Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

فإن كانت الحداثة الاستعمارية قد خلقت، في الغرب ثم في المستعمرات، نوعاً جديداً من الفضاء العام مرتبطا بفكرة المجال العام والمنافع العامة (وبفكرة الديمقراطية بل والجمهورية من حيث المعنى الحرفي لكلمة ريز- بوبليكا باللاتينية هو الأشياء العامة)، فإنها في ذات الوقت باتت تتوجس من هذا المجال العام وما يمكن أن يؤول إليه إن غزته الجموع أو أفلت من قدرة الدولة ومؤسساتها الحديثة على المراقبة والضبط

أحمد الدردير

استعمارية الفضاء العام: جغرافيا الهزيمة والمقاومة

كيف أثر الاستعمار على علاقتنا بالفضاء العام؟

من البديهي أن الفضاء العام لم يخلقه الاستعمار أو الحداثة؛بالرغم من الإصرار الغريب للأكاديميا الغربية وملحقاتها حول العالم على هذه الأطروحة العجيبة.ا

هناك أطروحة بديلة تقول إن الفضاء العام في الغرب، ومن ثم الديمقراطية الغربية، ولدا عندما استوردوا من عندنا القهوة والمقهى، إذ كانت هذه أول مرة يجتمع الغربيون في مكان عام حول شراب ينبههم ولا يسكرهم؛ هذه النقطة، التي لم تأخذ حقها في الدراسة، ينبغي أن تظل حاضرة في أذهاننا ونحن نفكر في علاقتنا بالاستعمار والفضاء العام. ولكن لا شك أن الاستعمار خلق نوعاً جديداً من الفضاء العام، وعلاقة جديدة مع المجال الذي نعيش فيه، ويمكننا في كل صراع مع الاستعمار أن نقرأ صراعاً على هذه المفاهيم.ا

بطبيعة الحال كان لدينا قبل الاستعمار مساحاتنا العامة: الجامع (الكلمة في حد ذاتها تشير إلى اجتماع الناس) وما يستدعيه من "جموع" و"جماعة" ثم السوق والطريق كمساحات عامة لا تشارك الجامع في سلطته الروحية والأخلاقية، ثم هناك بالتأكيد المساحات العامة غير المحترمة.ا

ولكن الاستعمار بالتأكيد أعاد تنظيم هذه العلاقة: لم يعد "الجامع" هو الجامع للناس — بل على العكس أصبحت الدولة الحديثة تتشكك فيما يدور في المساجد. وفي الإعلام المصري في التسعينات، على سبيل المثال، وعلى هامش المواجهة مع الجماعات الإسلامية ظهر التشكك في "الزوايا" والمساجد الصغيرة غير المرخصة كمساحات غير منضبطة. الطريف أن الخطاب نفسه الذي استخدم ضد الزوايا والمساجد غير المرخصة استخدم كذلك ضد النوادي الموسيقية أثناء الضجة التي أثيرت حول "عبدة الشيطان" وكان الإعلام التابع للدولة يقارن ما بين الإرهاب من حيث هو تطرف الفقراء وعبادة الشيطان من حيث هي تطرف الأغنياء واستخدمت نفس المصطلحات لوصف الفريقين. هذه المفارقة تكشف تشكك الدولة في كل ما يحيد عن التيار السائد الذي تحدده هي، كما يكشف تشككها فيما قد يغيب عن مجالها البصري، وكيف تصور كل مساحة تغيب عن قدرتها على الرقابة والضبط كأنها مساحات فوضى خطرة وغير أخلاقية.ا

وبالرغم مما يرتديه هذا الخطاب الأخلاقي من ثياب "محلية"، سواء ارتبطت بالتدين أم بـ"أخلاقنا وتقاليدنا" فإنه يتعارض مع ما في التراث الإسلامي من تحريم التجسس ولعن المجاهرة. أي أن صلب هذا التوجه، وإن استخدم مصطلحات محلية، عربية أو إسلامية، هو صلب استعماري قائم على فكرة الدولة التي يحق أن ينكشف لها كل شيء، في مقابل مفهوم نقيض للدولة والمجتمع كان عندنا ما قبل الاستعمار، يقوم على ترك ما يختبئ.ا

