في أربعينيات القرن العشرين، طرح نوربرت وينرمؤسس علم السبرانيات فكرة أن التحكم في المجتمعات يمكن أن يُدار عبر الأنظمة والآلات كما يُدار الجسد عبر الأعصاب. من هنا جاءت فكرة الآلة الإله التي يُروج لها مؤخراً بشكل كبير في الوسط التكنولوجي وبين علماء الذكاء الإصطناعي. ففي عالم "ما بعد الدولة"، تولد سلطة جديدة لا تعريف دقيق لها، لكنها حاضرة في أدق تفاصيل حياتنا. إنها سلطة الآلة
عالم ما بعد الدولة
أذكر جيداً تلك الليلة في بيروت، تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2019، حين كانت الشوارع تغلي، والناس تصرخ طلباً لشيء يشبه الخلاص. كنت وصديق لي في ساحة رياض الصلح، نراقب المشهد بصمتٍ طويل، قبل أن نبدأ حديثاً أخذنا بعيداً عن الهتافات. قال لي يومها: ربما ما نراه ليس مجرّد احتجاجات، بل إشارات على تغيّر أكبر، شيء يشبه بداية النهاية لعصر الدولة كما عرفناها، وتابع ممازحاً كعادته " لأنه بس يصير بلبنان في دولة بكون العالم صار بمرحلة ما بعد الدولة" في إشارة إلى أننا نصل متأخرين في كل شيء كالعادة. والذي يعرف لبنان جيداً يعرف أنه لم يكن هناك وجود لدولة بشكلها الطبيعي - التقليدي، حتى ما بعد الحرب الأهلية، لم تولد دولة حقيقية للبنان بالمفهوم البنيوي المؤسساتي. وما أثار ريبتنا ذاك اليوم، أن لبنان الهجين على الثورات بتركيبته العجيبة يشهد حراكاً شعبياً عابر للطوائف والمذاهب، كان فعلاً ضرب من ضروب الخيال. قال لي حينها هذا حراك شعبي عفوي ولكن ضد من بالتحديد؟ ليس هناك مفهوم واضح للدولة في لبنان، حتى إذا ما سقطت الحكومة هل برأيك ستأتي حكومة أفضل؟ فَعَلَت حينها أصوات المحتجين "الشعب يريد إسقاط النظام".ا
أشعل هذا الشعار ثورات العالم العربي (أو ما سمي "بالربيع العربي") لكنه كان أقرب للخريف منه للربيع، لعدم قدرة شعوب المنطقة على إحداث أي تغيير حقيقي يذكر في أنظمتها. آنذاك قال لي هذا الصديق ممازحاً "لم يأتِ هذا الشعار بالخير على أي من الشعوب التي رفعته، هذه سوريا، العراق، ليبيا، تونس، مصر، والسودان، كلهم غارقون بالفقر... معقول تكون المشكلة بالشعب مش بالنظام؟". قلت له بشكل عفوي، هل التغيير الفعلي يبدأ من الفرد نفسه ومن ثم محيطه أم العكس؟، هذه معضلة لم تحل بعد ولكنني أميل للفرضية الأولى.ا
بعد الحرب الباردة وسقوط الإتحاد السوفياتي، وتسيد أميركا المشهد السياسي والاقتصادي العالمي، بدأت الثورة الرقمية تأخذ حيزاً واسعاً من الاهتمام البحثي والأكاديمي. كان دخولنا العصر الرقمي قريناً لاهتزاز البناء الفلسفي للدولة. لم تعد الدولة مركز العالم كما تخيلها هيغل، ولا الضامن الوحيد للنظام كما أرادها هوبز. كانت السلطة قد بدأت بالانتقال من رؤساء الدول إلى شركات التكنولوجية العملاقة لتتولى أدواراً كانت حكراً على الحكومات وحدها؛ من الاتصالات إلى الخدمات المالية، ومن الإعلام إلى الأمن السيبراني. في هذا السياق تحديداً، بدأ مفهوم الدولة الحديثة يتآكل بالتدريج أمام تمدد الفاعلين الجدد كالمنصات الرقمية، المؤسسات العابرة للقارات، والمنظمات ذات النفوذ المالي أو التقني. وبهذا انتقلنا من نظام "الدولة – الأمة" إلى نظام "الشبكة – المنظومة"، حيث تحل الخوارزميات محل المؤسسات. وفي عالم مترامي الأطراف لم تعد السيطرة الجغرافية العامل المؤثر أو الأساسي كما كان في السابق، إذ يمكن للمرء الانتقال من نيويورك إلى بكين بضغطة زر واحدة من خلف شاشة. لا بل تحول اثبات القوة والهيمنة اليوم من السيطرة الجغرافية إلى سباق السيطرة على البيانات. وبهذا، بدأت ملامح "نظام ما بعد الدولة" بالظهور بشكل جلي وواضح؛ نظام لا يحتاج إلى الحدود ولا الى الجيوش، بل إلى البيانات والسيرفرات.ا
