قد يكون الإسرائيلييون يحتفظون بشبكات استخباراتية لم يتم تفعيلها سابقاً، ولكن المشكلة هنا تكمن في الأسلوب
حرب الـ12 يوماً: وهم إسقاط النظام وحدود التفوق العسكري
من الصعب الكتابة عن الحرب الأخيرة ضد إيران في سطور قليلة، إن كان لناحية سير المعركة، وتداعياتها، أو كيفية تغييرها لموازين القوى والتموضع الاستراتيجي من بعدها. لكن ومن خلال ما هو متوفر من معلومات علنية للمراقبين (من عامّة الناس مثلنا)، يمكن تحديد خطوط عامة للحرب على النحو التالي:
الأهداف المبهمة بشكل مقصود:
كما صار واضحاً، كان للهجوم الإسرائيلي في حرب الـ12 يوماً أهدافاً عالية جداً، تبيّن أن بعضها غير واقعي. وقد تمثلت أهداف الحرب بعدّة مستويات وسيناريوهات كانت القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية قد وضعتها. من هذه السيناريوهات، تحقيق ضربة قاضية على النظام الإسلامي، ليس من الناحية العسكرية عبر شلّ القيادة والسيطرة فحسب، بل الاستفادة من زخم الإنجازات في لبنان، وفلسطين وسوريا، لتحقيق خرقٍ على المستوى الإدراكي يتسبب بفقدان الأمل بالمقاومة. تمثّل ذلك بدعوة 30 مسؤولاً وجنرالاً إيرانياً للانشقاق في نفس يوم الهجوم، وقد نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية تسجيلاً واحداً منها فقط. هذا يعني أن "إسرائيل" لم تكن لتذهب لهذا الحدّ من الاغتيالات لقيادة الحرس العليا، واستهداف مجلس الأمن القومي، فضلاً عن الدعوة للانشقاق إذا كان هدفها المضي بضربةً محدودة. هذا غير منطقي إلا إذا كان الهدف إسقاط النظام.
يعود تحديد الأهداف الإسرائيلي هنا لدرس فينوغراد المستمر. دائماً إجعل العدو في دربٍ مظلمة حول أهدافك الحقيقية، ولا تضع أهدافاً غير قابلة التحقق، فإذا كانت النتيجة المرجوة أكبر فهذا ممتاز، وأما إذا كانت متواضعة فسوّق لها على أساس أن هذه كانت الخطّة منذ البداية، ونموذج الحرب في لبنان حاضرٌ في هذا المقام.
لقد نجح الإسرائيلييون في ضرب العديد من منظومات الدفاع الجوّي الإيراني، كما واغتيال العديد من قادة الحرس، وفرض خلل مرحلي في القيادة والسيطرة تمّ تداركه سريعاً بسبب الفشل في تحقيق شللٍ كامل، وبسبب بقاء السيد علي الخامنئي على رأس إدارة المعركة، كشخصية ذات شرعية عالية وصلاحيات شبه مطلقة في زمن الحرب.
الهوس بتحقيق كليّة القدرة والسيطرة
يمكن ملاحظة أن التسويق الإسرائيلي لمسألة تحقيق قدرة مطلقة على العمل في الأجواء الإيرانية، كما وتحقيق خروق استخباراتية كبرى كان في كثير من الأحيان يتجاوز مجرّد التصريحات العملياتية نحو "أسطرة" ما، والموضوع بالتأكيد ليس لتحقيق سردية ما - على طريقة عمل بعض الأنظمة العربية أو بعض حركات المقاومة) لغاية السردية نفسها أقصد، ولكن بغية تحقيق انهيار إدراكي لدى العدو يجعل كلّ مقاومة دون جدوى ويقضي على إرادة القتال عنده، فيُنهي المعركة على الطريقة "الإسرائيلية" الفضلى؛ أي الحروب القصيرة.
لقد انتقل الإسرائيلييون من نقل المعركة إلى أرض العدو برياً، ومحاولة إخضاعه كما في حروب القرن الماضي، إلى الإستفادة القصوى من أحدث التكنولوجيات، وإعطاء الاستخبارات أهمية استثنائية لا تعطيها أي قوّة مقاتلة على هذا الكوكب بهذا النحو. وهو ما كان قد ابتدأ مع رئيس الأركان الأسبق أفيف كوخافي وطاقمه، الذي واجه صعوبة كبيرة في البداية من قبَل أذرع الجيش التقليدية في سلاح البر، إلى أن أثمر سعيه في ما يسميه الإسرائيلييون بتضييق الدائرة، واستخدام النيران الدقيقة والفتاكة بغاية القتل.
