Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

من المفيد إعادة قراءة ما سبقَ وأن كتبتُ من قبل، وتقييمه مرة أخرى بعد قراءات (تغيرات ذاتية) وأحداث (تغيرات موضوعية) جديدة. سبق قبل عامين أن بحثت وقرأت وكتبت حول الدرس الذي لم يستفد منه العدو في حرب عام 2006. أما اليوم، فأعيد قراءة المقال والتعاطي معه نقداً وتشريحاً وفق مستجدات الحوادث والحروب الأخيرة.[1] فما هو الدرس الذي لم يستفد منه العدو في حرب لبنان الثانية عام 2006

محمد رشيد

ما لم يتعلمه الإسرائيلي من حرب لبنان الثانية

من المفيد إعادة قراءة ما سبقَ وأن كتبتُ من قبل، وتقييمه مرة أخرى بعد قراءات (تغيرات ذاتية) وأحداث (تغيرات موضوعية) جديدة. سبق قبل عامين أن بحثت وقرأت وكتبت حول الدرس الذي لم يستفد منه العدو في حرب عام 2006. أما اليوم، فأعيد قراءة المقال والتعاطي معه نقداً وتشريحاً وفق مستجدات الحوادث والحروب الأخيرة.[1] فما هو الدرس الذي لم يستفد منه العدو في حرب لبنان الثانية عام 2006؟

اعتمد الكيان الصهيوني في "حرب لبنان الثانية" (2006) على عقيدة قتالية مغايرة ظاهرياً لعقيدة جودريان في "معركة الأسلحة المشتركة - combined arms" (التي باتت النموذج الإرشادي – paradigm –  للدراسات العسكرية التي تلت الحرب العالمية الثانية). إذ اعتمدت العقيدة العسكرية للعدو الصهيوني في حرب لبنان 2006، على نظريات "العمليات القائمة على الفعالية - effective based operations" التي طورتها أبحاث القوات الجوية الأميركية في مجال العقيدة العسكرية في تسعينات القرن العشرين، وتتلخص هذه الأبحاث في توظيف القوة الجوية لا في مجال إسناد القوات البرية على الأرض فحسب، بل وبغرض توجيه ضربات محددة لمفاصل القيادة والتحكم لدى العدو باستخدام نيران عالية الدقة. فكان من أبرز دعاة هذه النظرية الجنرال "جون آشلي واردن - John A. Warden" قائد كلية القيادة الجوية والأركان، والمساعد الخاص لشؤون الدراسات السياسية والأمن القومي لـ"دان كويل - Dan Quayle" نائب الرئيس الأميركي جورج بوش الأب خلال حرب الخليج 1991. وقد ظهر تأثير نظريته، التي تعتمد على تصوير العدو في هيئة دوائر متحدة المركز (في القلب منها دائرة القيادة) بحيث يكفي استهداف محيط الدائرة المركزية، بضرب عقد اتصالاتها، لحسم تفوق القوات الجوية الأميركية ضد الجيش العراقي. 

عرفت هذه النظرية تطويرات عدة. إذ تتابعت الدراسات فيها، والتطبيقات لها في حرب يوغوسلافيا، أواخر التسعينيات، إلى أن وضعت القيادة الجوية الأميركية عقيدتها الجديدة في 2001 بهدف رئيس هو أن الاشتباك الدقيق يخلق امكانيات مختلفة لتسخير القدرات العسكرية للأهداف السياسية. وذلك عبر "عمليات سريعة حاسمة – rapid decisive operations" لا تعتمد بشكل كبير على الاشتباك على الأرض. في تلك الفترة، كتب المؤرخ العسكري البريطاني "جون كيجان - John Keegan": أعتقد أنه عندما سيُكتَب تاريخ حرب كوسوفو، فإنه سيُكْتَب كقصة بسيطة: كيف فاز سلاح الجو وحده بالحرب. وفي غمرة الحماس لتفوق سلاح الجو ودوره الطليعي في الحرب الحديثة، بدأ البريجادير جنرال "شيمون نافيه - Shimon Naveh" صياغة تصورات نظرية لكيفية التخطيط للمعركة، من خلال أبحاثه في معهد أبحاث النظريات العملياتية. في الواقع، تبدو نظريته التي أطلق عليها اسم "التصميم العملياتي المنهجي -systemic operational design" كتجريد مركب. في مقابلة له مع الملازم "كريج دالتون - Craig Dalton" عام 2006، يشرح نافيه المقصود بالضبط من "systemic operational design" بالقول: هي ممارسة ذهنية تعتمد على الرؤية والتجربة، والحدس، وملكة الحكم الخلاقة للقادة، وهي إطار عمل لتطوير الخطط العملياتية التفصيلية".

