Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

يشكل الخفاء والظهور فضاءً مركزياً في فكر وثقافة الشيعة الإثنا عشرية. عبارة "وعجل لنا ظهوره" تتخذ بعداً آخر إذا ما فهمناها بالمعنى التاريخي. يرجو الشيعة ظهور الحجة في التاريخ وظهورهم معه مجدداً

بشار اللقيس

نص في نصر الله: المحاولة السابعة

أعترف بصعوبة الكتابة اليوم إن لم يكن باستحالتها. هذه النسخة السابعة من النص الذي أبتدئه وأجد نفسي بعد بضعة سطور عاجز عن استكمال ما بدأت. عادة لا أحب المبالغة في العاطفة عند الكتابة عن شخص كان له دور في السياسة والمجال العام. لكن الأكيد، أن الكتابة عن نصر الله هي ليست من نوع الكتابة عن رجل سياسي أو قائد حزبي فحسب. للأمر جنبة أكثر عمقاً مرتبطة بحياتنا وأحلامنا نحن شيعة لبنان الفقراء. الكتابة عن نصر الله غير منفكة عن صورته بيننا. لا زلت أذكر ملامحه الأولى أول ما تعرفنا عليه من خلال صوره الملصقة على الجدران (بعد شهادة الأمين العام الأسبق لحزب الله السيد عباس الموسوي عام 1992). ولا زلت أذكر حيرة كثير من الناس في التمييز بين السيد عباس الموسوي والسيد نصر الله، واعتقاد كثير منهم أن ثمة شبهاً كبيراً بينهما. أعود لصورة نصر الله الأولى بعيد توليه الأمانة العامة لحزب الله وأسأل في نفسي: "كيف للناس أن تحار بين الرجلين؟". لست أدري. الأكيد أن الناس لم تتطلع إلى صور نصر الله بعيونها. "كانوا يتطلعون إليه بعين القلب" أقول، وقيل: القلب مرتبة من مراتب العقل.ا

لست أكيداً أني مدرك تمام الإدراك ما ينبغي عليّ كتابته. لكني أعتقد أن للسيد نصر الله زاوية خاصة من الذاكرة الجمعية لدى الشيعة لن يعيها غيرهم. في الأدبيات الشيعية الدينية ثمة حضور لشخص الحجة (يقصد به الإمام الثاني عشر الحجة بن الحسن المهدي). يستحضر الشيعة شخصية الإمام الغائب في ختام مجالسهم الدينية بذكر العبارات التالية: "اللهم اكشف هذه الغمة عن هذه الأمة بحضوره، وعجل لنا ظهوره". في تفسيره لتعجيل الظهور، يعلق هنري كوربان على هذه العبارات بالقول: للشيعة رؤيتهم الخاصة للزمن. هم ينظرون لظهور النبي الخاتم (ص) في عالم الدنيا باعتباره ظهوراً لتمام شمس الشريعة والحقيقة، وكتعبير عن اتحاد دائرتي النبوة والولاية. مع وفاة رسول الله بدأت شمس الحقيقة بالأفول، وصارت ظلال الباطن أكبر فأكبر. ثم بغياب الإمام الثاني عشر حل ليل الباطن فيما استتر المؤمنون عن الظهور. ومع ذلك ينظر الشيعة للزمن بعد الغيبة باعتباره تأويلاً لليلة القدر، قلوبهم سلام حتى مطلع الفجر بظهور شمس الإمامة والولاية من جديد. وبغض النظر عن الجنبة الباطنية (ذات البعد الإسماعيلي) في نظرة كوربان. يشكل الخفاء والظهور فضاءً مركزياً في فكر وثقافة الشيعة الإثنا عشرية. عبارة "وعجل لنا ظهوره" تتخذ بعداً آخر إذا ما فهمناها بالمعنى التاريخي. يرجو الشيعة ظهور الحجة في التاريخ وظهورهم معه مجدداً. المهدية في حقيقتها تمام ظهور الجماعة في التاريخ. ومن هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم شخص نصر الله كأتم ظهور للشيعة في التاريخ المعاصر، أو هذا ما يستشعره كثير من الشيعة اليوم.ا

***

يعتبر كتاب "العالم الشيعي: طرائق في التقليد والحداثة" واحداً من أفضل نتاجات الأكاديميا الغربية التي تناولت تاريخ الشيعة ومعتقداتهم إيضاحاً وتشريحاً. في الفصل الثامن من الكتاب، يتوقف علي س. آساني عند الأدب الشعائري لشعوب وسط وشرق آسيا من الشيعة بتناوله أدب "روضة خانة" الفارسية، و"شاه جو رسالو" السندية، و"جناب سيدة كي كهني" (الأخيرة شعيرة تداوم عليها النساء في جنوب شرق آسيا وفيها استحضار لمعجزات السيدة فاطمة الزهراء) في جنوب شرق آسيا. يركز آساني في تنوله لهذه القصص على امتزاج الثقافات الشعبية بالطقوس الشيعية هناك. ما فات آساني تناوله، هو الانتقاء الذي تقوم به الجماعات الشيعية المحلية في اختيار شخصية محددة من أهل الكساء، تكون محل تخلّق الجماعة وهدايتها. في كل زمان أو محلة ثمة شخصية "كسائية" مركزية تميل إليها الجماعات الشيعية المحلية للتعبير عن واقع حالها وما يحدق بها. الكساء ليس رداءً ألقاه رسول الله (ص) على أهل بيته فحسب. هو فضاء التخلق الشيعي في الكمالات المعنوية والفضائل النبوية. الكساء في السِند معاجز للزهراء (ع) الحاضرة في أفراح المؤمنين، والكساء في جبل عامل (جنوب لبنان) معاجز للحسين إذ ينتصر للمظلوم وللغريب. وقد صدق أحدهم يوماً إذ نادى الجنوب بقوله: "سميتك الجنوب يا لابساً عباءة الحسين". فلقد اختار أهل الجنوب حسينهم دوناً عن غيرهم ليتخلقوا به، ويطلبوا "المودة في القربى" من خلاله.ا

مرة أخرى أجد نفسي عاجزاً عن الكتابة أو الإطالة، وأعجز في الفصل بين نصر الله وأرض عامل وتاريخ الشيعة في الجنوب. وهذا لا يعفينا من تسآل التجربة في ما لها وما عليها بالتأكيد. لكن الأكيد أن رجلاً في الجنوب قد مضى بعد أن جاءنا بقبس نأنس ناره في الجليل. والأكيد، أن كساء السر النبوي، سيولد فينا ألف ألف حسن وحسين عما قريب.ا

رئيس تحرير صحيفة الخندق