Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

أمريكا أولاً، ليست سوى طبقة طلاء جديدة احتاجتها عقود من السياسات المحافظة الجديدة (والنيوليبرالية بما هي انعكاس للمحافظة الجديدة في الاقتصاد السياسي) لبيع مقدماتها لجيل جديد

دانييل يونسي

ماذا يعني شعار "أمريكا أولاً" حقًا؟

ككثير منا، سئمتُ التضليل واستنزاف المعاني والتلاعب بخوارزمياتها. لذا، دعوني أنتقل بالكلام إلى جوهر المعنى: شعار "أمريكا أولاً" ليس جديداً. وهو بالتأكيد ليس مختلفاً. في الواقع، "أمريكا أولاً" ليست سوى طبقة طلاء جديدة احتاجتها عقود من السياسات المحافظة الجديدة (والنيوليبرالية بما هي انعكاس للمحافظة الجديدة في الاقتصاد السياسي) لبيع مقدماتها لجيل جديد، وتتويج إدارة متشددة جديدة في محكمة الرأي العام. أن نتوقع سياسات خارجية جديدة، خاصة فيما يتعلق بدعم الولايات المتحدة للكيان الصهيوني، سيكون بأقل تقدير ضرباً من السذاجة. لن يتميز عصر "أمريكا أولاً" بالمزيد من نفس السياسات فحسب، بل سيؤدي حتماً إلى تصاعد التناقضات بين الولايات المتحدة والأطراف، مع كون فلسطين المؤشر الرئيسي للسياسة الإمبريالية في المستقبل القريب. هذا التدهور البشع ليس نتيجة لإدارة واحدة بعينها، بل هو استجابة عقلانية أداتية لتفتت الهيمنة الأمريكية وصعود التعددية القطبية العالمية. لو لم يكن دونالد ترامب موجوداً، كما يقول المثل، لكان من الضروري اختراعه.

لنستكشف كيف ولماذا وجد الكثيرون في الولايات المتحدة وخارجها أنفسهم قد خُدعوا مرة أخرى، علينا أن نبدأ بمفهوم الاستثنائية الأمريكية. هذه الفكرة، التي يمكن القول إنها بدأت مع أليكسيس دي توكفيل (Alexis de Tocqueville) لكنها صيغت بشكل منهجي من قبل المنظر البارز للمحافظين الجدد سيمور مارتن ليبست (Seymour Martin Lipset)، تنص أساساً على أن الولايات المتحدة حالة فريدة، استثنائية، أو مثالية مقارنة بغيرها من الأمم. أتذكر أنهم علموني هذا المفهوم كحقيقة لا تقبل الجدل في الأسابيع الأولى من دراستي للعلوم السياسية، وهي المسألة التي دفعتني إلى هجر هذا التخصص والاتجاه نحو الاقتصاد. حتى اليوم، أجري استطلاعات بين طلابي الجامعيين لمعرفة كم منهم تعلم هذه النظرية في صفوف العلوم السياسية؛ والمذهل أن الإجماع عليها لا يزال شبه تام عبر المناهج والبلدان.

لم تتجذر أفكار الاستثنائية الأمريكية في مجال العلوم السياسية الأكاديمية فحسب، بل إن درجة الهيمنة التي تمتع بها الإمبرياليون الأمريكيون خلال حياتنا أدت إلى استيعاب غير واعٍ للكثير من هذه الأساطير حتى من قبل أشد منتقديهم. بالتأكيد، نحن نفترض: "الانتخابات الجديدة تعني إدارة جديدة، سياسات جديدة، تغييرات جديدة". نقبل بصمت العملية الرسمية للانتخابات الأمريكية بينما نرى مثل هذه الانتخابات خدعة في أي مكان آخر (حتى عندما يخسر الحزب الديمقراطي المباراة عمداً، كملاكم مثقل بالديون). نحن نقبل بهدوء ديمقراطية الانتخابات الأميركية، بينما نعجز أن ننظر إلى نظام الانتخابات الإيراني الذي يتسم بالصراع بين المتشددين والمعتدلين، بنفس النحو. أحد هذين النظامين السياسيين يتطلب تبنياً كاملاً لمبادئه في السياسة الخارجية ومواقفه الاجتماعية ومبادئه الاقتصادية وحتى لغته وقواعده النحوية لكي يُؤخذ على محمل الجد.

المفارقة الكامنة وراء أي دولة أعلنت نفسها استثنائية هي أن تقول عن نفسها ما قالة الجميع. "الشمس لا تغرب عن الإمبراطورية البريطانية"، حتى غربت. وعندما تبدأ الشمس في الغروب، يصبح واجباً على القوة المتراجعة أن تقرر كيف تواجه انحسار النور. تماماً كما اشتد قمع فرنسا لحركة الاستقلال الجزائرية طوال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مما أدى إلى شبه انقلاب، فقد قررت الولايات المتحدة أيضاً أن تخرج رافضةً وصارخةً. في الواقع، الحالة الأمريكية الحالية تقدم لنا سيناريو تاريخياً مثيراً للاهتمام (وإن كان مرعباً): ماذا لو نجح الجنرالات الفرنسيون في الإطاحة بتشارلز ديغول؟ ماذا لو تم تصفية أحمد بن بلة وجميلة بوحريد بوحشية؟ ماذا لو كان كل جزائري وعائلته، بغض النظر عن قناعاتهم السياسية، هدفاً مستحقاً؟ هذه هي الزاوية التي يجب أن ننظر منها إلى إدارة ترامب الحالية: جهد أخير لتفاقم كل التناقضات بين الإمبراطورية ورعاياها، لاستخراج ما تبقى من مكاسب من القبور التي يحفرونها.