تبدو ألفاظ شيمون نافيه هنا مجردة تماماً. في الواقع، عكست النظرية عقداً من تطوير أطروحاتٍ نظرية، وإن بدت مغايرة لعقيدة الأذرع المتشابكة/ المشتركة، إلا أنها استبطنتها في داخلها. وكما كانت عقيدة "هاينز جوديريان – Heinz Guderian" الحرب الخاطفة (blitzkrieg) تطويراً لإدراك "أنطون هنري جوميني - Antoine Henri Jomini" بأهمية اللوجستيات لتحقيق التكامل بين القوات في ميدان المعركة (مع أن نظرية جودريان أكثر ديناميكية كونها تعتمد على تنسيق عمل القوات واستفادتها من إسنادها لبعضها البعض خلال الحركة، والتقدم على محاور متوازية ومتساوية في العمق، بعكس ستاتيكية نظرية جوميني)، فإنها وفي ذات الوقت تعتمد العنصر الجوي، كمفهوم مكاني جديد في تصورها لمسرح العمليات. 

تعتمد أطروحات جون آشلي واردن وشيمون نافيه على سلاح الجو، كعنصر أساسي، وتتطلع إلى العدو كدوائر متحدة المركز. يستلزم الإدراك البصري للدائرة رؤيتها من زاوية قائمة (90 درجة) بقطرها الذي يمر بمركزها. فلن تدرك أنك تنظر إلى دائرة مكتملة إلا من أعلى – من طائرة – لا من نقطة رصد موازية لها. فقط وقتذاك ستبدو الدائرة لك كخط منحن، وعلى ذلك تخلي الهندسة الإقليدية "ثنائية البُعد" الطريق للمعادلات التفاضلية. وتغرق التفاصيل في التجريد الشديد. فيبدو العدو كما لو كان كتلة ساكنة يربكها استهداف بعض النقاط المفصلية، لمجرد نجاح تلك الخطوات في يوغوسلافيا. تماماً كما اعتقد الألمان أن تحقيق اختراقات متساوية في العمق ومتوازية عبر النسق الدفاعي للقوات السوفيتية كافٍ لإرباك قادة التشكيلات العسكرية السوفييتية وإيهامها بالتطويق ودفعها للانسحاب غير المنظّم. 

لقد اعتمد الألمان عقيدة الحرب الخاطفة، بالنحو التي صاغها ضابط المدرعات والمُنظر العسكري النازي "هاينز جودريان - Heinz Guderian" والتي تتمثل بإعادة تنظيم أفرع التشكيلات الهجومية الألمانية بحيث تتحرك تشكيلات المشاة والدبابات سوية، تحت غطاءٍ جوي، وفي نسقٍ واحد وفق ترتيب قتالي أو تقسيم عمل مُنظَّم بين القوات (من خلال ربطها جميعاً بشبكة اتصالات لاسلكية مباشرة في الوقت الذي تقوم المشاة فيه بحماية الدبابات من القوات المضادة للدروع بينما تتولى المدرعات اجتياح الخنادق الدفاعية، وتتحرك القوتين تحت غطاء جوي في إعادة صياغة للترتيب القتالي) وفق عقيدةٍ قتالية تنطلق من ذات الأساس المادي لتقسيم العمل الجديد في المؤسسات الصناعية الألمانية (التي استوعبت عدة أفرع صناعية تتكامل فيما بينها بغية تقليل تكلفة الإنتاج وإعادة تنظيم عمليتي الإنتاج والتبادل) ما أسهم في دخول سلاح الدبابات كسلاح رئيسي في العقيدة القتالية الجديدة التي نَظَّر لها جودريان في كتابه "احذَر دبابة بانزر Achtung – Panzer" المنشور عام 1937. 

