Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

مع أولى خيوط الفجر في الثالث عشر من حزيران، وبينما كان صدى الأذان يتردد في أرجاء طهران، دوّت انفجارات متتالية أيقظت المدينة بأكملها

حسين أكبرزاده

هزة في البنية الاجتماعية الإيرانية

الفجر الذي دوّى: حين استيقظت طهران على صوت الحرب

مع أولى خيوط الفجر في الثالث عشر من حزيران، وبينما كان صدى الأذان يتردد في أرجاء طهران، دوّت انفجارات متتالية أيقظت المدينة بأكملها. لم يكن أحد يعلم ما الذي جرى.في مساء نفس الیوم، وبينما كنت أسير في شارع ستارخان، كانت ملامح الغموض والخوف والقلق بادية على وجوه الناس. خطواتهم كانت أسرع من المعتاد، ولا أحد يلتفت إلى الآخر. كلّ الأذهان كانت مشدودة إلى تلك الأصوات التي انطلقت منذ الفجر وما تزال مستمرة.سلوك سكّان طهران آنذاك لم يكن مألوفاً؛ كان يعكس تجربة جمعية غير معهودة، ربما لم يعشها الإيرانيون منذ أربعين عاماً، أيام الحرب مع العراق. ومع استمرار القصف في اليومين التاليين، بات من المؤكد لدى الجميع أن ما يجري ليس مجرّد مناوشات عابرة، بل هي حربٌ حقيقية.ا

هذا الإدراك فجّر حركة نزوح جماعي باتجاه مدن أخرى وأدّى إلى اختناقات خانقة على طريق طهران – قُم، حيث تحوّل الطريق الذي يُقطع عادة في ساعتين إلى رحلة استغرقت سبع ساعات، بحسب شهود عيان. لا يمكن لأي وعي يقظ أن ينكر التغيّر المفاجئ في نظرة وسلوك المجتمع الإيراني خلال حرب الأيام الـ12؛ تغيّر وإن كان مؤقتاً، إلا أنّ تحليله يفرض العودة إلى الجذور، والغوص في التفاصيل العميقة.ا

الشعب: العمود الفقري للثورة الإسلامية

لقد غيّرت الثورة الإسلامية ملامح المجتمع الإيراني تغييراً جذرياً. مفاهيم مثل مناهضة الاستكبار، مناصرة المظلوم، العدالة، الإيثار، دخلت القاموس اليومي للناس، وشكّلت تحوّلاً ثقافياً واسعاً في البنية المجتمعية الإيرانية. وكانت الحرب العراقية – الإيرانية بمثابة التجسيد الكامل لهذا التحوّل؛ حيث أعادت صياغة الحياة اليومية على وقع التعبئة الشاملة. الشوارع والأحياء حُمّلت بأسماء الشهداء، وجرت مراسم تشييعهم وسط حضور شعبي كثيف، في وقت كانت الجداريات والملصقات تروّج لثقافة الشهادة وانتصار الحق على الباطل. النساء والرجال شاركوا خلف الجبهات في إعداد الطعام وتأمين الاحتياجات المقاتلين، في مشهدٍ اجتماعي يختلط فيه الواجب الوطني بالإيمان الديني.لكن من أبرز العناصر التي ساهمت في بناء هذا المزاج الجمعي، كانت الشعارات التي ترددت في المساجد والحسينيات والمظاهرات:ا

"الموت لأمريكا، الموت لإنجلترا، الموت للمنافقين والكفار، الموت لإسرائيل"

"تعال يا مهدي لدفن الشهداء"، "كلنا جنودك يا خميني، رهن إشارتك يا خميني"

ومع التكرار الدائم لتلك الهتافات، ترسّخت ثقافة مناهضة الاستكبار، والجهاد في سبيل الله، والولاء للقيادة، والإيمان بالمهدي المنتظر، والتطلّع إلى الشهادة.ا

