أججت فضيحة اغتصاب أسير فلسطيني نهاية شهر يوليو/تموز العام الماضي مجتمع "اسرائيل" بعد اعتقال الجنود المتهمين بجريمة الاغتصاب والتعذيب
تقاطعات الاستعمار المعرفي: الاغتصاب واستحقاق المستوطن
أججت فضيحة اغتصاب أسير فلسطيني نهاية شهر يوليو/تموز العام الماضي مجتمع "اسرائيل" بعد اعتقال الجنود المتهمين بجريمة الاغتصاب والتعذيب. نقل الأسير إلى المستشفى في حالة صدمت الطبيب المعالج من هول فضاعة ما رآه. لم تكن وحشية الاغتصاب ما حرّك وصدم مجتمع المستوطنين بل اعتقال الجنود المغتصبين، واصفاً أياهم بالأبطال، وداعياً إلى تكريمهم وتقدير خدمتهم العسكرية.ا
وصل جدل جريمة الاغتصاب إلى نقاشات الكنسيت وصنّاع القرار واشغلت المستوطنين لأيام. أرتكز النقاش حول ما إذا كان اغتصاب الفلسطينيين جائزاً أم لا، لا معاقبة المغتصبين! وفي اقتراع قام به مركز دراسات الأمن القومي وجد أن 65% من مجتمع المستوطنين يعتقد بظلم محاسبة الجنود المغتصبين بتهم جنائية، بينما يؤمن47% بحق "إسرائيل" فعل ما تريد لحماية مصالحها وعدم اتبّاع القوانين الدولية في حربها على غزّة.ا
لم يثر العالم ولم تتفاعل وسائل الإعلام مثلما حدث مع إدعاءات الكيان بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول؛ وكأنّ وحشية الاغتصاب كجريمة تحدده هوية الضحية لا الفعل الإجرامي بذاته. حتى إن وسائل الإعلام والحكومات الغربية لم تعط تقرير منظمة بِتَسليِم الحقوقية المنشور بعنوان "أهلاً بكم في الجحيم"، الذي يوثق حالات تعذيب واغتصاب شنيعة وبشعة تمارس على الأسرى الفلسطينيين،أي أهمية.ا
يذكر التقرير الصادر في شهر أغسطس/ آب 2024، والذي اعتمد شهادات 55 أسير فلسطيني، أن الكيان المحتل عمد تحويل السجون إلى مراكز تعذيب ممنهج منذ بداية الحرب. فالتنكيل والتعذيب الجنسي، والاغتصاب الجماعي الوحشي، كان منظّما تحت اشراف السجانين والجنود. كما أن الاعتقالات الاعتباطية التي تهدف إلى زرع الرعب والقهر في المجتمع الفلسطيني أبرزت تعاظم التعطش الوحشي الاستيطاني. "بينما كان عدد الأسرى الفلسطينّيين في السجون الإسرائيلّية عشّية الحرب 5192 فقد بلغ عددهم 9623 حتى تموز 2024".ا
يضاف تقرير منظمة بِتسيليِم إلى عشرات التقارير التي وثّقت بشكل نظامي أحوال الأسرى الفلسطينيين في السجون "إسرائيل" وعمليات التعذيب الجنسي في السنوات العشرين الأخيرة.ا
يعتقد الكثيرون أن الحكومات الغربية تكيل بمكيالين وتتبع معايير مزدوجة في القضايا التي تتعارض مع مصالحها. غير أنتاريخ الاستعمار والاستعمار الاستيطاني يكشف أن المنظومة الغربية تتبع ذات المعايير وتتسق مع المنظور المركزي الأوربي (الأبيض) في تعاملها مع الشعوب الأخرى. فما حدث في الكيان الاسرائيلي وتفاعل المستوطنين معه، ومن ثم رد الفعل الغربي – خصوصاً في دول الاستعمار الاستيطاني ومراكز قوى الاستعمار – هو ما تطلق عليه الباحثة إيفا ماكي "يقينية التوّقع الاستيطاني".ا
تقوم يقينيّة التوقع الاستيطاني على البنى المفاهيمية الأولية التي أسست ذهنية المستعمرين الأوروبيين: عقيدة الاكتشاف – أو عقيدة الأرض الخالية التي تعطي المستعمر الحق في الاستحواذ على كل ما لا يندرج تحت سلطة الكنسية ومفهوم الملكية الخاصة – المشرّع من قبل الأوروبين أنفسهم؛ ومفهوم الملكية الخاصة المشروط باعتراف الأوروبين بأحقية المالك؛ ومفهوم التفوق العرقي والتراتب الحضاري الأوروبي؛ وأخيراً مفهوم استحقاق المستوطن/ المستعمر الذي تشكّل تاريخياً مع التوسع الاستعماري واستند على المفاهيم السابقة لشرعنة احقيّته قانونياً.ا
تقول ماكي في كتابها "التوقعات غير المستقرة: اللايقينية، والأرض، والديكولونيالية الاستطيانية" إن هذه البنى المفاهيمية الأولية خلقت عند المستوطنين الأوروبين ما اسمته "فنتازيا الاستحقاق" (أو وهم الاستحقاق)؛ وهو عملية تشكّل مستمرّة لماضٍ متخيّل توهم المستوطن/المستعمر بعقلانية نظرته لطبيعة العلاقات البشرية وتطورها. وعند عقلنته لتطور مسار التاريخ المتمركز على إحكام مصالحه الخاصة وشرعنة منظومته وفرضها على العالم، تتماهى فنتازيا الاستحقاق مع منظور المستوطن/المستعمر في اللحظة الآنية مما يعطيه الشعور بأحقية امتلاكه للماضي والحاضر والمستقبل، وأحقيّة سيطرته على أرض السكان الأصليين ومواردها ومدخراتها، وتاريخ الشعوب المُستعمَرة وتعريفهم لذواتهم ومعتقداتهم.ا