لقد اعتمد إنتاج واستخدام سلاح الدبابات الموسّع على تلك "الصناعات المتكاملة"، كوْن إنتاج الدبابة يستلزم تفوقاً في إنتاج الفولاذ عالي الكفاءة اللازم للدروع، وصناعات ميكانيكية دقيقة لازمة للمحركات، وميكانيكا تحريك برج الدبابة الحامل للمدفع فضلاً عن الصناعات الكهربائية الضرورية لإنتاج وحدات لاسلكية صغيرة قابلة للاستخدام داخل الدبابة ..إلخ. 

من الناحية الموضوعية، شكلت هذه النظرية تطوراً لاستراتيجية أنطون هنري جوميني، الجنرال السويسري المعاصر لكلاوسفيتز. والمعتمِد ككلاوسفيتز على تطبيق مفاهيم الهندسة الإقليدية، ذات البعدين، على خريطة العمليات. إذ اعتبر جوميني العامل اللوجستي بما يشمل  دعم القوات وحركتها عاملاً حاسماً.

كان هذا ما قرأت عنه وكتبته عام 2022. اعتقد أنه يمكنني الآن أن أضيف أن العقيدة العسكرية الألمانية قد تم استيعابها في المجتمع كبناء فوقي، وأن المجتمع كان هو المحدِّد لمقومات – تقسيم العمل – الصناعي والعسكري، فيما كان أساس النظرية كامن في علاقات الإنتاج و تقسيم العمل داخل التكتلات الاحتكارية الألمانية (التروستات والكارتيلات) التي أسهب فلاديمير لينين في شرح آلياتها في كتابه "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية". بمعنى آخر، كانت النظرية من الناحية التنظيمية (إدراكاً للذات) وجزءاً من تطور علاقات الإنتاج في الصناعة الألمانية ذاتها. وهو ما تجلى في إعادة تنظيم التشكيلات العسكرية الألمانية بحيث يوفر كل منها إسناداً للآخر. 

في المقابل، يمكن اعتبار نظرية "العمليات القائمة على الفعالية - effective based operations" التي طورتها أبحاث القوات الجوية الأميركية في مجال العقيدة العسكرية في تسعينات القرن العشرين، نظرية ثلاثية الأبعاد، فالجو، أو المحور الرأسي العمودي، وهو الإضافة الرئيسي. فعلى عكس العقيدة العسكرية التقليدية للقرن العشرين (معركة الأسلحة المشتركة)، حيث يخطَط للمعركة على خريطة من ورق فوق منضدة مربعة أو مستطيلة، ذات بعدين (طول وعرض). وحيث يلعب سلاح الجو دور إسناد القوات، من خلال نقاط على شكل مجموعة إحداثيات، وحيث يستعمل العسكريون إحداثيات ذات بعدين لتحديد المواقع. كانت النظرية العسكرية الأميركية الجديدة بمثابة خوارزمية، أو مجموعة من المتغيرات المبنية على تصور ثلاثي الأبعاد، يتم إدخالها في برنامج حاسوب، ولا يُكتفى فيها بتقديم سلاح الجو الدعم بالنيران للقوات البرية، بل يُفترض فيه أن ينهي المهمة؛ أي أن يصيب الخصم بالشلل بعد استهداف منظومة القيادة والسيطرة عبر استهداف المراكز القيادية والاتصالات. 