أطروحة تيموثي ميتشل شديدة الأهمية: إن العمران الحديث استعماري من حيث هو غزو المجال العام بمنظومة تأديبية ورقابية ترتبط ببسط المجال البصري للدولة الحديثة.ا

 

استعمار مصر

في مصر، بدأ التنظيم الاستعماري للفضاء العام، بحسب تيموثي ميتشل قبل الاحتلال الإنجليزي بحوالي 77 عاماً؛ وتحديداً في ظل دولة محمد علي؛ فعقب خروج الفرنسيين أراد حاكم مصرالجديد (أو باني مصر الحديثة كما يعتبره البعض) أن يبني دولته على نسق فرنسا التي كنا قد شاهدنا تطورها العسكري قبل ذلك بسنوات قليلة فيما عرف بالحملة الفرنسية (والتي قامت بتدميرالحياة الثقافية في مصر بالذات من خلال مجزرة الأزهر أثناء ما عرف بثورة القاهرة الثانية وهذه تفصيلة قد تحتاج إلى مقالة منفصلة)، إعادة تشكيل الفضاء العام والمؤسسات العامة وفق المعايير الأوروبية الحديثة وتحت رقابة خبراء أوروبا وحكوماتها، مما أودى بنا إلى حالة الدَين التي اتخذها الاستعمار الإنجليزي والفرنسي ذريعة للتدخل في ميزانية الدولة.ا

بينما كانت تجربة وطنية ديمقراطية وليدة (استُخدم بدلاً من تعريب كلمة الديمقراطية ذات الأصل اليوناني مصطلح الشورى ذا الدلالات الإسلامية والذي كان الكاتب العثماني من أصل لبناني أحمد فارس الشدياق قد كرسه في كتاباته كترجمة لمصطلح الديمقراطية الغربي) تحاول تسليم مقدرات الحكم، بما في ذلك ميزانية الدولة، إلى نواب الشعب، فأدركت بالتجربة أن لا "شورى" من دون العداء للاستعمار.ا

وكانت الثورة العرابية قد بدأت كحركة إصلاحية داخل الجيش المصري بتقارب مع الحركة "الشوروية"، ثم تطورت إلى حركة ثورية شاملة عندما جاءت البوارج الإنجليزية إلى شاطئ الإسكندرية، ثم حدث ما حدث وهُزم عرابي وجاء الاحتلال فأصبحت مؤسسات الدولة وإداراتها، وتنظيم الفضاء العام برمته، في يد الإنجليز.ا

 

النديم وجغرافيا الهزيمة

كان عبدالله النديم خطيب الثورة العرابية. وكان قبل انضمامه للعرابيين، من رواد الصحافة المصرية، حيث أسسجريدة "التنكيت والتبكيت" التي كانت من أوائل الصحف المستقلة في مصر، ثم بعد أن انضم للعرابيين وبعد أن أنبأه عرابي أن عليه أن يجد لجريدته اسماً أكثر جدية، تغير اسم الجريدة أولاً إلى "لسان الأمة" ثم إلى "الطائف" لتطوف على الناس باسم الحركة العرابية، كما أصبح، بحسب بعض التخمينات، مسؤولاً عن الإعلام الموحد لهذه الحركة. ثم أدى فشل الحركة واحتلال بريطانيا لمصر إلى إنهاء هذه التجربة الثقافية مؤقتاً، واضطر النديم للاختفاء ثم النفي.ا

وفي العام التالي لنفيه، عام 1892م، أصدر الخديوي عباس حلمي الثاني عفواً عن النديم، وعند عودته إلى مصر، أسس صحيفة جديدة بعنوان "الأستاذ". رغم استمرار النديم في مناهضة الاستعمار، وفي استخدام الكتابة وضرب الأمثال والحكايات سبيلاً للوعظ السياسي والاجتماعي، فإن تجربةالهزيمة أمام الاستعمار البريطاني ألقت بثقلها عليه وعلى ما كتب. فبعد أن كان مؤمناً بتفوق الثقافة العربية والعثمانية على الحضارة الغربية، أصبح يدعو الإنجليز للرحيل من باب أنهم أتموا مهمتهم وعلموا المصريين أسس الحضارة.ا

ومن سخرية القدر أن النديم الذي قضى أيام ثورة عرابي يحشد الجماهير خطيبا للحركة، ثم اختبأ بين الجماهير بعد أن صار ملاحقاً من قبل سلطات الاحتلال، عاد في هذه المرحلة الأخيرة بخطاب فوقي يزدري الجموع ويشارك الغرب قلقه من المجال العالم.ا

