شكَّلت القضية الفلسطينية تاريخياً محوراً أساسياً في السياسة الخارجية السودانية، حيث وقف السودان بثبات إلى جانب الحقوق الفلسطينية
السودان والقضية الفلسطينية
شكَّلت القضية الفلسطينية تاريخياً محوراً أساسياً في السياسة الخارجية السودانية، حيث وقف السودان بثبات إلى جانب الحقوق الفلسطينية، ورفض التطبيع مع الكيان المحتل، بل واعتبر نفسه جزءاً من جبهات المقاومة العربية والإفريقية. ومع اندلاع معركة "طوفان الأقصى" في أكتوبر 2023، عاد النقاش حول دور السودان التاريخي في دعم القضية الفلسطينية، وما طرأ على هذا الموقف بعد سقوط نظام الرئيس عمر البشير في 2019، وما تلا ذلك من تغييرات في التحالفات الإقليمية والدولية.ا
تحذير هذا النقاش وسط العديد من الفئات الاجتماعية خصوصاً الشباب المشارك في حرب الجيش السوداني ضد قوات الدعم السريع التي اندلعت في 15 نيسان/ أبريل 2023، ومع الدعم الإسرائيلي الذي قدم خلال الفترة الإنتقالية لقوات الدعم السريع، أضحى المخطط واضحاً أمام هذه الفئات حيث تقسيم السودان ومساومته مقابل مفاتيح الطريق نحو العمق الأفريقي والتطبيع الكامل الذي بدأ في العام 2020، والذي قطعة انقلاب 2021 بدعم من الفئات المحافظة في الجيش والمجتمع السوداني.ا
تاريخ العلاقات بين السودان والقضية الفلسطينية
ارتبط السودان بالقضية الفلسطينية منذ عقود طويلة، حيث كان من أوائل الدول العربية التي دعمت النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي. ففي فترة الخمسينيات والستينيات، وقف السودان مع حركة التحرر العربية، وكان عضواً فاعلاً في جامعة الدول العربية، داعماً لمطالب الفلسطينيين. ومع صعود منظمة التحرير الفلسطينية، قدم الخرطوم الدبلوماسي والمادي للمقاومة، حيث استضافت العاصمة السودانية العديد من القادة الفلسطينيين، وكانت من الدول التي رفضت أي تسوية مع إسرائيل دون ضمان حقوق الفلسطينيين كاملة.
خلال حرب عام 1967، قطع السودان علاقاته الدبلوماسية مع الولايات المتحدة بسبب دعمها لـ"إسرائيل"، وفي حرب أكتوبر 1973، أرسل السودان قوات لدعم الجبهة المصرية، مما يعكس التزامه العسكري بالصراع العربي-الإسرائيلي. كما أن السودان كان من الدول التي رفضت اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978، معتبراً أنها تتنازل عن الحقوق الفلسطينية.ا
تاريخ العلاقات بين السودان والكيان المحتل
على الرغم من الموقف التاريخي المعادي لـ"إسرائيل"، شهدت العلاقات بين السودان والكيان المحتل تحولات كبيرة، خاصة في العقدين الأخيرين. فبعد انفصال جنوب السودان في 2011، واجهت الخرطوم عزلة اقتصادية وسياسية، مما دفع النظام السابق إلى محاولة تحسين علاقاته مع الغرب، وبشكل غير مباشر مع إسرائيل. عام 2020، وبعد سقوط نظام البشير، أعلنت حكومة عبد الله حمدوك الانتقالية، بدعم من بعض القوى السياسية والعسكرية، عن تطبيع العلاقات مع "إسرائيل" بضغط أمريكي وإماراتي. جاء هذا القرار ضمن صفقة شملت رفع السودان من قائمة الإرهاب الأميركية مقابل التطبيع، مما أثار جدلاً واسعاً داخل السودان، حيث رفضته قطاعات شعبية وسياسية عريضة، معتبرة أنه خيانة للموقف التاريخي للبلاد.ا
لكن الوضع لم يستقر، فبعد الانقلاب العسكري في أكتوبر 2021، ترددت أنباء عن تعليق أو إبطاء عملية التطبيع، مع تصاعد الموقف الشعبي الرافض للعلاقات مع "إسرائيل". ومع اندلاع طوفان الأقصى، خرجت مظاهرات في الخرطوم تضامناً مع فلسطين، مما عكس استمرار التعاطف الشعبي السوداني مع القضية.ا
تأثير السودان على القضية الفلسطينية وما فقدته فلسطين بعد سقوط النظام
لعب السودان دوراً مهماً في دعم المقاومة الفلسطينية، ليس فقط على المستوى الدبلوماسي، بل أيضاً على المستوى اللوجستي والعسكري. فخلال فترة حكم البشير، كانت الخرطوم تُعتبر حليفاً لإيران وحماس، وتشير التقارير إلى أن السودان كان نقطة عبور للأسلحة والمعدات التي تصل إلى قطاع غزة عبر شبكات معقدة من الإمداد. كما أن السودان استضاف قيادات من حركة حماس، وكان له دور في دعم المقاومة في وجه الحصار الإسرائيلي. ا