وفضلاً عن الصدمة المصاحبة للقصف والتأثير النفسي للنيران الساقطة من طائرة يصعب رصدها بالعين المجردة (لا وقت لمن هم على الأرض لذلك). فإن الهندسة ثلاثية الأبعاد، المبنية على القطوع المخروطية المؤلفة من دائرة على مستوى أفقي مكوَّن من طول وعرض يتعامد عليها رأسياً مثلث مُشكلاً البعد الثالث، هي ما بُنيَت عليه معادلات الدرجة الثالثة (عمر الخيام)، والتي بنى عليها نيوتن بدوره حساب التفاضل والتكامل، وكثيرات الحدود. فضلاً عن الكميات المتصلة في حساب التفاضل والتكامل وكل ما شكل المقدمة لعلوم البرمجيات المرتبطة بصناعة الطيران. أي أن ذلك التصور الهندسي ثلاثي الأبعاد، يعمل على تجريد الخصم (المقاومة)، وتحويلها إلى مجموعة من المتغيرات (فلا يأخذ في الاعتبار أنها موضوعات مادية). كل ذلك هو محصلة التطور التقني للصناعات الجوية والبرمجيات (تماماً كما شكلت عقيدة جوديريان العسكرية (المطوِّرة لعقيدة كلاوسفيتز المبنية بدورها على هندسة إقليدس ذات البعدين) محصلة لتطور الصناعات المتكاملة في الاحتكارات الصناعية الألمانية.

تشترك كذلك العقيدة العسكرية الأميركية الحديثة، أو الأطلسية، مع سائر المدارس الفلسفية الغربية في القرن العشرين، في مقتلها الرئيسي: صنمية البناء الرمزي نفسه، فرياضياً يمكن التعاطي مع حزب الله عام 2006 والمقاومة في غزة عامي 2023 و2024 كمتغيرات يمكن التنبؤ بسلوكها وفق مجموعة احتمالات محددة قابلة للترجيح، هنا يتسامى أو يصبح مفارقاً، الرمز أو النص (في البنيوية) أو التصميم لذلك البرنامج، فيصبح هو المعرفة الموضوعية، وليس رصداً، أو تثبيتاً للحركة كما يقول لينين عن التجريد الرياضي في الفيزياء في لحظة معينة. هنا تصبح الوحدة المقاتلة الصغيرة من المقاومة الفلسطينية، متغيراً (الشيء في ذاته) معزولاً عن سياقه كحركة بغرض تسهيل التنبؤ به.  فكما أنه، وفق ذلك المنهج، الخطة لا تتجسد مادياً على الخارطة، أي أنها لا تنتقل من كونها مجموعة من التصورات حول "العدو" (المقاومة في هذه الحالة)، من صورتها المُجَرَّدة إلى صورتها العينية المجُسّدة على الخارطة ذات البعدين، الطول والعرض، فهي كذلك تُدخل كمتغيرات مجرّدة، ككمٍ هائلٍ من المعلومات والبيانات، وحتى الشائعات على مواقع التواصل الاجتماعي، عشوائية تماماً، ليتولَّى الذكاء الاصطناعي تصنيفها، واحتساب معدلات التكرار، لتحديد الأهداف التكتيكية والعملياتية من خلال توقع وجود هدف ما في منطقة معينة على أساس احتمالي، ليتولَّى سلاح الجو الصهيوني قصفه. وهو ما يلتقي مع الأيديولوجيا أو الفلسفة السائدة في دول المركز الإمبريالي، المناهضة لأي نسق شمولي تنتظم المفاهيم في سياقه، بدءًا من مدرسة فيينا في فلسفة العلم، المبنية على تأويل فيزياء الكم على أساس أن التعبير الرياضي عنها، والاتساق الصوري داخل بنية العلاقات الرياضية، كافٍ بحد ذاته للتنبؤ، وهو ما انتقده الفيزيائي الدنماركي نيلز بوهر قائلاً أن النموذج الفلكي لبطليموس، القائم على مركزية كوكب الأرض، لم يكن يشكو من شيء فيما يتعلق بإمكانية التنبؤ واحتساب التقويم كنمط تكرار ولكنه كان خاطئاً. وكذلك كل النتاج الفلسفي والأدبي والنقدي لدول المركز الإمبريالي – من بنيوية وما شابه. إن التقاء نظرية " العمليات القائمة على الفعالية - effective based operations" مع سائر التيارات الفلسفية والنقدية في الغرب يتضح من خلال التعامل مع الظواهر بمعزل عن إمكانية تحديد علاقاتها. ومن ثم فإن "صورة الخصم"، مجتمع المقاومة، تغدو كمجموعة هائلة من البيانات التي يمكنهم جمعها بالوسائل التقنية. وإمكانية تحديد الأهداف تكتيكياً، بحيث تبدو الحرب عشوائية تماماً. ويبدو كل هدف عملياتي، تكتيكي، كما لو كان استراتيجياً بحد ذاته. والحال أن هذا هو الواقع فعلاً. وهو ما شكى منه ضباط القوات البرية في حرب تموز 2006، وهي ذات الشكاوى التي تُسمع خلال الحرب الحالية على قطاع غزة.

