Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

في لحظة ما في القرن التاسع، حين اخترع الصينيون البارود، تغيّرت الحروب إلى الأبد

محمد الخشن

حرب إسرائيل وإيران: عصر ما بعد البارود

في لحظة ما في القرن التاسع، حين اخترع الصينيون البارود، تغيّرت الحروب إلى الأبد، انتشرت حينها مقولة شعبية في أوروبا مفادها: "الآن تساوى القوي والجبان" لأن البارود ولأول مرة منح ضعيف البنية القدرة على قتل الأقوى من مسافة، وبلا احتكاك جسدي مباشر، كان ذلك أول انقلاب حقيقي في قواعد اللعبة العسكرية، ثم مرّت الحشروب عبر أجيال من الخنادق في الحرب العالمية الأولى، حيث الثبات والتشبث بالارض، إلى حرب الحركة والمناورة في الحرب العالمية الثانيةمع ظهور الدبابات والطائرات، ثم حروب مكافحة التمرد في فيتنام والعراق وأفغانستان، حيث العدو "فكرة" لا جيش، في كل تحول كانت أدوات الحرب تعكس روح زمانها، أما اليوم ومع اشتعال الحرب بين إيران وإسرائيل، نشهد انتقالاً إلى ما لا يُشبه شيئاً مما سبق.ا

الجيل الخامس من الحروب: الحاضر الذي لم نفهمه بعد

طوال سنوات، تحدّث المحللون عن "حروب الجيل الخامس" دون أن يعرفوا شكلها بدقة. لكن حين انفجرت المواجهة بين إيران و"إسرائيل" في 2025، بدأت الصورة تتضح: لا إعلان حرب، لا جبهة محددة، لا جنود يقاتلون بأجسادهم، بل هجمات إلكترونية، طائرات دون طيار، وأسلحة دقيقة تقودها البيانات لا الأوامر الصوتية، لم تكن الحرب مجرّد تبادل للنيران، بل اختباراً شاملاً لأدوات العصر الحديث: الذكاء الاصطناعي، الحرب السيبرانية، الطائرات المسيّرة، حرب المعلومات، واستهداف الإدراك الجمعي للشعوب. لقد كانت حرباً باردة وساخنة، مادية وذهنية، كلاسيكية وحديثة في آن واحد.ا

هذه الحرب أثبتت أن قواعد اللعبة العسكرية تغيرت فالحروب القادمة لا تحتاج إلى احتلال الأرض بل السيطرة على "البيانات"، والمعارك لا تبدأ بإعلان رسمي، بل بهجوم إلكتروني وسايبري، كما أن القوة الصلبة لم تعد وحدها كافية، بل يجب أن تدعمها قوة ناعمة وتتماهى معها، وحروب الجيل الخامس لا تُخاض في ساحات المعارك التقليدية فقط، بل في العقول، والشبكات، والمعلومات، فهي حروب "غامضة" لا تُعلَن رسمياً، وتستخدم أدوات غير عسكرية لتدمير قدرة الخصم.ا

في كل حرب تقليدية، كان العدو يُرى، يُرصد، ويُتوقّع. لكن في حروب الجيل الخامس، باتت الضربات تُنفَّذ قبل أن تُفهم، والأسلحة تُستخدم قبل أن تُشاهد. هذه هي المفارقة: نحن نعيش داخل الحرب. لكننا لم نفهم شكلها بعد، وهنا تكمن الصدمة المتكررة لدى العالم، وحتى لدى محور المقاومة نفسه، في كل مرة تُبدع فيها "إسرائيل" بأسلوب جديد ومع كل تقنية جديدة، ومع كل مستوى غير مألوف من التنسيق بين الأمن والجيش والإعلام، تجد القوى التقليدية نفسها تتعامل مع عدو غير مألوف، لا يقاتل كما في الكتب ولا يتحرك كما في الخطط القديمة، حتى المحور الذي اعتاد الحرب الشعبية والمواجهة المباشرة بدأ يُفاجَأ لا من حجم القوة فحسب بل من طريقة استخدامها،فإسرائيل لم تعد ترد، بل تسبق وتتنبأ وتضرب في الوعي، وفي النظام، وفي البنية، قبل أن تبدأ الحرب رسمياً، هذا هو الجيل الجديد من الحروبحرب تستبق فهمك، وتُفاجئك بأنك خسرت دون أن تعرف كيف ومتى.ا

وتماماً كما صاغ منظّرو البنتاغون في مطلع الألفية نظرية "الصدمة والرعب"، التي تقوم على استخدام قوة مفاجئة، هائلة، وسريعة التأثير بهدف شلّ العدو نفسياً قبل أن يقاتل عسكرياً، فإن "إسرائيل" في حربها مع إيران ومحور المقاومة تمارس نسخة مطوّرة من هذه النظرية ضمن إطار حروب الجيل الخامس.ا

لكن الفرق هنا أن الصدمة لم تعد فقط بفعل آلاف القنابل أو دبّابات الصحراء، بل أيضاً:ا

·        ضربة سيبرانية دقيقة تُفقد العدو سيطرته على منظومته العسكرية.ا

·        هجوم إعلامي ممنهج يُربك الجبهة الداخلية ويزرع الشك.ا

·        مسيّرة انتحارية تقطع 1000 كلم لتضرب هدفاً لم يكن يتوقع أصحابه أنه مرصود أصلاً.ا

الصدمة الآن معرفية: العدو يُفاجأ أنه مكشوف تقنياً، مخترق سلوكياً، ومُراقب لحظة بلحظة، والرعب أصبح نفسياً: إذ لم يعد يعلم من أين ستأتي الضربة، أو بأي شكل، أو حتى إن كانت قد بدأت أصلاً. وهنا تماماً تكمن المفاجأة التي يعيشها محور المقاومة فهو يحارب بأسلحة الأمس، في حرب الغد.ا

