محمد حسنين هيكل: ذاكرة الصراع العربي الإسرائيلي وشاهد عصره
محمد حسنين هيكل يُعدّ أبرز الصحفيين العرب في القرن العشرين، بل ربما أقوى صحافي في العالم، جمع بين القلم الرشيق والعقل التحليلي والقدرة على استشراف الأحداث. ارتبط اسمه بجمال عبد الناصر فكان صوت الحقبة الناصرية وذاكرتها الحية، وخاض معارك فكرية جريئة ضد الاسترخاء والرضا الزائف. بكتاباته ومواقفه ساهم في تشكيل الوعي السياسي العربي، وكان المؤتمن على أسرار الرؤساء، وصحفيًا استثنائيًا جمع بين دور الشاهد والمحلل وصانع التاريخ بقلمه.ا
من موقعه كـ "شاهد" و"مؤرخ للحظة"، عايش الأستاذ هيكل محطات الصراع العربي ـ الإسرائيلي الكبرى: من نكبة 1948، إلى نصر 1956 الاستراتيجي، فإلى نكسة 1967 وحرب الألف يوم المنسية 1968 ـ 1970، ثم حرب أكتوبر 1973 التي حملت نصرا تقريبيًا وصدى استراتيجيا واسعًا. وكان هيكل شاهدًا أيضًا على ولادة حركة فتح، وعلى تجارب المقاومة الصاعدة في الجزائر والجنوب العربي وفلسطين ولبنان، ليجعل من قلمه مرآةً صادقة لذاكرة الأمة وتحولاتها العميقة.ا
لم يكن الأستاذ هيكل مجرد ناقل أخبار أو راوٍ للأحداث، بل كان صانعًا لوعي جمعي وذاكرة سياسية للأمة العربية. بأسلوبه التحليلي وقدرته الفائقة على النفاذ إلى عمق اللحظة، قدّم للقراء ما يتجاوز الخبر إلى فهم خلفياته وسياقاته. وهكذا تحوّل قلمه إلى منبر للتنوير ومرجع للأجيال، يربط بين التاريخ الحاضر واستشراف المستقبل. لقد جمع بين الصحافة والفكر والسياسة، فكان صوتًا للزمن ومؤرخًا للمعارك والآمال والهزائم، ومرآة لضمير الأمة.ا
هيكل وناصر:ا
كان قرب الأستاذ هيكل من عبد الناصر أحد أبرز محطات حياته، إذ تحوّل إلى العقل الإعلامي للنظام والناطق بلسانه. صاغ كتاب "فلسفة الثورة"، وكتب "الميثاق" الوطني، وأشرف على جميع خطابات عبد الناصر تقريبًا، كما تولى صياغة معظم مراسلاته مع قادة العالم وقادة العرب. بذلك لم يكن هيكل مجرد صحفي، بل شريكًا في صناعة الخطاب القومي، ومهندسًا للوعي العربي في لحظة تاريخية مصيرية فارقة.ا
في معركة السويس 1956، قدّم الأستاذ هيكل قراءة تتجاوز الحدث العسكري إلى جذوره السياسية، فرأى أن العدوان الثلاثي لم يكن مجرد مواجهة مع مصر، بل حلقة في صراع أوسع بين إرادة التحرر الوطني وقوى الاستعمار. وقد شدّد في مقالاته وتحليلاته على أن الدفاع عن قناة السويس كان دفاعًا عن استقلال القرار العربي، وربط بُعده المحلي بالبعد القومي، ليضع المعركة في سياق التحرر من الهيمنة الأجنبية.ا
لعب الأستاذ هيكل دورًا محوريًا في صياغة الوعي العربي بالقضية الفلسطينية، إذ لم يتعامل معها كمسألة تخص الفلسطينيين وحدهم، بل قدّمها باعتبارها جوهر الصراع العربي ـ الإسرائيلي وقضية العرب جميعًا. عبر مقالاته وتحقيقاته وحواراته مع القادة، ربط فلسطين بالمصير القومي المشترك، واعتبرها معيارًا لمصداقية المشروع القومي في مواجهة الاستعمار والهيمنة، وجعلها رمزًا للكرامة والعدالة والوحدة العربية، ومحرّكًا أساسيًا للسياسة الإقليمية، ومفتاحًا لفهم التوازنات الدولية الكبرى والتحولات التاريخية المصيرية.ا
هيكل والنكسة:ا
كتب الأستاذ هيكل كتابه "1967: الانفجار" كمحاولة لتفكيك أسباب الهزيمة العسكرية والسياسية في حرب حزيران، مقدّمًا قراءة معمّقة في خلفيات القرار الاستراتيجي وأخطاء القيادة العربية. لم يكتفِ بسرد الوقائع، بل سعى إلى تحليل البنية الفكرية والتنظيمية التي قادت إلى النكسة، رابطًا بين العوامل الداخلية والضغوط الخارجية والتوازنات الإقليمية. هكذا تحوّل الكتاب إلى شهادة توثيقية ونقدية لفهم لحظة الانكسار، واستخلاص دروس للمستقبل العربي المشترك واستنهاض وعي جماعي جديد.ا
