Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

ما ينطبق على ألمانيا يتكرر في أوروبا. في فرنسا، اندلعت احتجاجات "السترات الصفراء" عندما ضربت ضرائب الوقود الطبقة العاملة بشكل غير متناسب

ستيفن كنابه

ملاحظات من رجل غربي عن العالم اليوم

هل تساءلت يوماً عما يحدث حقاً في هذا العالم؟ ربما لديك فكرة، لكن هناك دائماً ذلك العائق: المنظور. فلفهم العالم ينبغي أن تفهم وجهات نظر الآخرين، حتى تلك التي قد نعتبرها غير ذات صلة أو بعيدة. هنا، يحاول رجل عادي من الغرب أن يصوغ أفكاره في كلمات: تأملات حول ما يحرّك "العالم الغربي"، وخاصة الأوروبيين، وربما الألمان أكثر من غيرهم. وجهة نظره مزيج من النظرية والواقعية السياسية، في محاولة لفهم الفوضى والتناقضات التي تحدد عصرنا. لذا، بإمكان القارئ الانضمام إليّ في رحلة، قد تُروى على عدة أجزاء، أملاً في أن أقدم رؤى جديدة تمنحني فرصة التفكير فيما ظننت أني فهمته.ا

كيف بدأت الرحلة

أصبح الأمر أشبه بطقس معتاد. كل حديث من أحاديثي الأخيرة لا يبدأ بجدول أو إحصائية، بل بصورة باهتة الحواف، مفرطة التعريض قليلاً. تُظهر جدي وأبي، رجلين لم يعودا على هذه الأرض، لكن حضورهما لا يزال يشكل كل كلمة أنطقها وكل فكرة أشاركها.ا

هناك ذكرى معينة ذاتية جداً. أجلس متربعاً على أرضية غرفة المعيشة، طفل في الرابعة أو الخامسة، عيناي واسعتان من الدهشة بينما نشاهد معاً مسلسل "ستار تريك". جدي بجانبي، وأبي على الأريكة خلفنا. كنا نضحك على سخف جهاز الاتصال، نتجادل حول ما إذا كان "النقل الآني" ممكن علمياً، ونصمت أمام الرسائل العميقة للمسلسل عن الانتماء، الاستكشاف، والاختلاف. حتى في ذلك الوقت، أعتقد أنني فهمت أن هذا لم يكن مجرد تلفزيون، بل شيء أكبر. طقس هادئ للتواصل، لنقل القيم عبر الأجيال، حتى لو لم تكن لدينا الكلمات لوصفه آنذاك.ا

لكن ليست كل الذكريات دافئة. إذ يحمل بعضها برودة الظلم. ما زلت أرى أبي، بشعره الداكن، شاربه الكثيف، ووقفته التي تشع كبرياء، يُشار إليه بأنه "أجنبي" في البلد الذي وُلد فيه. كانت هذه سبعينيات القرن الماضي، ورغم تحدثه الألمانية بطلاقة، ورغم عمله الجاد، مساهمته، وعيشه كأي مواطن آخر، بقي هذا اللصق. "فلوختلينج"، كانوا ينادونه. لاجئ. تحمله بكرامة، لكنني رأيت الألم في عينيه.ا

لفهم هذا، يجب معرفة القصة خلف الكلمات. جاء جدي وأبي من أراضٍ لم تعد تنتمي إلى ألمانيا بعد عام 1945. تحركت الحدود، قلب التاريخ صفحته، وأصبحا بين ليلة وضحاها مشردين، جزءاً من الملايين الذين أصبحت منازلهم وطناً لآخرين. الكلمة التي نستخدمها في كتب التاريخ هي "فيرتريبونج"، أي طرد. لكن خلف هذه الكلمة وجوه، أصوات، وقصص عائلية. خلفها طفل صغير يشاهد "ستار تريك" مع رجلين حملا عوالم كاملة على أكتافهما.ا

هذه الذكريات المبكرة، من الضحك، الخسارة، وألم التشرد الصامت، هي ما قادني في أوائل تسعينيات القرن الماضي لدراسة التاريخ والسياسة. كانت الحرب الباردة قد انتهت للتو. سقط جدار برلين، ومعها، بدا أن الخط الفاصل العظيم للقرن العشرين قد زال. لكن مناهج الجامعة ما زالت تحمل بصمة ذلك العصر البائد: عقائد الاحتواء، نظرية الردع، الحروب بالوكالة، والقطبية الأيديولوجية. كثير مما قرأناه بدا وكأنه ينتمي إلى زمن آخر. ومع ذلك، كانت الدروس محفورة بعمق. درسنا تشريح الحرب، آليات السلطة، وربما الأهم: الثمن الذي تفرضه الصراعات على حياة الناس العاديين.ا

وفي تلك السنوات أيضاً، وصلت إلينا مقالة فرانسيس فوكوياما الشهيرة "نهاية التاريخ"، وأشعلت نقاشات لا حصر لها في غرف السيمينار وفي السهرات الطويلة. جادل فوكوياما بأن الديمقراطية الليبرالية قد تمثل نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للإنسانية، وأن التاريخ، بمعنى فلسفي، قد بلغ ذروته. لن تكون هناك بدائل كبرى، ولا ثورات فكرية جديدة، فقط تطور بطيء للحكم الديمقراطي واقتصادات السوق عبر العالم. سيسود السلام، الازدهار، والعقل.ا