ما يُعرف بالآلة الإله:ا
في أربعينيات القرن العشرين، طرح نوربرت وينرمؤسس علم السبرانيات فكرة أن التحكم في المجتمعات يمكن أن يُدار عبر الأنظمة والآلات كما يُدار الجسد عبر الأعصاب. من هنا جاءت فكرة الآلة الإله التي يُروج لها مؤخراً بشكل كبير في الوسط التكنولوجي وبين علماء الذكاء الإصطناعي. ففي عالم "ما بعد الدولة"، تولد سلطة جديدة لا تعريف دقيق لها، لكنها حاضرة في أدق تفاصيل حياتنا. إنها سلطة الآلة، بما فيها من خوارزميات، وأنظمة المراقبة الرقمية، التي تسلّمت دور الحاكم - من دون أي تنصيب حقيقي - على كل من يحمل جهازاً متصلاً بالانترنت. فلم تعد السلطة تُمارَس بالقوة، بل بالمعرفة؛ ولم يعد ضبط الناس يحتاج إلى الجيوش والسجون، بل إلى البيانات والمعلومات الوافية عن سلوكيات الناس التي يمكن التنبؤ بها. فالإنسان أصبح مُعرّفاً وداخل قوالب معدة مسبقاً تضعه فيخانة اهتماماته، يمكنك القول بكل ثقة أن الآلة تعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا، وتعرف ما نحب، ومتى نغضب، وماذا نشتري، وإلى أين نذهب، وللعلم أنني شهدت حتى يومنا هذا أكثر من شخص يتحدث وبكل ثقة أن رفيقي اليومي والحاضر الدائم في كل مشاكلي هو "الشات جي بي تي". إنها سلطة لا تفرض القوانين، بل تُبرمج العادات، وتوجّهنا من حيث نظن أننا أحرار. وهكذا، يتحول الإنسان من "مواطن" إلى "مستخدم"، ومن صاحب إرادة إلى خوارزمية ضمن شبكة ضخمة من البيانات. في هذا العالم، المواطنة لم تعد جواز سفر أو دستوراً، بل بصمة رقمية وسجلّ سلوكي على الشبكة، جواز سفرك هو بصمة وجهك لا أنت ككائن فيزيائي. وما يمثلك هو صورة لك مع كامل تفاصيل وجهك، تحولها البرمجيات الى أرقام ثنائية (صفر وواحد)، يستطيع الحاسوب من خلالها تعريفك.ا
وهكذا، لم تعد الهوية جغرافية، بل رقمية؛ والانتماء لم يعد إلى وطن، بل إلى منظومة بيانات. وهكذا نشأ ما يمكن تسميته بـ"الإله الرقمي" أو "الإله الآلة"، نظام طاغٍ لا يحتاج إلى شرطة أو جيش، بل إلى خوادم ومعلومات. نظام يراقب دون أن يُرى، ويعاقب دون أن يعلن، ويعيد تشكيل العالم وفق منطقٍ جديد، لا سياسي ولا أخلاقي، بل حسابي محض. في كتابه الشهير نهاية التاريخ والإنسان الأخير تحدّث فوكوياما عن نهاية الإنسان السياسي، حين أشار إلى "أن انتصار الليبرالية والديمقراطية الغربية أنهى الصراع الأيديولوجي العالمي"، وبالتالي لم يعد هناك معنى للسياسة كصراع على القيم والمصير، إننا ندخل عصر "الإدارة التقنية للعالم، حيث يسود الرضا المادي بدل الصراع الفكري. أي أن الإنسان السياسي الذي كان يصارع من أجل العدالة أو العقيدة، قد انتهى واستبدل بالإنسان الاقتصادي". لكننا نعيشها اليوم بصورة مختلفة: ليست نهايةً بفعل الأيديولوجيا أو الحرب، بل بفعل التكنولوجيا نفسها، حين تتحول الحرية إلى خيارٍ تُقدّمه لنا الخوارزمية، وتصبح الطاعة مجرّد ضغطٍ على "أوافق"، والمضحك المبكي هنا أننا أصبحنا بحاجة لتصريح تحديد أهلية بشرية للآلة من خلال اختيار ثلاثة صور لباصات بين 12 صورة موضوعة أمامك، تقول فيها "أنا بشري".ا
نحن نقترب من ولادة كيانٍ جديد لا يشبه أي سلطة عرفها التاريخ، كيانٍ يمكن تسميته بـ"الحكومة الكبرى".