تميّز الأستاذ هيكل في تحذيراته المستمرة من خطورة الاستخفاف بالعدو والاكتفاء بالشعارات الرنانة، مؤكداً أن المواجهة تحتاج إلى إدراك موضوعي للواقع العسكري والسياسي. وكان يردد أن الموقف الصحيح لا يكون بالتهوين ولا بالتهويل، بل بالوعي الدقيق المتوازن. بهذا الطرح قدّم هيكل خطاباً عقلانياً، يسعى إلى تحرير الوعي العربي من أسر العاطفة المفرطة، ويدفع نحو بناء قوة حقيقية توازي التحديات القائمة فعلاً، مستندا إلى خبرته العميقة، ورؤيته النقدية، وصلابته الفكرية.ا
رأى الأستاذ هيكل أن إسرائيل لم تكن مجرد دولة قائمة بذاتها، بل أداة وظيفية في مشروع أمريكي ـ غربي أوسع يستهدف المنطقة العربية سياسياً واقتصادياً وثقافياً وعسكرياً. وقد شدد في مقالاته وكتبه ومحاضراته على أن فهم الصراع لا يكتمل إلا بإدراك هذا الارتباط البنيوي بين القوة الإسرائيلية والدعم الغربي المستمر. لذلك كان يحذّر من اختزال المواجهة في بعدها العسكري الضيق، داعياً إلى وعي استراتيجي شامل، عميق، متوازن، يتجاوز السطحيات، ويواجه المشروع بكامل أبعاده المتشابكة والخطيرة بدلا من الحلول الآنية.ا
بين كامب ديفيد والمقاومة:ا
اتخذ الأستاذ هيكل موقفاً ناقداً وحاداً من سياسة الرئيس أنور السادات، خصوصاً بعد تحوّل مصر نحو الانفراد بخيار التسوية مع إسرائيل.ا
عقب حرب أكتوبر. رأى هيكل أن هذه الخطوة أضعفت الموقف العربي وأدخلت مصر في عزلة استراتيجية، محذّراً من تفكيك التضامن العربي وتراجع دور القاهرة القيادي. في كتابه "حديث المبادرة" قدّم تحليلاً معمقاً لسياسة السادات، مبيناً مخاطر الارتهان للولايات المتحدة وتجاوز القضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة بأكملها.ا
كتب الأستاذ هيكل بحدة عن اتفاقية كامب ديفيد، معتبراً إياها خروجاً استراتيجياً لمصر من معادلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وما لذلك من تداعيات خطيرة على موازين المنطقة العربية. في كتابه "حديث المبادرة" قدّم توثيقاً وتحليلاً لمسار التسوية، بينما مثّلت "وقائع تحقيق سياسي أمام المدعي الاشتراكي" دفاعاً قوياً عن موقفه. كما أصدر "السلام المستحيل والديمقراطية الغائبة"، و"آفاق الثمانينات"، مسلطاً الضوء على مأزق السياسات المصرية والعربية آنذاك، ومنبهاً لنتائجها المستقبلية المحتملة.ا
كان الأستاذ هيكل من أوائل من دعموا فكرة أن المقاومة الشعبية باتت الأفق المتاح بعد تراجع الدور الرسمي العربي، مؤكداً أن تجربة حزب الله شكّلت نموذجاً ملهماً بقدرتها على تحرير الجنوب وصمودها في حرب تموز. ورأى هيكل أن غالبية الأنظمة العربية بعد عام 1973 تخلّت عن اعتبار إسرائيل عدواً مركزياً، واتجهت لتصوير العدو تارة في الإلحاد الدولي، ثم في الثورة الإسلامية في إيران، ولاحقاً في نظام صدام حسين، فتنظيم القاعدة، ثم الشيعة وإيران، وأخيراً الإخوان المسلمين.ا
قراءة هيكل المبكرة للمشروع الأمريكي ـ الإسرائيلي:ا
رأى الأستاذ هيكل أن واشنطن تحولت منذ السبعينيات إلى اللاعب الرئيسي في المنطقة، لكنه ميّز بدقة بين فكرة تحييدها ومحاولة افتراض حيادها. فالحياد مستحيل، إذ لم تكن الولايات المتحدة يوماً خارج الانحياز لإسرائيل ومشروعها الغربي. أما التحييد فممكن عبر حسن توظيف وسائل القوة العربية، من النفط إلى الموقع الاستراتيجي، بما يجبر واشنطن على مراعاة الحسابات العربية.ا