كنا نصدق ذلك:ا

كان هناك يقين هادئ، أشبه بالنشوة، بين كثير منا نحن الطلاب، بأننا نقف على عتبة عصر ذهبي. مع انتهاء المعارك الأيديولوجية، تخيلنا أنفسنا مهندسين لعالم أفضل، مبني ليس على الانقسام، بل على التعاون، الحرية، والعدالة العالمية. تحدثنا عن التكامل الأوروبي، المجتمعات المفتوحة، حقوق الإنسان كعملة عالمية. بدا الأمر حتمياً. لكننا كنا مخطئين. ليس فقط في استنتاجاتنا، بل في افتراضاتنا. وهمُ النصر غشى بصيرتنا، وأضعف حذرنا. أخطأنا في تفسير غياب الأعداء المرئيين على أنه سلام، وتوسع الأسواق على أنه تقدم أخلاقي. كنا، عند النظر إلى الوراء، مخدوعين بأيديولوجيتنا الخاصة، ليبرالية بدت واضحة جداً لدرجة لا تحتاج إلى تساؤل، طيبة جداً لدرجة لا تحتاج إلى نقد. وبينما تحدثنا عن الانفتاح، أغمضنا أعيننا عما كان يغلي تحت السطح.ا

أسرع، أكثر ديناميكية، أكثر إرباكاً:ا

التغييرات التي كانت تستغرق عقوداً، تحدث الآن في أشهر، أحياناً في أيام فقط. التقنيات، الأحداث السياسية، والتحولات الثقافية تتساقط كأحجار الدومينو، تاركة وقتاً ضئيلاً للتوقف، المعالجة، الفهم. نحن نعيش في عصر يبدو فيه أن الأرض تحت أقدامنا تتحرك أسرع من أن نلتقط أنفاسنا—والتحدي ليس فقط في مواكبة ذلك، بل في إيجاد المعنى وسط التسارع المستمر.ا

سَمِّه التخريب:ا

اليوم، كلمة واحدة تبدو وكأنها تتردد عبر العناوين، قاعات الاجتماعات، مراكز الأبحاث، وغرف المعيشة: "التخريب". إنها كلمة تنتمي في الأصل إلى عالم التكنولوجيا والأعمال، تُستخدم لوصف الابتكارات التي لا تحسن الأسواق فحسب، بل تقلبها رأساً على عقب، مثل استبدال الهواتف الذكية بالهواتف الأرضية، أو اختفاء الأقراص المدمجة مع ظهور البث الرقمي. لكن الكلمة تجاوزت منذ زمن قفصها الأصلي. الآن، تصف شيئاً أعمق: الاهتزاز المستمر لأساساتنا السياسية، الاقتصادية، البيئية، والنفسية. التخريب لم يعد مرحلة أو موضة؛ إنه الهواء الذي نتنفسه.ا

وهكذا، أجدني أنفض الغبار عن الكتب التي حزمتها ذات يوم بثقة الشخص الذي اعتقد أنها لن تكون ضرورية مرة أخرى. نظريات القوة، الصراع، الانهيار والتجديد، التي قرأتها منذ سنوات بفضول الطالب، عادت الآن بأهمية تفرض الواقع. لقد تقبلت شيئاً كان يوماً ما يشبه الخيانة للأمل: أن رؤية عالم يتحسن بثبات، حيث التقدم خطي والعدالة حتمية، قد تحطمت. وعود التسعينيات تلاشت في عصر جديد، لا تحكمه اليقينيات، بل الأسئلة.ا

نحن ندخل زمناً يجب أن نسأل فيه أنفسنا، بهدوء وإلحاح، ما يعنيه هذا الانفصال. ليس بمعنى أكاديمي مجرد، بل في قراراتنا اليومية، سياساتنا، أنظمتنا التعليمية، وعائلاتنا. ليس الجميع متأثرين بالتساوي؛ الجغرافيا والامتياز ما زالا يرسمان خطوطاً قاسية على الخريطة. لكن حتى داخل المجتمعات المستقرة نسبياً في ما يُسمى بالغرب، الأرض لم تعد ثابتة.ا

ما يميز هذه اللحظة عن الأزمنة السابقة هو السرعة والشدة المفرطتان للتغيير، وتيرة تطور لم يُشهد لها مثيل في كل تاريخ البشرية بهذا الحجم. يبدو كما لو أن التاريخ نفسه غير سرعته، متسارعاً بما يفوق قدرتنا على الفهم أو التكيف. إذن، كيف يبدو المنظور الغربي اليوم، إن كان صادقاً، متواضعاً، وقادراً مع ذلك على الأمل؟.ا

