Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

قبل نحو شهر من الآن طلب مني الدكتور بشار اللقيس كتابة مقالة لعدد خاص من "الخندق"، يتناول وضعاً عربياً حرجاً

أيهم السهلي

هذه ليست مقالة، هذه مشنقة

هذه المقالة ليست للمدعو أيهم السهلي، هذه المقالة مشنقة علقها كاتب فلسطيني للواقع، لا لشيء، بل ليخيب "ظن العدم"

***

قبل نحو شهر من الآن طلب مني الدكتور بشار اللقيس كتابة مقالة لعدد خاص من "الخندق"، يتناول وضعاً عربياً حرجاً (إن كانت الكلمة تكفي!). فكرت في شكل هذه المقالة، فكرت بالذي يعنيني لأكتبه، وانتبهت لمسألتي الخاصة، فلسطيني، لكنني لاجئ في سورية، ولدت وترعرعت في مخيم اليرموك جنوب عاصمتها دمشق، أقيم في العاصمة اللبنانية بيروت منذ أكثر من 13 عاماً. وللمصادفة، كنت يوم مكالمة اللقيس، أستعد للسفر إلى الجزائر، البلد العربي الذي استقل من استعمار دام 130 عاماً.

فكرت في هذه الكتابة، وفكرت بأنها لا يجب أن تكون مقالة مكرورة في عرض الشؤون التي تعض قلوبنا يومياً، على الأقل ليس منذ عامين، أي منذ بدأ العدوان على غزة، بل من اللحظة التي يولد فيها الإنسان في هذه المنطقة، ومعركته التي يخوضها ليبقى إنساناً بالحد الأدنى، ضمن ظروف عيش لا إنسانية، بدءاً من المستشفى التي ستضع فيها الأم مولودها، وصولاً إلى القبر الذي ستدفن فيه الأم والأب، والمولود الذي سيكبر، ويعاني بحثاً عن عمل، وبحثاً عن سكن، وبحثاً عن جامعة جيدة ورخيصة لولده. هذا فقط، لا، منذ احتلال فلسطين عام 1948؟ نعم ولا. في تلك اللحظة التاريخية التي كانت فيها بعض الدول العربية غير مستقلة، احتلت فلسطين. ولم تقدر جيوش بعض الدول العربية من الوقوف في وجه الصهاينة الذين مهدت وسهلت لهم بريطانيا مهمتم.

هذه المقالة، لن ترجع إلى التاريخ، بل ستجرب تقديم تجربة شخصية، ليست شخصية تماماً، فهي تجربة تعاد دوماً مع أي عربي، غالباً إن كان في شواغله شأن سياسي وحياتي يومي غير ذاتي، بل عام. لذا ما سيكتب لاحقاً، هو مشنقة سأعلق عليها الواقع على الورق، فهذا أقصى ما بإمكاننا على ما يبدو فعله، حتى الآن كما يبدو.

هل ما سبق مقدمة؟ ليست كذلك، لكنها محاولة استشفاف الأزمات المتلاحقة التي تصيبنا واحدة خلف الأخرى، من دون ترك مجال لاستراحة محارب. وكما أنها استشفاف، هي استكشاف، لأن في التجربة الشخصية تأثر في الواقع، لا يحمل في الغالب أي دور تأثيري.

