعضهما البعض. كلنا نعي أن الطائفية لا تولد من الإيمان. والطائفية لا تحتاج إلى طائفة، بل إلى شكل مُكثَّف منها، فهي تقدم نموذجاً نهائياً يحتذى به، وهذا بالذات ما رفضه نور وناوره.ا
ومن المهم ألا نتناسى (بالرغم من أننا نتناسى عمداً ربما) أن الاستعمار يستثمر بتناقضاتنا أكثر مما نستثمر نحن بها. فالنعي ان التناقض، الالتباس، الضبابية في الهوية، يمكن ان تكون جسراً من جسور النقاش مع الآخر، بدل من أن نمضي في المشروع التقسيمي الذي يغذيه الاستعمار.ا
هناك الكثير مما يمكن أن يُحكى عن شخصية نور. هو يربك ويثير الكثير من أهل بيئته وخصومه معاً. ليس فقط لأنه يتحدّى القوالب، بل لأنه يُربك الباراديغم التي نصف بها الأشخاص: لا هو من أهل الالتزام ولا من أهل "التقدم". هو الاثنان معاً ولا شيء منهما في آن. وربما هذا المقال ليس سوى دعوة للتأمل في الكوة التي يحدثها نور في جدار الباراديغم الذي نعيش.ا
Related Posts
صحافي لبناني