من المؤسسات الشعبية إلى البيروقراطية الخاملة.ا

ونظراً للطابع الشعبي للثورة، نشأت منذ اللحظات الأولى للجمهورية الإسلامية مؤسسات أهلية تولّت جانباً من مسؤوليات الدولة، لا سيما في المجالات الثقافية والاجتماعية. من بين هذه المؤسسات: قوات التعبئة "البسيج"، جهاد البناء، الجمعيات الإسلامية في المساجد وغيرها. وكان أبرز ما يميّزها هو بعدها النسبي عن أجهزة الدولة، واعتمادها على المبادرات المجتمعية والمشاركة الشعبية.وقد نشأت هذه الهياكل ليس فقط لنشر القيم الثورية، بل أيضاً لتأدية أدوار إنسانية وخدمية في أوقات الكوارث الطبيعية والحروب. إلا أن هذا النموذج الشعبي لم يصمد طويلاً أمام خطر البيروقراطية، الذي بدأ بالتسلل منذ أواخر العقد الأول من الألفية الثانية.على سبيل المثال، تأسست منظمة "البسيج" من أجل تنظيم الطاقات الشعبية في الدفاع عن الثورة وحفظ الأمن الداخلي، وكانت تمتلك مقارّ في كل حيّ ومسجد. لكنها مع مرور الوقت تحوّلت إلى جهاز إداري بطيء الحركة، يُطالب بتنفيذ برامج ثقافية سنوية وفق خطط جاهزة، وتقديم تقارير دورية – مكتوبة ومرئية – للجهات العليا.وبينما كان "البسيج" في السابق يستمد حيويته من حاجات الناس وتفاعلهم الفوري، أضحى لاحقاً جزءاً من جهاز بيروقراطي يُعيد إنتاج أنشطة نمطية مفروضة من فوق، لا علاقة لها بالواقع الميداني أو احتياجات المجتمع.ا

ولاية روحاني والتشكيك في الشعارات

بعد أحداث عام 2009 وما تبع نتائج الانتخابات الرئاسية من اضطرابات، انقسم المجتمع الإيراني إلى شطرين. صحيح أن نيران الاحتجاجات خمدت في شوارع المدن، إلا أن تداعياتها بقيت تلاحق المزاج العام والسلم الأهلي لسنوات طويلة.ومع وصول حكومة حسن روحاني إلى السلطة عام 2013 ورفعها شعارات من قبيل "التفاعل البنّاء مع العالم" و"التفاوض مع أمريكا"، وجد قطاعٌ واسع من المجتمع - وخاصة أولئك المعترضين على نهج الجمهورية الإسلامية منذ 2009 - نافذة جديدة للتعبير عن مواقفهم من خلال تأييد هذه التوجهات الجديدة.لكن هذه الشعارات لم تكن امتداداً للوجدان الثوري الإيراني؛ بل جاءت متعارضة، في الجوهر، مع المبادئ التأسيسية لثورة عام 1979.ا

 

تزامن ذلك مع موجة حداثوية عارمة اجتاحت البلاد، غذّتها منصات التواصل الاجتماعي، لتنتج تحولاً ثقافياً عميقاً:شوارع كانت يوماً ما مكسوة بشعارات الثورة، تحولت إلى لوحات غرافيتي غريبة عن الموروث الاجتماعي الإيراني. وعلى جبهات أخرى، خلق الاستخدام الكثيف للتطبيقات - وخاصة إنستغرام - نزعة استهلاكية وراحة مفرطة بين فئات كبيرة من المجتمع، خصوصاً بين الشباب. لم يعد رجال الدين أو الخطباء الثوريون يحتكرون قيادة الرأي العام. مكانهم اليوم تُشغله "الإنفلوينسرز" ومشاهير الإنترنت، الذين - بمنطق تجاري بحت - يروجون لمنتجات استهلاكية (من الطعام إلى مستحضرات التجميل)، ويصوغون في الوقت نفسه نصائح "للحياة السعيدة".

 

بتساهل، يمكن القول إن هذا التحول الثقافي والاجتماعي هو ما دفع شريحة من الإيرانيين إلى العزوف عن المشاركة في الفعاليات الدينية أو الثورية.تراكم هذه العوامل قاد تدريجياً إلى تقويض الأسس الرمزية والاجتماعية التي قامت عليها الجمهورية الإسلامية، حتى بات من السهل نسيان منطقها التأسيسي القائل: "إسرائيل يجب أن تزول"، وهذا المنطق كان يفترض حتمية صدام مع أعداء الأمة. لكن المجتمع، بعد تلك التبدلات، لم يكن مستعداً لهذه المواجهة المحتومة.