يقول الفيلسوف العسكري الياباني "مياماتو موساشي - Miyamoto Musashi" من القرن الخامس عشر: إن النصر مؤكد حين تحتجز العدو في إيقاع يربك روحه. يحدث هذا حين تنفصل العقيدة العسكرية عن الواقع عبر تحولها لأيديولوجيا أو لبناء فوقي لتقسيم العمل الذي أنتجها دون أن تدرك أنها نتيجة لهذا التقسيم، وبالتالي فإن مفاهيمها ليست مطلقة بحيث يمكن اسقاطها على أي تنظيم أو عمل عسكري. وهو بالضبط الدرس الذي لا يبدو أن العدو الصهيوني تعلمه برغم مراجعته، مع البنتاغون، لما جرى عام 2006 في ضوء عقيدته العسكرية. فكما اعتمد السوفييت في سبيل الإخلال بالترتيب القتالي للقوات الألمانية على المناورة بالمدفعية (مقال حول كفاءة حركة وحدات المدفعية  بالعدد رقم 192 (5256) 16 آب/ أغسطس 1942) بواسطة تخصيص وحدات مدفعية ميدان، ومدفعية صاروخية (كاتيوشا) على مستوى الكتيبة والفرقة سهلة الحركة بحسب الحاجة. طورت وحدات حزب الله و المقاومة الفلسطينية (الجهاد الإسلامي بالذات) عمليات استهداف مواقع العدو بالصواريخ ومدفعية الهاون (في غزة). وفق تأويل رياضي/ هندسي أكثر تحديداً للواقع. صحيح أن استخدام المدفعية لا يخلو من تقسيم الخريطة لإحداثيات، لكنها احداثيات تشبه رقعة الشطرنج (هكذا شبَّه السوفييت حركة المدفعية)، فهي لا تتعاطى مع الاحداثيات كمدخل أو متغير رياضي إلا كتحديد مكاني فيزيائي وليس تجريداً رياضياً، أو كما يقول ابن الهيثم ﴿مكان الجسم لا تزيد أبعاده على أبعاد ذلك الجسم  ﴾  أي أن احداثيات الجسم وفق ذلك التصور هي أبعاده ، فأبعاد نقطة تموضع جنود العدو ، المُحَدَّدة على خريطة ثنائية الأبعاد ، طول وعرض ، مُقسَّمة إلى احداثيات كمربعات رقعة الشطرنج ، التي تستخدمها وحدة من وحدات مدفعية الهاون التابعة لإحدى فصائل المقاومة ، تلك الإحداثيات هي ما تشغله نقطة تموضع جنود الاحتلال من حيِّز، يتعاطى معه المقاتل بخبرته الموضوعية، بمعرفته المباشرة بخريطة العمليات التي لا تشكل إحداثياتها بالنسبة له تجريدًا رقميًّا في أحد برامج المحاكاة الرقمية. 