وهذه الكتابة جزء من تجربة أخوضها منذ سنوات، تقدم لي زاداً معنوياً هائلاً، يساعدني على الصمود الذاتي في وجه التحولات الكبرى في منطقتنا. لكنها لا تشكّل أي تأثير، ليس لأن الناس لا تقرأ، بل لأن التنشئة في منطقتنا باتت قبائلية طائفية، وعليها تتحدد المواقف من "الأفكار" والكتابة والكلمات، مهما نأيت عنها. وإن كنا فعلاً أمة الكلمة، كما ندّعي قولاً، فنحن أبعد ما نكون عن ذلك، وهذا موقف قيمي مما نحن فيه سياسياً، فكل حكام المنطقة من "علمانييهم" إلى "طائفييهم" لم يكترثوا ببناء الإنسان، واكتفوا بهياكل "الدولة" التي روجوا أنها خير ما أنتج البشر وما أنتج لهم، على الأقل في وسائل إعلامهم. ولما لم يشتغلوا على تفتيح أدمغة الناس لدينا، افترضنا أننا "بخير" مع شعور دائم بأن مشكلة ما موجودة، لكننا وما إنندركها نتجنبها، لمنعنا من التفكير بها، والتعامل معها، والتمرد عليها.

فلسطيني

لأني كذلك، فلسطين هي أولويتي، حياة وموتاً. أؤمن أن العمل من أجلها ضرورة تشبه الأوكسجين، لا بد منه، ولا يحق لفلسطيني أن يحيا من دون أن يعمل لقضيته. فلا يمكن لفلسطيني أن يعيش في مكان ما بشكل طبيعي، سواء كان لاجئاً أو مجنساً، من دون أن ترجع فلسطين إليه، ومن دون أن يرجع إلى فلسطين، إلى قريته أو مدينته، ومن هناك يمكن له أن يكون كباقي البشر. عدا عن ذلك سيبقى الفلسطيني غير باقي البشر في العالم. والمسألة هنا ليست سياسية، إنما وجودية، فالفلسطيني بلا فلسطين لن يبقى فلسطينياً، وفي يوم من الأيام سيمحى وجوده السياسي، ليكون أي شيء آخر، ألماني، أميركي، سوري، لبناني، أو لا شيء. لكنه لن يكون سوى مجنس بسبب مشكلته الكبرى والأهم، فلسطين. وهذه الكلمة التي تعبر عن الأرض، هي أيضاً تعبير كامل عن أمة فلسطينية ممتدة في العالم، بعض أبناء هذه الأمة فلسطينيون بالولادة وتوارث الصفة من الآباء والأجداد. وبعضهم الآخر، بالانتماء إلى الحق الذي لا اسم آخر له في العالم والتاريخ الحديث سوى فلسطين.

لمجرد أني فلسطيني، يظن بعض البشر من بني عرب، أن عليّ تبرير ما يفعله الشعب الفلسطيني في فلسطينه من فعل مقاوم، إذ لا يصرخ في وجه إسرائيل فحسب، بل في وجه كل صامت. وبنو عرب، الذين ننتمي نحن الفلسطينيين إليهم، يظنون أن فلسطين هي المشكلة، وبمعنى آخر شعب فلسطين هو المشكلة والعائق أمام مسيرة التحديث والتطوير التي تنتظر بلادهم، بسبب "المشاكل" التي لا نكف عنها. هؤلاء الذين بدأ بعضهم يرى العالم من "قفا" إسرائيل، يجهلون عن قصد أو عن غير قصد أن المشكلة هي إسرائيل، وحتى يفهم هؤلاء هذه البديهية، يجرون على بلادهم خراباً وخراباً لن تنتهي مفاعيله حتى لو تحررت فلسطين. وهؤلاء يظنون أن الفلسطينيين لو توصلوا إلى حل مع إسرائيل، فإن المنطقة ستنعم بالهدوء. هؤلاء لا يريدون رؤية "أوسلو" بوصفه صك استسلام في ظاهره وجوهره، ومع ذلك لم يقبل به الإسرائيلي، بل أراد أكثر، وهذا الأكثر، ما نشهده اليوم في غزة، موت بالصواريخ، ومن لم يمت بالنار، فليمت بالجوع. وهذه الإبادة التي تقع جغرافياً في غزة، ستمتد إلى الضفة الغربية قريباً، وستنال من الفلسطينيين المتبقين في أراضي الـ 48. كما ستلحق باللاجئين. فالمطلوب إسرائيلياً تصحيح خطأ بناة الدولة، الذين أبقوا على فلسطينيين داخل الخارطة الانتدابية، ومن أجل ذلك، يجب أن تمحى فلسطين مرة وإلى الأبد. وأن تنشأ مكانها إسرائيل جديدة، هذه المرة برعاية مؤيدين إقليميين كثر، مرة باتفاقيات تطبيع، ومرة باتفاقات تتبيع.