ليست دولاً، ولا تحالفات سياسية، بل منظومة كونية تُدار بالخوارزميات، وتُغذّى بالبيانات، وتتحكم بها شركاتٌ عابرة للحدود تمتلك نفوذاً يتجاوز قدرة الدول ذاتها. في هذا النظام، لم تعد السلطة مركزية في واشنطن أو موسكو أو بكين، بل في السحابة الرقمية التي توجّهك من خلال إشعاراتٍ تصل إلى هاتفك في غرفة نومك. يقف وراء هذه المنظومة بالأساس وادي السيليكون مع ما تحتويه من عقولٌ تُعرّف نفسها كرواد تكنولوجيا، لكنها في جوهرها تمارس وظيفة المشرّع الجديد للعالم. سام ألتمان يرى في الذكاء الاصطناعي أداةً لضبط الكون بالمعرفة، إيلون ماسك يسعى إلى دمج الإنسان بالآلة ليخلق كائناً هجيناً لا يحتاج إلى دولة، وبيتر ثيل يعلن أن الديمقراطية بطيئة على عصر السرعة، وأن الكود أصدق من القانون. وهكذا تتشكل ملامح سلطةٍ جديدة لا تُنتخب ولا تُحاسب، بل تُبرمج. حكومة لا تفرض قوانينها بالقوة، بل بالإقناع الخوارزمي؛ تخلق الوهم بالحرية بينما تعيد تشكيل وعينا بصمت.في هذا العالم السريع الذي يدهسك إن توقفت، ربما يوافقني القارئ أن الدقيقة تقلصت، قيمتها الحقيقية أقل من ستين ثانية. لم يعد الزمن مساحةً للتأمل، بل وحدةً إنتاجية تُقاس بالأداء. صارت الحياة سباقاً لا نهاية له، كل ما لا يدرّ ربحاً يُعتبر فشلاً، وكل فكرةٍ لا تتحول إلى تطبيق تُعدّ ترفاً. لم يعد الإنسان يعيش اللحظة، بل يستهلكها، ولم يعد يكتب تاريخه، بل يُحدّث نظام تشغيله.ومع هذا التحول، خبت شرارة الإبداع الإنساني كما لو كانت فعلاً من الماضي. متى كانت آخر مرة أنجبت البشرية عبقرياً خالصاً أو فيلسوفاً يعيد تعريف العالم؟ مشكلة هذا النظام أنه يقتل الإبداع باسم الكفاءة. فالنظام العالمي الجديد لا يريد مبدعين بل مستخدمين أكفاء، لا يريد مشككين بل منتجين. وبدل أن تنجب الحضارة عقلاً استثنائياً، تُنتج ملايين النسخ من الكفاءة المتشابهة، عقولاً تُبرمج كما تُبرمج الأجهزة.وهكذا، تتحول “الحكومة الكبرى الواحدة” إلى منظومةٍ تعيد صياغة الإنسان لا بوصفه مفكراً ونظرية "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، بل كعنصرٍ في شبكةٍ ضخمةٍ لا تتوقف. حكومة لا ترفع علماً، ولا تنتمي إلى أرض، تحكم العالم من خلف الشاشات، وتعيد تعريف معنى الوجود، أن تكون متصلاً، أن تكون قابلاً للقياس، أن تكون صالحاً للاستعمال. في عالم كهذا، ربما يكون أسمى أشكال الحرية اليوم هو أن تتجرأ على البطء، أن تتوقف للحظة، أن تفكّر... قبل أن يدهسك الزمن وتكمل الآلة طريقها.ا
ربما يعيش الإنسان اليوم المفارقة الكبرى في تاريخه، لقد أنشأ الدولة ليحمي نفسه من الفوضى، ثم أنشأ الآلة ليحمي نفسه من عجزه، فابتلعت الآلة الدولة، وبقي وحيداً أمام نظام لا يرى فيه سوى رقم. عالم ما بعد الدولة ليس أكثر قسوة بالضرورة، لكنه أقل إنسانية؛ عالم تُدار فيه الحرية بلغة الخوارزميات، ويُقاس فيه الإيمان بمدى الاتصال بالشبكة. منذ أفلاطون وحتى هوبز وهيغل، كان كل السعي البشري يصب في صالح بناء دولة تحقق النظام والعدالة. لكننا اليوم نشهد لحظة قد تُنهي هذا المسار الطويل، إذ تنتقل السلطة من الإنسان إلى الآلة، ومن العقد الاجتماعي إلى الكود البرمجي. الآلة صارت أكثر كفاءة من البيروقراطية، وخوارزميات الآلة أكثر دقة من الشرطي، ومنصات التواصل الإجتماعي أقوى من البرلمانات مجتمعة. ومع كل ذلك، يبقى شيء غامض في المستقبل القريب لا يمكن تنبؤه بالكامل. ربما لهذا ما زلنا نكتب، نثور، نحلم، ونخاف. لقد وُلدت الدولة من حاجة الإنسان إلى الأمن، لكنها قد تنتهي من فرط سعيه إلى الكمال. نحن في لحظة انتقالية دقيقة، بين عالم يحتضر وآخر لم يولد بعد؛ عالمٍ أسرع، أذكى، لكنه أيضاً أكثر هشاشة وتعقيداً. قالت لي امرأة في أواخر السبعينات مرة، في حديث طويل دار بيننا، أن سبب معاناتها في الحياة هو أنها تدفع أثمان ما ارتكبه آبائها من أخطاء في الماضي، مع أنني من أنصار فكرة أنك مرهون بعملك أنتَ (كفرد)، إلا أنه لا يمكن نفي تأثير (الجماعة) من حولك عليك. ربما نكتب لمن سيأتي من بعدنا مستقبلاً خالٍ من الشوائب، وربما نكون سبب فنائهم.ا
Related Posts
كاتب لبناني