بلغة الفيزياء: المكان هو إحداثيات الجسم. وكل جسم تتحدد إحداثياته تبعاً لجسم آخر. ولكي نحدد موقع جسم ما نحدد مجموعة إحداثيات "جاسئة"، وهي الحالة المثالية لجسم صلب متناهي الأبعاد تعتبر التشوهات فيه مهملة،  أو هو الجسم الصلب الذي لا يتأثر شكله ولا أبعاده أي قياساته تحت تأثير القوى المحيطة به كالضغط و تغير درجة الحرارة، فالمسافة بين أية نقطتين في الجسم الصلب الذي لا يتأثر شكله ولا أبعاده بالعوامل ولا القوى المحيطة به تبقى ثابتة عبر الزمن بغض النظر عن القوى الخارجية المطبقة عليه. وعليه فإن الاحداثيات هنا تلعب دور التحديد، وليست المفهوم أو التصور عن العدو. وهي تحديد مكاني للعدو وليست تجريداً له كمتغير. وهو بالضبط ما لم يدركه العدو منذ عام 2006. هذا فضلاً عن الأنفاق، المكافئ المنطقي لحفر الأفراد السوفيتية الهادفة للتشبث بالأرض المحتلة وضرب العدو من الخلف كلما أمكن ذلك، بالاستفادة من الطبوغرافيا الاصطناعية، غير المرئية، وهو ما مكن مقاتلي حزب الله من الانتظار لكي تصبح دبابات العدو المخترقة للأرض هي نفسها مخترقَة التشكيلات بواسطة الكمائن. 

ولعل اقتباس المحلل والمؤرخ العسكري مات ماثيوز عن نظيره الصهيوني "رون تيرا – Ron Tira" في الفصل الختامي من كتابه عن حرب لبنان عام 2006، ما يفيد الفكرة إذ يقول: "فشلت إسرائيل على المستويات الاستراتيجية والعملياتية والتكتيكية، ولم تنجح في إحداث قطع للرأس، أو شلل، أو عمى، أو أي تأثير آخر يضر بشكل جوهري بإرادة أو أداء قيادة التنظيم والسيطرة عليه. كما أنها لم تنجح في قمع الفعالية العملياتية لمجموعات حزب الله القتالية وتشكيلات الصواريخ الخفيفة أرض – أرض. في نهاية المطاف، لم تخلّ إسرائيل بتوازن نظام حزب الله ولم تخلق شعوراً بالعجز والضيق، ولم تدفع المنظمة نحو الانهيار المعرفي الاستراتيجي والدفع لإنهاء الحرب على الفور بشروط إسرائيل". وهو ما يحدث حينما تفقد القوات قدرتها على إدراك ما ينبغي فعله، وهو ما يُطْلَق عليه، كما ورد في صيغة الأمر التنفيذي للقيادة العسكرية العليا السوفيتية بتطويق وإسالة (ليكفيداتسيا) القوات الألمانية: أي تحويلها لمجموعة من الأسرى المسلحين كما سماهم مارشال الاتحاد السوفيتي قسطنطين روكوفسكي (لا يدرون ما الذي ينبغي عليهم فعله بأسلحتهم بالضبط وهي في أيديهم) أو ما هي الخطوة التالية، وهو ما حدث في لبنان 2006، وهو كذلك ما يشكو منه المحللون العسكريون الصهاينة بخصوص القتال في غزة، فيم تعاود قواتهم اقتحام نفس المناطق كل مرة دون تغير يذكر. وهو ما يبدو أنه مرشحٌ للحدوث في حال ما إذا اقدم العدو على أي عملية عسكرية برية في جنوب لبنان.

كاتب مصري