لم تكن القضية الفلسطينية في المخيال الإيراني يوماً شأناً سياسياً فحسب، بل لطالما كانت رمزاً للنقاش حول العدالة ومقاومة الظلم والاستعمار
المثقفون الإيرانيون والقضية الفلسطينية
لم تكن القضية الفلسطينية في المخيال الإيراني يوماً شأناً سياسياً فحسب، بل لطالما كانت رمزاً للنقاش حول العدالة ومقاومة الظلم والاستعمار. ومنذ منتصف القرن العشرين، صارت فلسطين فضاءًلخطاب العدالة بأبعاده المختلفة، ولعبت دوراً محورياً في تشكيل وعي النخبة المثقفة في إيران، سواء قبل الثورة الإسلامية عام 1979 أو بعدها.ا
وبالقدر الذي شكلت فيه هذه القضية نقطة التقاء نادرة بين تيارات فكرية متباينة؛ يساريةوقوميةوإسلامية.كانت في الآن عينه محوراً للخلاف والنزاع الفكري داخل التيارات المختلفة،فبرزت نقاشات محتدمة بين الكثير من المفكرين حول دلالاتها السياسية والأخلاقية. مثال على ذلك، المناظرات الفكرية بين علي شريعتي وداريوش آشوري، أو انتقادات رضا براهني لتحولات جلال آل أحمد الفكرية في علاقة الأخير مع "إسرائيل". كما أن بعض المفكرين الإيرانيين، رغم تأثرهم بالقضية، عبّروا عن مواقف متمايزة أيديولوجياً وصلت حدّ المفارقة والتنافر. وهو ما سأحاول سريعاً الإضاءة عليه.ا
السياق التاريخي والموقف الرسمي قبل الثورة (1925 - 1979):ا
شهد عهد الشاه محمد رضا بهلوي (1925-1979) تقارباً غير معلن مع "إسرائيل". فعلى الرغم من اعتراف إيران "De Facto" بـ"إسرائيل" في الخمسينيات وإبرام صفقات اقتصادية وعسكرية سرية، ظل هذا التقارب بعيداً عن الرأي العام. تشير مصادر تاريخية إسرائيلية إلى أن إيران تحولت في الستينيات إلى المورد الرئيسي للنفط لـ"إسرائيل" عبر خط أنابيب "إيلات - عسقلان" السري، حيث كانت تزودها بجزء كبير من احتياجاتها النفطية. في المقابل، شكلت القضية الفلسطينية، بنكبتها عام 1948 وما تلاها، رمزاً جامعاً لمختلف التيارات الفكرية الإيرانية المناهضة للهيمنة الاستعمارية والثقافية الغربية، متحديةً بذلك القومية البهلوية التي ركزت على التراث الفارسي القديم وتجاهلت القضايا العربية.ا
المثقفون العلمانيون وتحولات الخمسينيات والستينيات:ا
قبل عام 1979، عاش المثقفون الإيرانيون، كغالبية مثقفي العالم الإسلامي، حالاً من الجدل حول "نزعة التغریب - غربزدگی" والانبهار بالغرب. جلال آل أحمد أحد أبرز رموز "المعرفة المضادة" إبان تلك المرحلة، كان يمثل نموذجاً بارزاً للتحول المعرفي لدى مثقفي ما قبل الثورة. ففي بداياته، أعجب أحمد بالتجربة الصهيونية ووصف "إسرائيل" بعد زيارتها أواخر الخمسينيات في كتابه "سفر به ولایت عزرائیل - سفر إلى ولاية عزرائيل" بالحضارة الطليعية". غير أن زيارة متحف"ياد فاشيم – يد وإسم"أحدثت صدمة عميقة لديه، فعاد محزوناً ورافضاً أن تكون "إسرائيل" "ثمناً لدَين الغرب" ومنتقداً مشروعها كامتداد للإمبريالية الغربية.ا