من هنا، فإن هذه المقالة دعوة، ليس للحكم، بل للفهم.ا

ما يمكن توقعه:ا

تسير السطور التالية على مسار تشكَّل عبر سنوات من الملاحظة، والتأمل، والاعتراف بخيبة الأمل. في الجزء الأول، سأحاول تتبع بعض الأنماط العميقة، والقوى، والموضوعات المتكررة التي تكمن وراء التطورات العالمية الحالية. هذه ليست أحداثاً عشوائية، بل مظاهر لديناميكيات أكبر، ما أسميه "العمليات الأربع الأساسية للتخريب" (سأتناول في هذا المقال ثلاثة منها فقط، نظراً للمساحة المتاحة لي، على أن أستكمل الحديث فيها في المقالات التي ستنشر تباعاً) ليست دائماً مرئية على السطح، لكنها تشكل مسار الأحداث مثل تيارات خفية تحت مياه مضطربة.ا

أما في الجزء الثاني من هذه المقالة (كذلك الجزء الثاني بالإضافة إلى الجزأين الثالث والرابع ستُنشر تباعاً في الأعداد القادمة)، سنستكشف بعض الحقائق السياسية الحالية التي تجسد هذه الديناميكيات بوضوح: حرب أوكرانيا ودور روسيا المتغير في العالم، التوترات الداخلية للاتحاد الأوروبي وهشاشته الخارجية، والولايات المتحدة كقوة متصدعة تبحث عن هوية جديدة. هذه ليست أزمات منعزلة، ولا فصولاً منفصلة في كتب مختلفة، بل هي جزء من سردية عالمية واحدة، متشابكة، متأثرة ببعضها، وغالباً ما تتطور بطرق يصعب علينا فهمها.ا

كذلك في الجزء الثالث، سنسلط الضوء على شخصية واحدة: دونالد ترامب. ليس لأنه الزعيم الأكثر أهمية في العالم اليوم (فهو ليس كذلك)، بل لأنه يجسد قوى التخريب السياسي والثقافي التي تعيد تشكيل الغرب. من خلال مسيرته، يمكننا استكشاف حدود القوة التي يمكن لشخص واحد أن يمارسها على مسار الأحداث العالمية. معاً، سنبحث عن إجابات: لماذا، وكيف، ولأي غرض. هذا ليس عن رجل واحد فحسب، بل عن القوى التي يمثلها، والانقسامات التي يكشفها، والأنظمة التي يتحداها ويستغلها في الوقت نفسه.ا

أما الجزء الرابع والأخير فيوجه نظره إلى "الشرق الأدنى والأوسط"، محاولاً فهم ما يمكن أن تعنيه الديناميكيات التي استكشفناها؛ التغير المناخي، التفتت السياسي، الاضطراب الاقتصادي، والتحول التكنولوجي لهذه المنطقة. إنها محاولة لا للحكم، بل للفهم؛ لرؤية كيف تنتشر التخريبات العالمية، مشكِّلة حياة وسرديات ومستقبلات تتجاوز بكثير حدود ما يُسمى بالغرب.ا

لفهم كل هذا، يجب أن نتبنى عقلية مختلفة: عدسة نظامية. بدونها، يبدو العالم فوضى من العناوين. بها، نبدأ في رؤية البنية، والعلاقات، وحلقات التغذية الراجعة، والأنماط التي تتكرر وتتعزز. لكن هذا التحول ليس سهلاً. فهو يتطلب منا التخلي عن وهم أن للأحداث أسباباً وحيدة أو ثنائيات أخلاقية واضحة. ويطالبنا بالتوقف عن البحث عن أشرار وأبطال بسطاء، والسؤال بدلاً من ذلك: ما الديناميكيات الجارية؟ ما المعتقدات التي تتصادم؟ أي ماضٍ يُعاد تمثيله؟ا

محركات التخريب:ا

التغيّر المناخي: القوة التي لا تُوقف والتي اخترنا تجاهلها.ا

لنبدأ بموضوع ما زال يفاجئ الكثيرين، ليس لأنه مجهول، بل لأننا تعلمنا جماعياً أن ننظر بعيداً عنه، إنه "التغير المناخي".ا

ببساطة، يشير التغير المناخي إلى تحوّل طويل المدى في أنماط درجة الحرارة والطقس على الأرض، مدفوعاً بأنشطة بشرية، منها حرق الوقود الأحفوري. هذا ليس حدثاً مستقبلياً أو خطراً نظرياً؛ بل هو عملية متسارعة تشكل عالمنا بالفعل. التغير المناخي لا يتعلق فقط بصيف أكثر حرارة، بل بانهيار أنظمة كاملة.ا

أنت لا تحتاج للسفر بعيداً لترى آثاره. في أوروبا، التي كانت تُعتبر واحة استقرار، الأعراض موجودة بالفعل: فيضانات مفاجئة تدمر قرى، انهيارات أرضية وتآكل التربة يبتلع الحقول والغابات، فشل المحاصيل، ووفيات بسبب موجات الحر والطقس المتطرف. هذه ليست شذوذات، بل هي "الوضع الطبيعي الجديد". وهي مجرد البداية.ا