لكن بعد سقوط نظام البشير، وتحت ضغوط التطبيع، فقدت القضية الفلسطينية أحد أهم حلفائها الإقليميين. إذ قامت الحكومة الانتقالية، بالرغم من عدم تثبيت التطبيع بشكل كامل، بتقليص الدعم السابق للمقاومة، مما أضعف قدرة الفلسطينيين على الاعتماد على السودان كقاعدة خلفية. كما أن التوجه الجديد للسودان نحو التحالف مع دول مثل الإمارات، التي تقود سياسة التطبيع في المنطقة، قلَّص من تأثير الخرطوم في الصراع.ا
السياسات الإسرائيلية ومحاولة احتواء السودان
رأت "إسرائيل" في السودان فرصة استراتيجية لاختراق العمق الإفريقي والعربي، خاصة بعد انفصال الجنوب، حيث أصبح السودان دولة ضعيفة اقتصادياً وسياسياً، مما جعلها عرضة للضغوط. فمنذ عام 2016، بدأت تقارير تتحدث عن لقاءات سرية بين مسؤولين سودانيين وإسرائيليين، بعضها تم في دول مثل أوغندا وتشاد. والهدف الإسرائيلي كان واضحاً: تحييد السودان كجبهة مقاومة، واستغلال موقعه الجغرافي القريب من مصر وإثيوبيا لإضعاف أي تحالفات معادية. كما أن "إسرائيل" سعت إلى قطع الطريق على أي دعم إيراني يمر من السودان إلى غزة. بعد التطبيع، حاولت تل أبيب تقديم مساعدات اقتصادية وأمنية للسودان، لكن الوضع الأمني المضطرب حال دون تحقيق مكاسب كبيرة. ا
بالإضافة الى نشوء قوى شبابية مكنت من تدبير العديد من الاتصالات بمراكز اتخاذ القرار داخل الجيش بالاضافة الى تشكيل مجموعات ضغط من أجل إيقاف أي محاولة من مضي مسار التطبيع في السودان، مما افرز كتلة سياسية شبابية عابرة للحزبية مؤيدة للقضية بل و فاعلة فيها سواء عبر الدعم العيني لسكان غزة أو الاتجاه السياسي الرافض للكيان و وجوده في السودان.ا
السودان كجبهة مقاومة
على الرغم من الضغوط، يظل السودان يحمل إمكانية العودة كجبهة مقاومة، وذلك لعدة أسباب: أولاً، الموقف الشعبي السوداني لا يزال متعاطفاً بشدة مع فلسطين، كما ظهر في المظاهرات الأخيرة. ثانياً، القوى السياسية والعسكرية المؤثرة، مثل بعض فصائل قوى الحرية والتغيير، ترفض التطبيع وتدعم المقاومة. ثالثاً، الموقع الاستراتيجي للسودان، القريب من البحر الأحمر ومنطقة القرن الإفريقي، يجعله نقطة ارتكاز لأي تحرك عسكري أو سياسي معادٍ لإسرائيل.
لكن هذا الدور مرهون باستقرار السودان سياسياً. ففي ظل الصراع الداخلي بين الجيش وقوات الدعم السريع، وتدخلات القوى الإقليمية، يصعب على الخرطوم أن تلعب دوراً فاعلاً في الصراع العربي-الإسرائيلي. ومع ذلك، فإن أي حكومة مستقبلية ذات توجه وطني قد تعيد للسودان مكانته كحليف للمقاومة.
يجب على المؤسسات و حركات المقاومة العربية أو المؤثرة عليها أن تعيد النظر في سياساتها تجاه السودان، ليس فقط بسبب دوره المحتمل في القضية الفلسطينية، بل أيضاً بسبب تأثيره الكبير على إفريقيا. فالسودان يُعتبر جسراً بين العالم العربي والقارة الإفريقية، وتدهور أوضاعه قد يؤدي إلى تفاقم الأزمات في المنطقة، بما في ذلك تمدد النفوذ الإسرائيلي في إفريقيا.ا
إن فقدان السودان كحليف استراتيجي أضعف الجبهة العربية، حيث أن الدول التي قامت بالتطبيع، مثل السودان والمغرب، كانت في السابق رافضة للوجود الإسرائيلي. كما أن السودان كان له دور في دعم القضية الفلسطينية في المحافل الإفريقية، حيث أن العديد من الدول الإفريقية تتأثر بموقف الخرطوم. لذا، فإن السودان، وبالرغم من كل التحديات، سيظل لاعباً مهماً في المعادلة الإقليمية. وإذا أرادت الدول العربية استعادة زمام المبادرة في القضية الفلسطينية، فعليها أن تدعم استقرار السودان، وتعمل على إبعاده عن سياسات التطبيع، لأن في ذلك ضمانة لبقاء جبهة المقاومة حية.اا
Related Posts
كاتب وباحث سياسي من السودان