في كتابه الشهير "نزعة التغريب - غربزدگی"، أبرز جلال آل أحمد مقاومة لافتة للتأثير الغربي، معتبراً استلهام الهوية والثقافة الذاتية السبيل الأوحد لتجاوز التبعية. يرى الباحثون أن هذا التحول يمثل محاولة لاستعادة هوية مغلوبة بعد مواجهة الاستعمار الثقافي. رحلة آل أحمد وزوجته سيمين دانشور إلى فلسطين (1962) بدعوة من الحكومة الإسرائيلية كانت محطّ جدل واسع. فقد كتب آل أحمد تقريراً أولياً في كتابه أظهر فيه انبهاره المبدئي بالمجتمع الإسرائيلي، لكن الجزء الثاني من رحلته، الذي نُشر لاحقاً بعنوان "بداية كراهية" حمَل انتقاداً لاذعاً لإسرائيل كمستعمرة غربية. يعتبر حمید دباشي في كتابه "المثقف المسلم الأخير: حياة وإرث جلال آل أحمد" أن هذا التحوّل الجذري يكشف عن دينامية فكرية وتطوّر ذاتي في وعي آل أحمد.ا
يذهب دباشي أبعد من ذلك، منتقداً بشدّة قبول آل أحمد للدعوة الرسمية من حكومة الاحتلال، واصفاً الرحلة بأنها "سقوط أخلاقي". كما ينتقد تجاهله التام لزيارة أي شریحة من المجتمع الفلسطيني في الأرض المحتلة. يرى دباشي أن آل أحمد، آنذاك، لم يُدرك الأبعاد الحقيقية للمأساة الفلسطينية، وتورّط في مواقف قومية معادية للعرب حين عبّر عن استيائه من وصف العرب للإيرانيين بـ"العجم".كما يتوقف دباشي عند تفاصيل شخصية ذات طابع درامي في تلك الرحلة، مثل تصالح آل أحمد مع زوجته في مطار تل أبيب، وإحساسه بالذنب. ويرى أن هذه التفاصيل تكشف تداخل الجوانب الشخصية بالفكرية في قرارات المثقف.ا
في الجانب السياسي، يربط دباشي بين إعجاب آل أحمد الأولي بـ"إسرائيل" وتأثره بخط أستاذه خليل ملكي، الذي زار "إسرائيل" وأشاد بتجربتها "الاشتراكية". يرى دباشي أن هذا الانجذاب شكّل لحظة ضعف فكري داخل التيار الاشتراكي الإيراني، الذي تجاهل فاجعة النكبة.ا
لاحقاً، خاصة بعد نكسة 1967، انقلبت مواقف آل أحمد، كما يظهر في مقالته آنفة الذكر (بداية كراهية): "لأن أوروبا البرجوازية قتلت ستة ملايين يهودي في أفران النازية، يجب اليوم قتل ثلاثة ملايين فلسطيني في غزة والضفة لكي يُحمى رأس مال وول ستريت وبنك روتشيلد".ا
يعُد دباشي هذا النصّ أحد أقوى لحظات آل أحمد، ويصفه بأنه تحوّل نحو لاهوت تحرّري يربط المأساة الفلسطينية بالمأساة اليهودية الأوروبية والنفاق الغربي.ا
يصف حميد دباشي جلال آل أحمد بـ"آخر المثقفين المسلمين"، وهي تسمية لا يُقصد بها الترتيب الزمني، بل تدلّ على انقراض نمطٍ نادر من الوعي النقدي الحرّ في العالم الإسلامي. هذا الوصف ينبع من تعريف دباشي للمثقف بوصفه فاعلاً أخلاقياً مستقلاً عن أجهزة السلطة، وشاهداً يقف في وجه الهيمنة والاستعمار بكل أشكالهما، سواء كانت صهيونية، أو اشتراكية بيروقراطية، أو أصولية دينية. يرى دباشي أن آل أحمد، بخلاف كثير من معاصريه، لم يُحوّل إسلامه إلى أيديولوجيا حزبية ضيقة، بل ظلّ يتعامل معه كضمير كوني مفتوح، يرفض الطائفية والمذهبية كما يرفض تبرير الاستعمار أو الصمت حياله. ومن هنا، فإن مكانة آل أحمد لا تأتي فقط من مواقفه، بل من قدرته على اجتراح لغةٍ ما بعد استعمارية، تُحرّر الذات المسلمة من أسر الثنائية الزائفة بين "الشرق" و"الغرب"، وتدعو إلى مقاومة كونية تنطلق من قيم العدالة والكرامة، لا من حدود الجغرافيا أو الانتماء القومي. بهذا المعنى، يُعدّ آل أحمد، في نظر دباشي، شاهداً أخيراً على إمكانية المثقف المسلم أن يكون صوتاً كونياً حراً قبل أن تبتلع المؤسّسات والهويات المغلقة هذا الدور.ا