هل التأقلم ممكن؟
ما زال خصوم "إسرائيل" وأعداؤها في بداية مرحلة التأقلم مع هذا النوع من الحروب. في المقابل، يدعي الإسرائيلييون بأن ثمة دوراً مركزياً للذكاء الصناعي يتجاوز حدود المنطق بهدف منع هذا التأقلم. هم يريدون الإيحاء بأن أي مقاومة هي غير ممكنة ولا واقعية بسبب تفوقهم التقني الهائل. في الوقت الذي ينبغي لنا النظر لهذه المسألة بشيء من العقلانية. نحن نرى أنفسنا أمام ثغرة، وهذا صحيح، لكنها ثغرة تكتيكية - تكنولوجية مرحلية.
وهناك العديد من الأمثلة عن هذه المسألة في التاريخ، من صعوبة تعامل جيوش المسلمين مع الخيّالة المدرّعة الأوروبية أثناء الغزوات الصليبية، أو استخدام نابليون لتكتيكات الفيالق المنفصلة والمستقلّة أمام الجيوش الأوروبية المركزية، أو استخدام الألمان للحرب المتحركة الميكانيكية أمام أعدائهم الذين كانوا يقاتلون بأساليب الحرب العالمية الأولى. في كل من هذه الحالات، كان هنالك حقبة من تفوّق للعدو بنحو ساحق، ولكن سرعان ما تأقلم الآخرون إما عبر التقليد أو التكتيكات المضادة، فقلّت فعالية هذه الابتكارات الثورية في عالم الحرب.
لا يجب أن توحي هذه الكلمات بأن الموضوع سهلٌ أو يسير، ففي كلّ من هذه الحالات، كلّفت الهزائم المترتّبة من هذه الثغرات آلاف القتلى أو حتى الملايين، بحسب الحالة، وكان التأقلم معها نتيجة وجود قوّة عسكرية جادّة ومثابرة أصرّت على التعلّم والتعامل مع العدوّ بعلمية ومهنيّة، ولم تنجح إلا بعد هزائم كثيرة، فكان أن انتهى الصليبييون في البحر، ونابليون في المنفى، وهتلر منتحراً في حصنه. تبقى الكلمات المفتاحية هنا هي: المهنية، العلمية، والجدية في العمل.
المسار الاستراتيجي للحرب
على الرغم من أن الإسرائيليين حقّقوا خروقات تكتيكية مهمّة كما ذكرنا آنفاً، إلا أن الاستمرار بالحرب كان ليكون سيئاً جداً عليهم. فبحسب مطالعة البيانات المتوفّرة، كان الدفاع الجويّ الإسرائيلي في حالة مستمرة في الاستنزاف. هذا ما كشفت عنه العديد من التقارير الصحفية، لدرجة أن ربع معترضات الثاد الأمريكية الموجودة على الكوكب نفذت في حرب الـ12 يوماً مثلاً.
وعلى الرغم من أن الإسرائيليين حقّقوا عبر العمليات الإستخباراتية ضربات ضد الدفاع الجوّي الإيراني، إلا أن الدفاع الجوي الإيراني انتقل لوضع الكمين في كثير من الأماكن ريثما يتمّ إعادة تنظيمه (هذا الوضع بالتأكيد، منح العدو حريّة أكبر في العمل، نتيجة لعدم القدرة على تشغيل الرادارات بشكل مستمرّ بدون أن تحدّد الأقمار الصناعية الأمريكية مكانها)، وكان ليكون مؤذياً للإسرائيليين في حال طالت الحرب ونفذت ذخائرهم طويلة المدى ذات العدد القليل واضطروا للعمل بذخائر قصيرة المدى كما في لبنان.
الأمر نفسه لناحية الضربات الإسرائيلية ضد القواعد الصاروخية التحت أرضية (خصوصاً في غرب البلاد). فلقد أظهرت صور الأقمار الصناعية أضراراً في مداخل أغلب هذه القواعد، وفي البنى الإدارية الخارجية لها، بالإضافة إلى نقاط التخزين الخارجية المخصصة لحالة السلم، من بدون أدلّة على أضرار في البنى الداخلية. مثل هذه الأضرار قد تكون مخصّصة لإخراج هذه القواعد عن الخدمة لعدّة أيام لا غير، لكن ومع إطالة أمد الحرب، كانت مؤشرات نفاذ الذخيرة الإسرائيلية طويلة المدى قد بدأت بالظهور، مع بدء مرحلة تعافي الدفاع الجوي الإيراني (يظهر ذلك من خلال إسقاط عدد من المسيّرات الكبيرة كالإيتان)، وهو ما يمكن أن يرسم مساراً سيئاً لاستمرارية الحرب بالنسبة للإسرائيليين.
لماذا توقفت الحرب إذن؟
من غير المفهوم سبب موافقة الإيرانيين حتّى هذه اللحظة على إيقاف الحرب، ولكن هنالك العديد من النظريات حول ذلك. أحد الإحتمالات هو تهديد الولايات المتحدة بالتدخل بشكل مباشر في حال استمرت الحرب نتيجة إدراك الأخيرة محدودية قدرة التحمل الإسرائيلية في هذه الحالة، خصوصاً وأن الضرر الذي يحدثه كلّ صاروخ إيراني ضخم جداً، وفكرة أن تكون إيران بعد شهر من الحرب قادرة على إطلاق عشر صواريخ من التسعينات من طراز شهاب مثلاً بدون أن يُعترض أي واحد منها مرعبةٌ جداً للإسرائيليين مع انحسار قدرتهم على الضرب في إيران مع الوقت. هكذا سيناريو كارثي لن تحلّه إلا ضربات نوويّة خصوصاً بعدما دخل المجتمع الإيراني طور الحرب الوجودية، بنحو حالة الحرب العراقية على إيران.