العلم أوضح شيئاً واحداً: هذه العملية لم تعد قابلة للعكس على المدى القصير. حتى لو توقفنا عن جميع الانبعاثات غداً، فإن الأرض في طريقها بالفعل للاحترار بمتوسط 4 درجات مئوية بحلول عام 2100. قد يبدو هذا مجرداً، لكنه ليس كذلك. تخيل أجزاء من الأمازون تتحول إلى صحراء. تخيل اختفاء الجليد القطبي الشمالي تماماً، وتقلص القطب الجنوبي إلى نصف حجمه الحالي. تصور العواقب على الزراعة، التنوع البيولوجي، إمدادات المياه، والسكن البشري. لا تحتاج إلى خيال واسع لفهم ما يعنيه هذا من نزوح، وهجرة، وعدم استقرار جيوسياسي.ا

ومع ذلك، فإن أوروبا، القارة التي وعدت يوماً بقيادة العالم في العمل المناخي، استسلمت بصمت. تحولت اللغة السياسية. حل "التكيف مع المناخ" محل "التخفيف من حدته". لم يعد الهدف منع ما سيأتي، بل الاستعداد لصدمته. لماذا؟ ببساطة: لأن الاقتصاد ما زال أهم من الهواء النظيف، أو درجات الحرارة الآمنة، أو نزاهة النظم البيئية. صناع القرار السياسي يواصلون تفضيل الأداء الاقتصادي قصير المدى على الاستقرار الكوكبي طويل الأجل. ولعل المفارقة الأكثر مأساوية هي أن كثيرين ممن يتخذون القرارات اليوم لن يعيشوا ليواجهوا عواقب تقاعسهم.ا

ألمانيا، إحدى أغنى الدول وأكثرها تقدماً تكنولوجياً، كان يمكنها (بل يجب عليها) أن تقود الطريق. لكن ألمانيا دولة تصدير. القوة الاقتصادية هي هويتها، سرديتها، وعملتها السياسية. الحكومة الحالية، المحاصرة بين الوعود البيئية والمخاوف الاقتصادية، تواجه الآن تحديات خطيرة: تعريفة أمريكية تهدد تدفقات التجارة العالمية، منتجات صينية مدعومة حكومياً تغرق الأسواق الأوروبية، واعتماد متزايد على سلاسل التوريد العالمية التي أصبحت هشة بشكل متزايد.ا

الصين، التي يعتمد شرعها السياسي على النمو الاقتصادي المستمر، توسع صادراتها بقوة، خاصة إلى أوروبا. وفي مفارقة مريرة، فإن السيارات الكهربائية الصينية تكتسب حصة سوقية سريعة في ألمانيا نفسها، مما يقوض الصناعة التي بنت البلاد ازدهارها عليها. من الصعب تفويت السخرية: في محاولتها حماية اقتصادها من التخريب، أصبحت ألمانيا أكثر عرضة له.ا

في الوقت نفسه، أصبح مصطلح "التغير المناخي" ساماً سياسياً. الناس تعبت من سماعه. الحكومة الألمانية السابقة، التي انتخبت على منصة التحول الأخضر، فشلت في إدراك حقيقة أساسية: ليس الجميع قادرين على تحمل تكلفة تكنولوجيات المستقبل. الدعم والإعفاءات الضريبية للسيارات الكهربائية والألواح الشمسية انتهى بها الأمر إلى إفادة الأثرياء القادرين على الشراء أولاً، ثم خصم التكلفة. في الواقع، دعم الفقراء استدامة الأغنياء. وتبع ذلك استياء.ا

ما ينطبق على ألمانيا يتكرر في أوروبا. في فرنسا، اندلعت احتجاجات "السترات الصفراء" عندما ضربت ضرائب الوقود الطبقة العاملة بشكل غير متناسب. في بولندا، تخنق المخاوف الاقتصادية النقاش المناخي الجاد. في المملكة المتحدة، التعهدات المناخية غالباً ما تكون بلاغية أكثر من كونها حقيقية. وفي هولندا، حيث ربع الأراضي بالفعل تحت مستوى سطح البحر، علقت حكومات يمينية إجراءات الحماية المناخية مثل توسيع السدود والاستعداد للفيضانات لصالح إغاثة اقتصادية قصيرة المدى. بحلول عام 2100، هناك احتمال حقيقي أن تغمر المياه نصف هولندا. ومع ذلك، تبقى القرارات المتخذة اليوم قصيرة النظر بشكل مدهش.ا

لنضع الأمور في منظورها الصحيح: وفقاً لعدة دراسات اقتصادية عالمية، فإن تكلفة تنفيذ إجراءات حماية مناخية شاملة، وبنية تحتية للطاقة المتجددة، وإزالة الكربون من الصناعات، واستعادة النظم البيئية، ستصل إلى حوالي 1 - 2% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي سنوياً. هذه، من الناحية النسبية، استثمار يمكن إدارته، يشبه تقريباً الإنفاق العسكري العالمي أو التكلفة السنوية لهدر الطعام.ا

في المقابل، من المتوقع أن تكون تكلفة التقاعس أعلى بكثير. مع نهاية القرن، قد تستهلك الأضرار المرتبطة بالمناخ—من خلال ارتفاع مستويات البحار، وأحداث الطقس المتطرف، وفقدان الإنتاج الزراعي، والأزمات الصحية، والهجرة القسرية—ما يصل إلى 10 - 20% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي سنوياً، خاصة في المناطق الضعيفة. هذا يعني خسارة تريليونات الدولارات سنوياً، وأضراراً لا يمكن إصلاحها للنظم الاجتماعية والبيئية. لقد تم تقديم الحجة الاقتصادية لصالح العمل المناخي منذ زمن؛ المأساة هي أنها تُتجاهل ليس لأن التكاليف مرتفعة جداً، بل لأن العواقب بعيدة جداً عن أن تؤثر على دورات الانتخابات وأرباح الشركات اليوم.ا