حرب بلا جنود: خوادم وطائرات لا بشر

في هذه الحرب، لم تكن القذائف أول ما أُطلق، بل الاختراقات السيبرانية، التي شُلّت أنظمة الدفاع الجوي والطيران، توقفت المصارف، أُخليت مدن بتغريدة، وانطفأت مدن كاملة بضغطة زر، أُرسل آلاف الإيميلات النصّية إلى الإسرائيليين والإيرانيين لإثارة الذعر، بعضها موقّع باسم "العدو"، وبعضها لم يُعرف مصدره، كانت إسرائيل قادرة على تتبع تحركات شخصيات إيرانية باستخدام الذكاء الاصطناعي، استهدفت القيادات بناء على تحركاتهم على تطبيقات التواصل ، بينما اخترقت إيران كاميرات وشبكات لتبث رسائلها إلى عمق تل أبيب، من يملك البيانات اليوم يملك القرار، ولم تعد السيطرة على الأرض كافية؛ يجب السيطرة على الخوادم، على الفضاء الالكتروني، وعلى الوعي الجمعي نفسه.ا

أطلقت إيران أسراباً من مسيّرات شاهد بعضها انتحاري وبعضها هجومي. في المقابل استخدمت "إسرائيل" مسيّرات هاربي، وهاروب التمشيطية والانتحارية لمهاجمة الأهداف. وشنت حرباً مكتملة الأوصاف باستخدام المسيّرات حتى قبل دخول سلاح الجو ومنحه حرية العمل النسبية، فمعظم الاستهدافات والعمليات التي نفذت حتى نهاية الحرب كانت باستخدام المسيرات وليس من خلال سلاح الجو كما اعتقد البعض، الذي يبدو أن أدائه كان محكوماً بالخوف من المفاجآت خصوصاً في العمق الإيراني، وإلا فلماذا وافقت "إسرائيل" على انهاء الحرب بعد يومين من إعلانها اكتساب حرية الحركة فوق طهران؟، ألم يكن من المتوقع أن تبدأ جهود سلاح لجو عندها لتحقيق "الانتصار"؟. لقد أعد الإيرانيون طويلاً للحظة التي سيتم مهاجمتهم من قبل سلاح الجو الإسرائيلي، ولكن الضربة أتت من الداخل عبر الدرونات المفخخة، ومن دول الجوار عبر المسيرات الأكبر حجماً وذات المدى الطويل، هذه أيضاً مفاجأة حقيقية.ا

الحرب أصبحت عملية متكاملة: أمنية، سيبرانية، عسكرية، إعلامية:ا

المعركة الإعلامية كانت مركزية: إخلاء مدينة مثل طهران بسبب تغريدة، بثّ مقاطع مفبركة، تسريب صور لقادة قُتلوا قبل إعلان وفاتهم، نشر شائعات عن انقسامات داخل الجيش، واستخدام مؤثّرين لبث الذعر أو إشاعة النصر، كل ذلك بهدف قلب الرأي العام وخلخلة الثقة الداخلية.ا

وخلال ساعات الحرب الأولى، تعطلت أنظمة الملاحة في "مطار الامام الخميني"، وظهرت رسائل تحذير باللغة العبرية على شاشات محطات طاقة في طهران، في المقابل أصيبت منظومات تحكم إسرائيلية بالشلل، وخرجت البورصة الإسرائيلية عن الخدمة لساعات، إنها حرب إلكترونية تُدار بلوحات مفاتيح بدلاً من البنادق.ا

الهزيمة الصامتة: حين تُهزم قبل أن تفهم أن الحرب قد بدأت

حرب إيران و"إسرائيل" لم تغيّر فقط التوازنات الإقليمية، بل رسمت ملامح الجيل الجديد من الحروب: حروب بلا جيوش، بلا جبهات، بلا إعلان. إنها الحرب التي لا تُرى. لكنها تغيّرك من الداخل، لم تنفع القوات الأرضية التقليدية، لم تحمِ منظومات الدفاع من أسراب الدرونز، ولم تحسم المعركة كثافة الجيوش بل "كثافة الخوارزميات"، في زمن الحروب الحديثة، لم يعد العدو بحاجة إلى جيوش جرّارة كي يهزم خصمه، بل يكفيه أن يفهم المتغيرات بينما يظل الآخر سجين مفاهيم الأمس. فالمعارك لم تعد تبدأ بإعلان، ولا تنتهي برايات بيضاء، بل قد تُخاض وتُحسم دون أن يشعر بها أحد. وقد تُصاب دولة بالشلل دون قذيفة واحدة، وتُخترق عقول الناس دون فتح جبهة، في هذا العصر الحرب تبدأ في خوادم بياناتك وتنتهي في سكون الوعي.ا

هذا ما لا تدركه بعد أغلب الجيوش التقليدية التي لا تزال تُراكم الدبابات والمشاة، والهزيمة القادمة لمن لم يفهم هذه المتغيرات بعد، ومن لا يدرك أن الطائرات لم تعد بحاجة إلى طيار، وأن الجندي الجديد هو خوارزمية، لا بندقية. إن الجيوش التي تدرّب جنودها على حروب الأمس، ستُهزم سريعاً في حروب الغد، والهزيمة هنا لا تُقاس بعدد القتلى أو الآليات، بل تُقاس بعدد الثغرات التي لم تُفهم، والفرص التي لم تُدرَك، وهنا يكمن الخطر الأكبر: أن تُهزم لا لأنك أضعف، بل لأنك أبطأ في الفهم.ا

كاتب لبناني