درست ماكي الاستعمار الاستطياني الكندي، وعملت على تفكيك وكشف البنى الثقافية التي كرّست منظور المستوطن وعلاقته مع المكان في الوقت الحالي. على سبيل المثال، تحاجج ماكي بأن أحد الأسباب الرئيسية التي تدفع الحكومة الكندية إلى حل مشكلة أراضي السكان الأصليين وحقوقهم واعطائهم سيادة محدودة ضمن حدود محمياتهم هو تأكيد أحقية المستوطنين بباقي الأرض و مواردها وطمأنتهم للحفاظ على اسقرارالمنظومة الاستيطانية. أو بتعبير آخر، تكريس يقينيّة التوقع الاستيطاني.ا
وضمن هذا الإطار يكون اعتراف كندا بتاريخ مدراس الاندماج الداخلية التي قامت على مدى أكثر من قرن بسلب أطفال السكان الأصليين من أهاليهم وأراضيهم، ومسخهم وسلخهم من ثقافتهم، وضربهم وتعذيبهم، ليس أكثر من محاولة لتكريس يقينية التوقع الاستيطاني. ما زال تاريخ مدارس الاندماج غير مكشوف عنه بالكامل. آلاف الأطفال ماتت ودفنت دون تحديد مكان قبورهم. وآلاف الأطفال اغتصبوا وعذّبوا. هناك الكثير الوثائق التي تحتفظ بها الحكومة الكندية وترفض الكشف عنها.ا
وعلى الرغم من فضاعة ما أفشي عنه واعتراف الحكومة الكندية بارتكاب "إبادة ثقافية"، يبقى هذا الاعتراف ضمن إطار استحقاق المستوطن في تحديد سردية التاريخ وصناعتها، وسيطرته على إعادة تشكيل سردية الحاضر والمستقبل. فما زالت مجموعات من الكنديين ترفضقبول ماضيهم الاستعماري، وتصر على أن مدارس الإندماج هدفت إلى تعليم السكان الأصليين، ونقلهم إلى مرحلة التحضّر. بل يرفض الكثيرون تسميتهم بالمستوطنين، ويؤكدون على أصالتهم وأحقيتهم لأنهم من بنى وأسس البلد، وأن السكان الأصليين لم يطوروا الأرض، وبالتالي لم تكن كلها ملكهم.ا
تتوافق يقينية التوقّع الاستيطاني مع فكرة إدوار سعيد بأن المنظور الاستشراقي جزء لا يتجزأ من الذهنية والبنية الفكرية الغربية التي تعيد تعريف شعوب الشرق بناءاً على صور متخيّلة. كما تتماهى هذه اليقينية مع نظرية "الحاكمية الاستيطانية" للباحثان أندرو كرسبي وجيفري موناغان القائلة بأن بنية العلاقات الاجتماعية وآلية العمل المؤسّساتي والقانوني في منظومة الاستعمار الاستيطاني تتفاعل لضمان بقاء هذه المنظومة واستمرارية سيادتها. فتجريد السكان الأصلين من إنسانيتهم وإعادة تعريفهم ضمن أطر فنتازيا الاستحقاق الاستيطاني هي عملية متباينة لتأكيد هوية المستوطن وارتباطه بتاريخ المكان.ا
عملت الصهيونية على محو كل ما هو فلسطيني منذ بداية تأسيسها في نهاية القرن التاسع عشر. ومنذ قيام الكيان المحتل على الأراضي الفلسطينية كان تأسيس يقينيّة التوقع الاستيطاني وشرعنته عنصراً ضرورياً في بناء دولة المستوطنين. فأصبح تعذيب الفلسطينيين وهدم بيوتهم وتهجيرهم وذبحهم من لبنات البنى الأولية لفنتازيا الاستحقاق الصهيوني. هكذا أصبح انتهاك الوجود العربي في فلسطين المحتلة على مدى 76 عاماً حقاً يتمتع به المستوطنون، ويتباهون بممارسته. ولأن صورة العربي في المنظور الاستشراقي ينسجم مع توقعات الأوروبيين ورؤيتهم الفوقية للعرب، ويتلاءم مع مصالحهم الاقتصادية والسياسية، لم يكن اعتقال وتعذيب واغتصاب الأسرى الفلسطينيين عوامل محركة لتعاطف، في أفضل حالاته، مبتذل ورتيب.ا
تفاعُل وسائل الإعلام والمجتمعات الغربية الجامح مع موت المستوطنين ونشر أسمائهم وقصصهم وصورهم، بينما تشكك في عدد الشهداء الفلسطينيين وما يجري على الأسرى في المعتقلات، دليل على فنتازيا استحقاق المستعمر في تحديد ما هو أخلاقي وضروري وحقيقي من جانب، واجتثاث إنسانية الفلسطينيين والعرب من جانب آخر.ا
عندما صرّح وزير الدفاع "الإسرائيلي" في بداية الحرب بأنهم يحاربون "حيوانات بشرية" كان يؤكد حقيقة نظرته للإنسان الفلسطيني - العربي علناً. وما كان تفاعل مجتمع المستوطنين بعد أشهر مع حادثة الاغتصاب إلا انعكاس لهذا المنظور من صيغة الفكرة إلى صوغ الفعل.ا
Read More
Related Posts
كاتب وناشط سعودي