تحت رئاسة دونالد ترامب، لم تنسحب الولايات المتحدة (أكبر اقتصاد في العالم) من الجهود المناخية الدولية فحسب، بل أنكرت بشكل فعال وجود التغير المناخي كتهديد مشروع. أحد قراراته الأولى والأكثر رمزية كان الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، مما أشار إلى تراجع عن التعاون والمسؤولية العالمية. بدلاً من ذلك، ضاعف وإدارته من الاعتماد على الوقود الأحفوري، مشجعاً الفحم، وموسعاً التنقيب البحري، ورافعاً القيود البيئية باسم النمو الاقتصادي والاستقلال الاقتصادي. وراء هذا التحول العدواني تكمن حقيقة مالية قاسية: الولايات المتحدة غارقة في الديون، على حافة عدم الاستقرار المالي، بدين وطني يتجاوز الآن 36 تريليون دولار. أصبح السرد السياسي يدور حول بقاء الاقتصاد المحلي بأي ثمن، حتى لو كان الثمن هو الكوكب نفسه. في هذا السياق، فإن نهج ترامب ليس سياسة بيئية بقدر ما هو "إنقاذ اقتصادي"، مدفوعاً بإيمان بالصفقات أكثر من البيانات، ونظرة عالمية ترى العمل المناخي كرفاهية لم تعد الأمة قادرة على تحملها.ا

قاعدة ترامب السياسية تتكون إلى حد كبير من الناخبين الريفيين، والعمال الصناعيين في المناطق المتراجعة، والمحافظين الإنجيليين، والمجموعات المهمشة اقتصادياً التي تشعر بأن العولمة تخليت عنها والنخب الليبرالية خذلتها. بالنسبة للكثيرين منهم، أصبحت حماية المناخ رمزاً للنظام نفسه الذي تخلى عنهم: أمريكا حضرية، أكاديمية، غنية، تصدر لوائح بينما تتجاهل واقعهم. توربينات الرياح بدلاً من وظائف الفحم، سيارات كهربائية بدلاً من الشاحنات، ضرائب كربون بدلاً من إعفاءات ضريبية—هذه ليست علامات تقدم بالنسبة لهم، بل خسارة: للهوية، العمل، والكرامة. في هذا السياق، لا يُنظر إلى التغير المناخي كحقيقة علمية، بل كبناء سياسي، مشروع نخبوي يهدف إلى إعادة توزيع السلطة. ترامب لم يخترع هذا الاستياء، لكنه ضخمه بمهارة: عبر سرديات الحرية مقابل التنظيم، السيادة الوطنية مقابل الأخلاقية العالمية. إذن، فإن مقاومة العمل المناخي ليست حقائق بقدر ما هي تحدٍ ثقافي، وهنا بالضبط تكمن قوته التخريبية.ا

تآكل الوسط السياسي: عندما يصبح التوازن هشاً

إذا كان التغير المناخي يمثل اضطراباً في أنظمتنا الطبيعية، فإن تآكل الوسط السياسي يمثل اضطراباً عميقاً في أنظمتنا الديمقراطية. فلعقود من الزمن، ظل الوسط السياسي (وإن كان مملاً أحياناً وعملياً في أغلب الأحيان) يحافظ على التوازنات التي جعلت المجتمعات التعددية تعمل. لم يكن مبهراً، لكنه كان مستقراً. لقد أدار التوترات، وحوَّل الخلافات إلى سياسات، ووقف لصالح التغيير التدريجي بدلاً من الانقسام الأيديولوجي. في العديد من الديمقراطيات الغربية، خاصة بعد الحرب الباردة، أصبح الوسط افتراضاً مسلَّماً به: مكان تتبادل فيه أحزاب اليمين واليسار المقاعد بين الحين والآخر، لكنها نادراً ما تتحدى النظام نفسه.ا

لكن هذا الوسط يتهاوى الآن. والناخبون يبتعدون عنه، إما نحو اليمين المتطرف، أو اليسار الراديكالي، أو ببساطة نحو اللامبالاة. تتصاعد الحركات الشعبوية في جميع أنحاء العالم، وكثير منها لا يوحدها رؤية مشتركة، بل عدو مشترك: النخبة الحاكمة. وفي محاولة الوسط إرضاء الجميع وعدم استفزاز أحد، فشل في كثير من الأحيان في الدفاع عن أي شيء. ومع تفاقم انعدام الأمن الاقتصادي، والهجرة، والتضليل الرقمي، والاستقطاب الثقافي، تكافح الأحزاب التقليدية للتكيف، وفي كثير من الحالات، تنهار تحت وطأة توقعات لم تعد قادرة على تلبيتها.ا