أمام هذا الواقع الكارثي، ثمة من لا يريد للفلسطينيين أن يتصدوا لمحاولة محوهم، في الوقت الذي فيه أجزاء من بلادهم محتلة، أو على وشك أن تقضم منها إسرائيل أراض جديدة، أو على وشك أن تحتل إسرائيل أجزاء من بلاد عربية سبق أن حررت أرضها. والذين يحمّلون الفلسطينيين مسؤولية مصائبهم، لا يطرحون أي حلول للفلسطينيين، هذا مع فرضية أن هناك حلول غير عودة الحق، وعودة الفلسطينيين إلى أراضيهم، ومنع تهجير أي فلسطيني من أرضه.

هذا الحديث شبه الذاتي، أشعر بأحقية قوله والمجاهرة به، ولا سيما بعد "الربيع العربي" الذي أزهر ولم يزهر، فكل المنطقة عاشت على ظهر فلسطين، حكاماً وأنظمة، استعبدت شعوبها باسم الصراع مع إسرائيل، وأنزلت عليه في بعض الدول الصواريخ والبراميل لما قام الشعب في وجهها، وأخرى أفقرت الناس، وأخرى جهلت، وفي آخر المطاف انهار جيش خلال أيام معدودات، وهرب،وحاكم آخر ظل يجاهر بالقوة وتقوية الجيش، حتى جاء الاحتلال لأرضه، فانهار جيشه خلال أيام معدودات أيضاً. وعلى هذا المنوال عاشت هذه الأمة، ومثلها الأمة الإسلامية التي تقريباً لا تحرك ساكناً من أجل الأقصى، المكان الذي يعنيهم في دينهم، كما يقول القرآن الكريم. لكن على ما يبدو وصل الهوان في هذه الأمة، بأن الأقصى إن هدم أمام الكاميرات وبالبث المباشر، لن تحرك ساكناً، وستكتفي ببيانات الإدانة والتنديد، وستعود لتبرر فشلها وإخفاقها، وتحمل مسؤوليته على الفلسطينيين الذين لم يستشيروا أحداً في مقاومتهم.

إن هذه الفلسطين العظيمة، مع صباح كل يوم تمنح العالم فرصة جديدة لأن يكونوا فوق الأرض، بشراً، تعطيهم الأمل بالعدالة، وتجعل من الحرية واقعاً، فالحقيقة كل الحقيقة، ما لم تتحرر فلسطين، لن يتحرر العالم، ولن ينعم بالهدوء. وما تفعله إسرائيل منذ عامين، هو محاولة أخيرة لإنهاء الوضع الفلسطيني القائم، أي الوضع الفلسطيني المواجه، وما يجدر الانتباه إليه، أن جيش إسرائيل الجرار لم ينجح بالقضاء على تنظيم مسلح في بقعة جغرافية لا تزيد 365كم مربع، لكنه نجح في فعل الإبادة، ونجح أكثر في إكمال تعرية الأمة، عربية وإسلامية، وفي إعادة الاستعمار القديم، إلى دوره الاستعماري القديم، بلا أوجه "الحضارة والحداثة والديمقراطية".

إني أنا الفلسطيني اللاجئ، لا مكان لي في هذا العالم، سوى مكان واحد، معروف للجميع. ليس لي فيه ذكريات، لكن لي فيه أرض وذاكرة، أريد استردادها، كما أن لي حياتي التي أريدها أن تنتهي هناك، في بلد الشيخ قضاء حيفا.

كاتب وباحث فلسطيني مقيم في لبنان