فإن كانت الحداثة الاستعمارية قد خلقت، في الغرب ثم في المستعمرات، نوعاً جديداً من الفضاء العام مرتبطا بفكرة المجال العام والمنافع العامة (وبفكرة الديمقراطية بل والجمهورية من حيث المعنى الحرفي لكلمة ريز- بوبليكا باللاتينية هو الأشياء العامة)، فإنها في ذات الوقت باتت تتوجس من هذا المجال العام وما يمكن أن يؤول إليه إن غزته الجموع أو أفلت من قدرة الدولة ومؤسساتها الحديثة على المراقبة والضبط.ا

في قصة مدينتين لتشارلز ديكنز (وهي من الروايات المؤثرة في عالمنا العربي لا في عالمها الناطق بالإنجليزية فحسب، وقد عُدّت من ضمن الكتب المفضلة لدى جمال عبد الناصر ووديع حداد، وكثر استخدامها في خطابات الثورة والثورة المضادة سواء) نرى التضاد بين مجموعة مجالات وفضاءات: فالمجال المحترم هو المجال الخاص (الأسرة، البيت) والقليل من الأماكن العامة (مثل البنك) ونرى المجال العام (الذي ينقسم بدوره إلى مجالات محترمة مثل مكان العمل أو المحكمة، ومجالات غير محترمة ولكن مسموح بها مثل الحانة، ثم مجالات تبدو عصية على التأديب ومن ثم مثيرة للفزع مثل الشارع وما فيه من جموع هادرة) الذي لا يخلو من خطورة، بالذات على نساء البيوت المحترمات، بسبب قدرة الجماهير على الزحف عليه (حتى المحكمة تصبح مكاناً خطراً، تفقد النساء وعيهن فيه من خطورته، ولكنه يصبح خطراً بشكل خاص حين تفسده الثورة وتصبح المحكمة هي محكمة الجماهير).ا

وحتى مؤسسات الدولة تصبح عرضة لزحف الجموع ومن ثم تحويلها إلى مجال عام فوضوي، خطر ومثير للفزع، في سياق الثورة الفرنسية، بل إن رقص الجماهير – سلمياً - في الشارع يستدعي فزع النساء المحترمات وبناتهن في الرواية.ا

وبالرغم من أن النديم، على الأرجح، لم يكن يجيد اللغة الإنجليزية (كانت لغات الثقافة في منطقتنا آنئذ العربية والفارسية والتركية العثمانية، وكان النديم على أغلب الظن يتقن هذه اللغات الثلاث) فإنه قد قدم لنا في المرحلة الأخيرة من كتاباته مشاهد تبدو كما لو كانت متأثرة بمشاهد الجماهير في قصة مدينتين.ا

في حوار وعظي مطول (نُشر في "الأستاذ" عام 1892) يظهر المجال العام، والحشود التي تختفي فيها الفروق الفردية كتهديد جنسي للنساء المحترمات. في هذا الحوار، تحذر امرأةٌ امرأةً أخرى من الذهاب إلى الحضرة الصوفية. كان النديم معادياً لما يعرف بالممارسات "البدعية" ولكن القلق في الحوار المنشور في "الأستاذ" ينصبّ على الفحش الكامن في التقاء الجموع وما يمكن أن يمثله ذلك من تهديد للنساء المحترمات.فالمرأة التي تذهب إلى هذه المراسم - وفقاً للحوار - تعرّض نفسها لرجال وقحين يرقصون مثل النساء، ويُصففون شعورهم كالنساء، ويوزعون الزهور لإغراء السيدات، والحلوى للأطفال لإغواء أمهاتهم، ومن قد يتحرشون بالنساء لفظياً أو جسدياً أو يكونون ثملين، وقد يدفعهم ذلك لملامسة النساء. هذا الخطاب، بالرغم مما يكتسي به من ثوب الأصالة، هو خطاب حداثي بامتياز، لا يخلو من تأثيرات استعمارية. وما زال خطاب الثورة المضادة في القرن الواحد والعشرين، في عالمنا العربي وعالمياً، يجتر هذه المفردات ذاتها.ا

 

باحث وأستاذ جامعي مصري