هذا التآكل ليس مجرد تحول سياسي، بل هو "تصدع نظامي".  وبدون وسط يعمل، تفقد الديمقراطيات قدرتها على امتصاص الصدمات. الآليات التي كانت تسمح بالنقاش والتوافق وإعادة التعديل تبدأ في التعطُّل. بدلاً من التعقيد، نحصل على تبسيط مخل. بدلاً من التفاصيل الدقيقة، شعارات جوفاء. بدلاً من النقاش، هناك انقسام. وحالما يصل الاستقطاب إلى حد معين، تبدأ حتى أكثر المؤسسات المصممة بعناية في الفشل، ليس بسبب القوانين السيئة، بل بسبب "النوايا السيئة".ا

نحن نرى هذا يحدث أمام أعيننا. في الولايات المتحدة أعاد الحزب الجمهوري تشكيل نفسه على صورة شخصية واحدة هي دونالد ترامب، بينما يعاني الديمقراطيون للحفاظ على تماسك ائتلاف يتفتت أكثر فأكثر. في فرنسا، يحكم إيمانويل ماكرون بلداً اختفت فيه الأحزاب التقليدية لليسار واليمين تقريباً. في ألمانيا، الأحزاب الشعبية التي كانت مهيمنة في الماضي تتقلص، بينما تزداد الأطراف المتطرفة قوة. في إيطاليا، بولندا، المجر، هولندا، يتكرر النمط نفسه.ا

عندما يختفي الوسط، نفقد قدرتنا على تحمل التناقضات، أو رؤية وجهات النظر المعارضة كشرعية، أو الاعتقاد بأن التعقيد شيء يمكن إدارته بدلاً من الخوف منه. في مثل هذا المناخ، تزدهر الشعبوية، مقدمةً وضوحاً بلا مضمون، وهوية بلا تضامن، ولوماً بلا مسؤولية. أما الوسط، الذي يعجز عن الإلهام أو الحماية، يصبح الضحية الصامتة لعصر جديد صاخب.ا

وعْدان لم يتحققا في قلب الاضطراب الحالي:ا

في صميم الاضطراب الحالي، تكمن حقيقة صامتة نادراً ما تُنطق؛ الوعدان التوأمان للديمقراطية والرأسمالية (ركيزتا الغرب الحديث) لم يتحققا لكثير من الناس. لقد وعدت الديمقراطية بالمشاركة، والمساواة، والكرامة، وقوة الشعب. ووعدت الرأسمالية بالازدهار، والابتكار، والحراك الاجتماعي لمن يعمل بجد. لكن في العقود الأخيرة، أظهر كلا النظامين علامات إرهاق، ووصولاً إلى حدودهما الداخلية. لقد اتسعت الفجوة بين ما وُعد به وما يُعاش. الأجور راكدة بينما تكاليف المعيشة ترتفع. الوصول إلى النفوذ السياسي لا يزال مقيداً بالثروة. أصحاب المليارات يتحدثون بصوت أعلى من صناديق الاقتراع. بالنسبة للكثيرين، أصبحت الديمقراطية طقساً من العجز، والرأسمالية آلة تستخرج أكثر مما تعطي.ا

لم يعد مصطلح "نهاية الرأسمالية" حكراً على المنظرين الهامشيين، بل دخل الخطاب الجاد.  حتى المطلعون على عالم الأعمال يعبرون عن قلقهم. وارن بافيت، أحد أبرز المستفيدين من الرأسمالية، حذر علناً من أن النظام مائل بشكل خطير. "كانت هناك حرب طبقية تدور منذ 20 عاماً، وطبقتي هي التي انتصرت"، في الوقت الذي يجادل فيه اقتصاديون مثل توماس بيكيتي بأن تراكم رأس المال غير المَقود يؤدي حتماً إلى الأوليغارشية ما لم تُجرَ إصلاحات هيكلية. وفي الوقت نفسه، يتساءل باحثون من معاهد مثل وأكسفورد، عما إذا كانت الرأسمالية، في صورتها المعولمة والمُموَّلة حالياً، قادرة على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين؛ المناخ، عدم المساواة، الأتمتة، دون أن تمزق نفسها.ا

ماذا عن الديمقراطية؟

لفهم أزمتها الحالية، قد يبدو مفيداً العودة إلى أرسطو الذي وصّف نظرياً دورة الأنظمة السياسية على النحو التالي: من الملَكية إلى الأرستقراطية إلى الحكومة الدستورية، ثم عبر الفساد إلى الطغيان، والأوليغارشية، وحكم الغوغاء. كل نظام، كما قال، يحمل في داخله بذور سقوطه. عندما تنفصل الديمقراطية عن الفضيلة، وعندما تتحول المشاركة إلى لامبالاة، والحرية إلى فوضى، تتحول إلى الديمقراطية إلى أوكلوقراطية (حكم الغوغاء). نحن نرى ها هنا تراجعاً ديمقراطياً في بلد تلو الآخر: قادة منتخبون يهدمون المؤسسات، ويُضعفون شرعية الصحافة، ويتلاعبون بالقضاء، ويركزون السلطة بينما لا يزالون يزعمون أنهم ديمقراطيون. لكن المتغير ليس القادة فقط، بل **المزاج العام** أيضاً. ينتشر عدم الثقة. يتنامى السخرية. يتوقف الناس عن الإيمان بالحوار. ينسحبون إلى قبائلهم. وعندما يبدأ عدد كافٍ من المواطنين في رؤية العمليات الديمقراطية على أنها عقيمة أو مزورة، يبدأ النظام نفسه في التآكل من الداخل. وما تبقى هو "قشرة الديمقراطية"، بلا جوهر.  