كما أكدت مقابلة فيفيك شيبير (Vivek Chibber) الأخيرة مع "جاكوبين"،[1] فإن التزاماً عميقاً بالسياسة الخارجية للمحافظين الجدد هو جوهر هذا النظام غير الجديد (من منح الكيان الصهيوني حرية مطلقة لتعميق إبادته الجماعية التي ستُخلد في التاريخ، مروراً بتغيير النظام في سوريا ودفعات عدوانية نحو التطبيع عبر الشرق الأوسط، وصولاً إلى الهدف الأسمى للمحافظين الجدد: الحرب مع إيران). لقد حققت الولايات المتحدة في تراجعها أهدافاً في السياسة الخارجية كانت لتفخر بها إدارة جورج دبليو بوش. "أمريكا أولاً" ليست قطيعة مع سياسة المحافظين الجدد، بل هي نزع كامل للقناع. إن "نشر الديمقراطية" لطالما كان نشراً للهيمنة الأميركية، و"المؤسسات" و"سيادة القانون" لم تكن سوى أدوات طالما خدمت تلك المصالح، و"السلام عبر القوة" كان عنواناً يرتكز على شطره الأخير فقط. في ضوء هذا الأمر، كان الكيان الصهيوني أداة لا تقدر بثمن للإمبراطورية، ساحة اختبار استعمارية لأبشع قدراتها التدميرية، لكن على مسافة آمنة تسمح بدرجة من الإنكار المعقول، مسافة كافية حتى لإقناع بعض منتقدي الكيان الصهيوني بأن الصهيونية هي في الحقيقة رأس الأفعى، وليس ذيلها. 

"أمريكا" التي يشير إليها شعار "أمريكا أولاً" هي الإمبراطورية. كانت دائماً الإمبراطورية، وستظل كذلك حتى تصبح الولايات المتحدة مجرد عملة احتياطية مع جيش متضخم ومصاب بالطاعون. يجب أيضاً أن يُنظر إلى الحماسة المفاجئة للتعريفات الجمركية في بعض أوساط السياسة بهذا المنظور. دانيال سارجنت (Daniel Sargent)، مثل العديد من الباحثين، يصف الليبرالية الجديدة ليس كأيديولوجية متماسكة، بل كتعبير عن القوة الأمريكية: ضد تدخل الدولة عندما تريد الولايات المتحدة دخول سوق ما، مع تدخل الدولة عندما يضرب عمالها في الخارج؛ مع حرية الحركة عندما يكون رأس المال هو الذي يتحرك، متشككة في حرية الحركة عندما تكون العمالة هي التي تتحرك؛ والأهم، مع التجارة الحرة عندما تحتكر الولايات المتحدة السوق، ومعارضة لها عندما تُهزم في المنافسة.[2] نقبل بهدوء دون أدنى شك أن "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية" تسمح للحكومة الصينية باستخدام أدوات السياسة الاقتصادية بشكل عملي لصالحها، لكننا نُجبر على الاعتقاد أن نفس النظرة الواقعية في الاقتصاد يجب أن تُعتبر حزمة سياسية متماسكة - بل ربما أيديولوجية كاملة - عندما تصدر عن واشنطن. خلافاً للعديد من الوسائل الإعلامية التي توقعت سقوط الليبرالية الجديدة، فإن الليبرالية الجديدة لن تنهار طالما شعرت الولايات المتحدة أن لديها هيمنة للحفاظ عليها. إنها أداة ستستبدل أدواتها فحسب. 

قد يكون هذا التحليل صادماً للكثيرين داخل الولايات المتحدة وخارجها ممن كانوا يأملون في شيء مختلف حتى ولو قليلاً، لكنه لا ينبغي أن يكون مفاجئاً. فحتى حلفاء ترامب السابقين المنعزلين المتشددين مثل مارجوري تايلور جرين (Marjorie Taylor Greene) وتاكر كارلسون (Tucker Carlson) يتم التخلي عنهم بسرعة، مما يجعل من الواضح تماماً أن هذا كان دائماً جزءاً من الخطة. لذا، لا يمكننا ولا ينبغي لنا أن نبحث عن الخلاص، أو التقدم، أو إنهاء الإبادة الجماعية التي يعاني منها إخوتنا الفلسطينيون، من داخل الإمبراطورية. مثل أعشاب تنبت من شقوق الرصيف، علينا أن ننمو بطريقتنا الخاصة خارج العفن، أينما كنا في العالم.

استاذ محاضر في جامعة "نيو سكول" للدراسات الاجتماعية، نيويورك.