تنبأ الأستاذ هيكل مبكراً بأن مستقبل إسرائيل لن يبقى مرتبطاً بميزان القوى الإقليمي وحده، بل بالحماية الأميركية المباشرة، التي اعتبرها شرطاً لبقائها واستمرارها. وأكد أن إسرائيل ليست مجرد حليف للولايات المتحدة، بل جزء عضوي من النسيج الأميركي السياسي والاستراتيجي، تندمج في منظومة المصالح الغربية الكبرى والعقيدة الأمنية لواشنطن. بهذا الفهم ربط هيكل مصير إسرائيل بواشنطن، محذراً من تجاهل هذا الارتباط في أي قراءة للصراع.ا
رأى الأستاذ هيكل أن المنطقة شهدت انهيار المشروع القومي العربي وبروز مشروعات متنافسة: غربي ـ أميركي بأدوات التقسيم والفتنة، تركي طامح، إيراني ناشئ، وإسرائيلي متربص. واعتبر أن "سايكس ـ بيكو" الجديدة ليست مجرد إعادة رسم للحدود، بل تقسيم للموارد والنفط والمواقع الاستراتيجية. وأشار إلى أن ما جرى في ليبيا والعراق نموذج واضح، حيث وزعت الامتيازات النفطية بين القوى الكبرى، وأُنشئت قواعد عسكرية ومراكز نفوذ، في سياق يعيد صياغة الإقليم وفق مصالح الغرب.ا
إرث هيكل في الوعي العربي:ا
لا تزال مكانة الأستاذ هيكل راسخة في الوعي العربي، ككاتب وصحفي ومفكر يُستشهد بكلماته وتحليلاته حتى بعد رحيله. فقد تميز بأسلوب يجمع بين العمق التحليلي والقدرة على تبسيط القضايا المعقدة، مما جعل مقالاته وكتبه مرجعاً دائماً للباحثين والقراء، وفتح باباً لفهم التاريخ من داخل وقائعه لا من ظاهرها فقط. هذه المكانة لم تأتِ من كونه شاهداً على عصر حافل بالتحولات الكبرى وحسب، بل لأنه مارس دور المؤرخ وصانع الوعي في آن واحد، حيث جمع بين رصد الحدث وقراءته في سياق أوسع.ا
إلى جانب ذلك، أسهم هيكل بوضوح في صياغة خطاب “المقاومة” بالمعنى السياسي والفكري، إذ رأى أن الهزائم لا تعني الاستسلام، وأن الإرادة الشعبية هي السند الأهم في مواجهة الاحتلال والتبعية. ولذا احتفى بتجارب المقاومة في فلسطين ولبنان، ورأى فيها تعبيراً عن طاقة الأمة الكامنة التي لم تنكسر رغم الانتكاسات. وفي كتاباته كان يربط دوماً بين المقاومة والوعي السياسي، باعتبارهما شرطين متلازمين لبناء مستقبل عربي أكثر استقلالاً.ا
أما حضوره في وجدان القراء، فقد ظلّ حيّاً باعتباره “أستاذ الجيل” وصوت العروبة المعبر عن آمالها وأحلامها وتناقضاتها. الأستاذ هيكل لم يكن مجرد ناقل للأخبار أو مفسر للسياسة، بل كان مدرسة فكرية متكاملة تركت أثرها العميق في الثقافة السياسية العربية، وما زال صدى صوته يتردد بين الأجيال.ا
لقد تحوّل الأستاذ هيكل، عبر توثيقه وقراءته التحليلية، إلى ذاكرة حيّة للصراع العربي ـ الإسرائيلي: راصد للوقائع، ومفسّر لجذورها، وموثّق لتقلبات السياسة والقرار. لذا فإن العودة إلى قراءاته اليوم ليست استعادة للماضي فحسب، بل استدعاء لوعي استراتيجي لا يزال صالحًا لفهم التحولات المعاصرة ـ ودرسًا في كيف تُقرأ الخرائط واللاعبون والموارد، لا بالارتجال العاطفي بل بالتصور العقلاني المدجَّج بالمعطيات.ا
ومع هذا الإرث تتضح حاجة الأمة لأقلام تمتلك شجاعة هيكل في قول الحقيقة وربطها بمشروع عربي مقاوم واضح الأهداف؛ أقلام لاتلهث خلف الخطاب الرنان ولا تُخفّف من الخطر، بل تصوغ خطابًا يخاطب العقل والضمير معًا، ويبني وعيًا عمليًا للقوة والسياسة.ا
ويُذكر قوله التحذيري والصارم الذي يلخّص موقفه:ا
"إسرائيل الكبرى، الحلم الصهيوني أولاً، وإسرائيل الصغرى تُرسم أخيراً.ا
السلام سلامان: واحد لنا وآخر علينا. الأول نصنعه والثاني مستورد.ا
لابد أن تتكلم أرضنا العربية: لا تستطيع أن تتكلم العبرية، كوننا سنناجي شهدائنا، وسنقرأ الفاتحة ـ الشهداء لم يتعلموا العبرية، والفاتحة لا تُقرأ إلا بالعربية".ا
هذا الخطاب يذكّرنا بأن الصحافة الفاعلة ليست مجرد نقل، بل صناعة ذاكرة واستنهاض لوعي استراتيجي قادر على مواجهة الواقع وبناء بدائل.ا
كاتب وباحث في الشأن الثقافي والفكري