هذا لا يعني أن الديمقراطية أو الرأسمالية محكوم عليهما بالفشل بطبيعتهما. لكنهما نظامان قابلان للتكيف، وليسا مثاليين ثابتين. عندما يتوقفان عن التطور، يبدآن في الانهيار. والآن، كليهما يتخلفان عن سرعة التعقيد العالمي، غير قادرين على معالجة الاضطرابات التي ساعدا في إطلاقها.ا

الهجرة: المفارقة الأكثر إثارة للدهشة

واحدة من أكثر الاضطرابات المفارِقة في عصرنا هي الهجرة. فهي من ناحية ضرورة ديموغرافية: معظم الدول الغربية تواجه شيخوخة سكانية، وقوى عاملة متناقصة، وأنظمة معاشات غير مستدامة. بدون هجرة كبيرة، لن تتمكن قطاعات حيوية مثل الرعاية الصحية، والنقل، والزراعة، والبناء من العمل. الهجرة ليست تهديداً للنظام، بل هي الفرصة الوحيدة لبقائه قابلاً للحياة. ومع ذلك، فإن صعود السياسات اليمينية في العديد من الدول حوّل الهجرة إلى ساحة معركة للخوف، والهوية، والحرب الأيديولوجية. في كثير من الحالات، فإن القوى السياسية نفسها التي تدعي الدفاع عن الأمة تقوض مستقبلها فعلياً بمقاومة القوة الوحيدة التي يمكنها تحقيق الاستقرار. خذوا مثل المملكة المتحدة. كانت البريكسيت في جوهرها تمرداً شعبوياً، تصويتاً لمغادرة الاتحاد الأوروبي، عُرض على الجمهور كوسيلة لـ"استعادة السيطرة". أحد أقوى الدوافع العاطفية له كان الوعد بأنه بإبعاد العمال الأجانب، ستتحسن حياة البريطانيين من الطبقة العاملة. لكن الواقع سار بطريقة مختلفة. مع مغادرة العمال من أوروبا الشرقية – الذين عمل كثير منهم كعمال مزارع، وسائقي شاحنات، وممرضين – بدأ الاقتصاد البريطاني في التعثر. أصبح النقص أمراً معتاداً. تعفنت محاصيل كاملة في الحقول. خلت رفوف المتاجر. والسخرية قاسية: محاولة حل مشكلة الهجرة المتصورة عمَّقت الألم الاقتصادي الذي زعمت أنها ستشفيه.ا

والأكثر دلالة، أن الهجرة الصافية إلى المملكة المتحدة زادت فعلياً منذ البريكسيت. لكن المهاجرون لا يأتون من داخل أوروبا، بل من مناطق مثل أفريقيا، والشرق الأوسط، وجنوب آسيا. تواجه هذه المجموعات تحديات اندماج أكبر بسبب اللغة، والتعليم، وإرث الاستعمار. أصبح المزاج العام أكثر عدائية، وزادت الرواية اليمينية المتطرفة حدتها.ا

وهنا يأتي كير ستارمر، رئيس الوزراء العمالي الحالي. الذي كان يُنظر إليه ذات يوم كبديل وسطي للفوضى المحافظة، أصبح الآن محاصراً بالروايات التي أرساها اليمين. تحت ضغط الظهور بـ"الصلابة في التعامل مع الهجرة"، تبنى خطاباً وسياسات تشبه تلك التي عارضها ذات يوم. أصبحت خطط الترحيل، وإجراءات اللجوء المقيدة، ومسرحيات الحدود الرمزية هي ما يشكل الخطاب السياسي. بدلاً من تحدي خرافة أن المهاجرين هم جذر الانحدار الوطني، أصبح ستارمر أسيراً لها – خوفاً من أن أي محاولة للتعامل بتفصيل ستكلفه أصوات الطبقة العاملة.ا

النتيجة هي حلقة مفرغة تتعمق: البلاد تحتاج إلى المهاجرين لكنها ترفضهم؛ تريد الاستقرار لكنها تحتضن رد الفعل؛ تبحث عن الانتعاش الاقتصادي بينما تدفع بعيداً الأشخاص الذين يمكنهم المساعدة في إعادة البناء.ا

ألمانيا: تناقض صارخ آخر.ا

تقدم ألمانيا مثالاً صارخاً آخر على هذا التناقض، خاصة في مناطقها الشرقية. في العديد من أجزاء ألمانيا الشرقية السابقة، أصبح حزب البديل من أجل ألمانيا القوة السياسية الرائدة. وهو حزب يستمد خطابه بقوة من التقاليد القومية، والاستبعادية، وأحياناً العنصرية الصريحة. أيديولوجيات كان يُعتقد أنها دُفنت منذ زمن في إجماع ما بعد الحرب. صعود حزب البديل ليس مجرد إشارة سياسية، بل هو انفصال ثقافي، يعكس الخوف، والإحباط، وخيبة الأمل.ا