 

ملامح من المجتمع الإيراني خلال الحرب

 

في صباح اليوم الأول للحرب، كان قسمٌ كبير من الإيرانيين لا يزال يجهل ما جرى في طهران، خصوصاً مع اتساع رقعة الضربات لتشمل تبريز وأصفهان وكرمانشاه.كثيرون لم يشعروا بالحرب بشكل مباشر، بينما انتشر الخوف في قلب العاصمة لدرجة أن موجات نزوح ضخمة انطلقت نحو المحافظات الشمالية في ايران.وكان من اللافت أن حركة المرور التي عادةً ما تستغرق ساعتين من شرق طهران إلى غربها، اختُصرت إلى نصف ساعة فقط بسبب فراغ الشوارع. من هذا المشهد، يمكن استنتاج أن المجتمع الإيراني - حتى في قلب العاصمة - لم يكن لديه أي إعداد نفسي أو تعبئة ذهنية لاحتمال اندلاع حرب شاملة مع العدو الصهيوني.

 

المساجد، ومقرات البسيج، والجهاز الإعلامي والدعائي الرسمي، كلها بدت مرتبكة وعاجزة في الأيام الأولى .فوضى سادت الميدان. كل شيء خارج إطاره المعتاد. لكن بعد اليوم الثالث، بدأت نقاط التفتيش تظهر مجدداً، تُديرها قوات التعبئة والشرطة، لا في طهران فقط، بل في معظم المدن الكبرى. مشاهد ذكّرت الناس بأيام الثورة في الثمانينات: شبّانٌ بسطاء يرتدون زيّ "البسيج"، يقدّمون المساعدة باحترام وروح عالية. ومع استمرار القصف، أيقن الناس أن ما يجري ليس مواجهة عابرة، بل واقع يجب التعايش معه. وبعد أسبوع، بدأت جموع العائدين إلى طهران تتزايد.

 

عودة الوعي الثوري؟ أم مجرد ردّ فعل؟

 

بدت تجربة الحرب وكأنها تُنعش شيئاً ما من ذاكرة المجتمع الإيراني في الثمانينات: ثقافة الشهادة، الحشود في الشوارع، الهتافات ضد العدو الصهيوني، الحملات الإلكترونية التي عبّرت عن الغضب الشعبي. لكن الملفت أن بعض الذين عبّروا عن دعمهم للحكومة ووقوفهم في وجه العدوان هم أنفسهم الذين احتجّوا في شوارع إيران عام 2022 بعد وفاة مهسا أميني، وواجهوا الأجهزة الأمنية بعنف.في لحظة الخطر الوجودي، اختار هؤلاء الاصطفاف مع الدولة.لكن في المقابل، لا يمكن تجاهل وجود شريحة من الإيرانيين استمرت في تحميل النظام مسؤولية اندلاع الحرب.

 

رغم أن الحرب شكّلت زلزالاً اجتماعياً وجرفت المزاج العام نحو مناخ يشبه بدايات الثورة، إلا أن مدتها القصيرة لم تسمح بتجذير هذا التحول. يمكن القول إن الحرب الإيرانية – العراقية، طيلة سنواتها الممتدة، قد أعادت صياغة المجتمع لأن الناس عاشوا داخل الحرب. أما حرب الأيام الـ12، فكانت أقرب إلى تجربة جديدة عابرة، وليست حياة تُعاد هيكلتها. اليوم، وقد وضعت الحرب أوزارها، يبدو أن الحياة في طهران وسواها عادت إلى إيقاعها المعتاد. الهموم اليومية طغت مجدداً، وذاكرة الخطر انزاحت جانباً. صحيح أن هناك إحساساً بأن الحرب قد تتكرر، لكننا لا نلحظ تغيراً واضحاً في سلوك المجتمع مقارنةً بما كان عليه قبل الحرب. ولو أن المواجهة استمرت لشهور، لكان التحول أعمق، وربما شهدنا تغييراً جذرياً في "السوفتوير" الجمعي للشعب الإيراني.

ناشط ثقافي إيراني