ربّما لم تفضّل إيران أن تتعرّض مصافيها ومصالحها الإقتصادية للخطر في هذه الحرب، وفضّلت أن تتراجع هذه المرّة وتقوم بتقييم أضرار المرحلة تمهيداً للقيام بالخطوات اللازمة لتصحيح المسار العسكري، على أن يتمّ ضمان ذلك عبر الحفاظ على أصول الدولة وقدرتها على رفد قطاع الصناعة العسكرية أو استيراد المعدات، وسيكون هذا صعباً إذا ما تعرّض الإقتصاد الإيراني لضربات كبيرة. وقد يكون هنالك رهان، خاطئ أو صحيح، على أن هذه الضربة لن تتكرر، وليس في مصلحة الولايات المتحدة المشغولة في سيناريوهات أخرى والمضطرة للتوجه شرقاً أن تكرّرها. والمستقبل وحده، سيكون كفيلاً بتبيان إذا ما كان هذا القرار خاطئاً أم صحيحاً من الناحية الإستراتيجية.
ماذا الآن؟
حالياً، على الرغم من تلويح الإسرائيليين والأمريكيين بإعادة القيام بضربة، إلا أن فقدان عنصر المفاجأة، وصعوبة إعادة تهيأة الظروف للضربة السابقة: أي الصدمة والترويع الإستخباراتي، ثم الخداع الدبلوماسي، يجعل من تكرارها صعباً من دون الدخول بنفس مسار ما بعد الـ12 يوماً، أي حرب الاستنزاف.
لا يمكن استبعاد هذا السيناريو أبداً، فقد يكون الإسرائيلييون يحتفظون بشبكات استخباراتية لم يتم تفعيلها سابقاً، ولكن المشكلة هنا تكمن في الأسلوب. فعلى الرغم من أن هذا الأسلوب لم يكن مفاجئاً من أساسه بسبب القيام بهكذا ضربات بعد عملية الوعد الصادق 2، وقيام أوكرانيا بضربات مشابهة لمطارات روسية مختلفة، إلا أن إعادة تكراره صعبٌ جداً، أو حتى القيام بأمر آخر مشابه قد يحتاج لوقت طويل، مقياسه السنين وليس الأشهر.
من جهة الإيرانيين، هم أمام تحدٍ كبير، لا يكمن فقط في تعويض ما تمّت خسارته من الناحية العسكرية (إما عبر التصنيع أو الإستيراد من الصين أو روسيا)، خصوصاً وأن بعض الضربات الإسرائيلية استهدفت مصانع مكوّنات الصواريخ البالستية وصواريخ الدفاع الجوّي، ولكن إعادة صياغة النظرية الأمنية الإيرانية بشكل كامل، حيث كانت هي نقطة المقتل، والشق الذي تسلّل منه الإسرائيليون، والذي من دونه كان الهجوم ليكون صعباً جداً.
لقد عانت إيران دائماً من انعدام المركزية بين مختلف أجهزتها الاسخباراتية، ومن التنافس، لا بل والصراع بين هذه الأجهزة، ولا شكّ من أن توحيد العمل والارتقاء به من الناحية البنيوية والتكنولوجية لم يعد مجرّد ترف بل ضرورة قصوى.
على الرغم من صعوبة القيام بضربة لإيران حالياً، إلا أن الضرورات الأمريكية – الإسرائيلية - الأوروبية بتحييد واحد من الساحات الكبرى أي: غرب آسيا، شرق أوروبا وشرق آسيا. وفيما يواجه الغرب الجماعي هزيمة شبه محقّقة في أوكرانيا في حال استمرّ السياق الحالي على نفس المنوال (ما يصعّب عليه التوجّه شرقاً ونقل موارده لمواجهة الصين)، هو يجد نفسه أمام سيناريو واحد فقط لا غير: أنه ملفّ غرب آسيا بأي ثمن، وإلا فإن المستقبل لن يكون غربياً البتة.
هذه الحالات من الذعر هي ما قد تفرض عودةً للحرب، وخيارات غير منطقية ذات مخاطرة كبرى حتّى قد توصف بالجنون، ومنها هجوم غربي شامل على إيراني طمعاً بنصر سريع ورخيص. وقد تجد الجمهورية الإسلامية نفسها أمام سيناريو ليس فيه من مهرب من صناعة القنبلة النووية لحماية نفسها، هذا إذا لم تكن قد صنعتها في مكان ما في من جبال وسط البلاد.
Related Posts
كاتب لبناني مقيم في إيطاليا