ومع ذلك، يحكي الواقع الاقتصادي قصة مختلفة تماماً.  خذ شركة زييس (Zeiss)، الشركة العالمية الشهيرة في مجال البصريات والتكنولوجيا، والتي تُستخدم عدساتها الدقيقة وأنظمة التصوير الخاصة بها في كل شيء، بدءًا من الآيفون إلى تلسكوبات الفضاء. تقع الشركة في ينا (Jena) شرق ألمانيا، وتواجه تحديين وجوديين: الأول، نقص العمالة الماهرة، محلياً وعالمياً؛ والثاني، عدم القدرة على جذب عمال من غرب ألمانيا، الذين غالباً ما يرفضون الانتقال إلى منطقة أصبحت مرتبطة بشكل متزايد بالخوف من الأجانب والسياسات اليمينية المتطرفة. النتيجة هي مفارقة مدمرة: في منطقة تحتاج بشدة إلى الناس، فإن المناخ السياسي يدفعهم بعيداً بنشاط.ا

الفجوة المتسعة: عدم المساواة في الثروة كمحرك للسخط.ا

محرك رئيسي آخر للاضطراب، وربما الأكثر وضوحاً في الحياة اليومية، هو "التفاوت المتسارع بين الأغنياء والفقراء". لم يعد الأمر مجرد مشكلة اجتماعية؛ بل هو "تصدع نظامي" يقوِّض الثقة، والتماسك الاجتماعي، وشرعية الأنظمة الديمقراطية والاقتصادية نفسها.ا

في الاتحاد الأوروبي، ثمة 10% من الأسر تحوز على أكثر من 60% من إجمالي الثروة، بينما يمتلك الـ50% الأقل ثراءً أقل من 5% من إجمالي الثروة. هذه الفوارق ليست مجرد أرقام، بل مسائل تترجم إلى "واقعين مختلفين تماماً" على مستوى السكن (ارتفاع جنوني في أسعار العقارات يجعل امتلاك منزل حلماً بعيداً المنال للشباب). التعليم (حيث المدارس والجامعات الجيدة أصبحت حكراً على من يستطيعون دفع تكاليفها). الرعاية الصحية (حيث الأغنياء يحصلون على علاج فاخر، بينما ينتظر الفقراء شهوراً في قوائم الانتظار). والنفوذ السياسي (إذ يوجه أصحاب المليارات السياسات عبر جماعات الضغط، بينما يصوت المواطن العادي دون أن يُسمع صوته).ا

وهكذا، وفي العديد من دول الاتحاد الأوروبي الجنوبية والشرقية، تبقى بطالة الشباب مرتفعة بشكل صارخ، بينما تتجمد الأجور رغم ارتفاع تكاليف المعيشة. وفي الوقت نفسه، ترتفع أسعار الأصول (خاصة العقارات) بشكل جنوني، مما يفيد أولئك الذين يمتلكون رأس المال بالفعل ويحرمون الآخرين من الازدهار.ا

ألمانيا: محرك أوروبا ووجه آخر للفجوة

ألمانيا، التي تُعتبر غالباً محرك أوروبا الاقتصادي، ليست استثناءً. بل إن عدم المساواة فيها صادم بشكل خاص، فأغنى 1% من الألمان يمتلكون حوالي 35% من الثروة الخاصة، بينما يمتلك الـ50% الأقل ثراءً 1.3% منها. كما يكبر واحداً من كل خمسة أطفال في ألمانيا في الفقر، رغم العيش في واحدة من أغنى دول العالم. في مدن مثل برلين، هامبورغ، أو ميونخ، أصبح السكن بأسعار معقولة ذكرى بعيدة للكثيرين. وبينما تزداد محافظ الأسهم مبيعاً وتزدهر مبيعات السيارات الفاخرة، يعيش الملايين بعقود عمل غير مستقرة، ووظائف متعددة، وقلق متزايد من التقاعد.ا

هذه الأرقام ليست مجرد مؤشرات اقتصادية؛ بل هي "مشاهد عاطفية" تزيد من "الإحساس العميق بالظلم". إنها تفرغ الوسط السياسي من مضمونه، وتُفسح المجال للشعبويين، ونظريات المؤامرة، وللغضب بالتوجّه إلى الداخل أو الخارج. والنتيجة: نظام يغذي نفسه بالفشل. فعندما يشعر الناس أنهم "ليس لديهم ما يخسرونه"، يصبحون منفتحين على إجابات خطيرة. وعندما يستمر النظام في إفادة القلة بينما يطلب من الكثرة "الصبر"، يصبح الاضطراب حتمياً، وليس مجرد خطر. والضرر لا يبقى محلياً. سمعة المنطقة أو الدولة "تنتشر بسرعة" في عالم الأعمال العالمي. الشركاء الدوليون يصبحون حذرين. المواهب تبتعد. مكانة ألمانيا كاقتصاد موثوق به، منفتح، وقائم على الابتكار "تبدأ بالتآكل".ا

كاتب وباحث ألماني