رغم أهمية تحول آل أحمد، وجه الكاتب رضا براهني (1935-2017) في كتابه "سفر مصر"نقداً لهذا التحول واعتبره غير مكتمل، لكنه أشاد بجهوده في التوعية بالقضية. ورضا براهني (1935 – 2022) هو أحد الشعراء الذين ساهموا بقوة في الجهد الفكري الناقد والمحلل في إيران وخارجها. عام 1969، وباقتراح من آل أحمد، ترجم براهني كتاب المؤرخ الفرنسي الماركسي ماكسيم رودنسون "العرب وإسرائيل" إلى الفارسية، ونشرته دار نشر خوارزمي في طهران. كان رودنسون منتقداً للصهيونية كمشروع استعماري غربي، مدافعاً عن الفلسطينيين حتى بعد حرب عام 1967. ساعدت ترجمة الكتاب، بمقدمته النقدية الماركسية التي حذرت من خلط مطالب اليهود بتحرير الذات مع التبريرات الاستعمارية، في تعرية الرواية الصهيونية في إيران من منظور يساري، وهي الفترة نفسها التي ترجم فيها آية الله هاشمي رفسنجاني كتاب "القضیة الفلسطینیة"لأكرم زعيتر.ا
علي شريعتي كمناصر للقضية قبل الثورة:ا
يُعد شريعتي (1933-1977) من أهم من رسخوا القضية الفلسطينية في الوعي الثوري الإيراني. فقد أدخلها بقوة في خطاباته في حسينية إرشاد، معتبراً إياها رمزاً لمقاومة "المستضعفين" ضد "المستكبرين" العالميين. دعا إلى تضامن المسلمين مع الفلسطينيين، وربط نضالهم بمفاهيم الشهادة والانتظار الشيعية. وعندما أبدى المفكر اليساري "داريوش آشوري" تعاطفاً مع "إسرائيل" بعد زيارته لها عام 1969 واعتبر "اشتراكيتها" أفضل من القومية العربية الإقصائية، لم يغض شريعتي الطرف بل هاجمه بحدة واتهمه بـ"خيانة شعبه"، موجهاً سهامه لأي مثقف"يبيع عقله"مبادئه، قائلاً: "إن قول ألفاظ مكرورة عن الحرية والديمقراطية وهو في الوقت نفسه يناصر ظالماً هو خيانة للناس البسطاء". وجادل شريعتي بأن من يناصر "إسرائيل" بحجة علمانيتها أو اشتراكيتها – وهو مهاجم للفلسطينيين – إنما يخون الناس بهجمات ملفقة على القومية العربية.ا
نشاط العلماء الديني قبل قيام "إسرائيل" وبعدها:ا
لم تكن القضية حكراً على المثقفين العلمانيين، بل شغلت علماء الدين باعتبارها واجباً إسلامياً وإنسانياً. تجلت هذه المواقف مبكراً، حتى قبل إعلان قيام دولة "إسرائيل" عام 1948. فقد أنشأ آية الله السيد أبو القاسم كاشاني (1882-1962) مكتباً لتسجيل المتطوعين للجهاد في فلسطين وبعد الإعلان مباشرةً، دعا كاشاني عام 1948 المسلمين في إيران إلى دعم الفلسطينيين بكل الوسائل، مما أدى إلى تجمعات حاشدة لمئات الطلبة والشباب في مساجد طهران تأييداً للقدس. استمر هذا الالتزام بعد حرب 1967، حيث أصدر عدد من كبار علماء الدين الإيرانيين، بمن فيهم الشیخ مرتضى مطهري والسيد أبو الفضل زنجاني والعلامة محمد حسین طباطبائي، بياناً مشتركاً عقب مؤتمر في حسينية إرشاد شددوا فيه على أن "الدفاع عن فلسطين" هو واجب شرعي "للمسلمين المستضعفين"، ووصفوا أنفسهم بـ"المثقفين الدينيين" وفقا للوثیقة. كما استخدموا شبكة واسعة وحسابات بنكية باسم "أمة فلسطين" لجمع التبرعات العامة. ولم يكن الدعم مقتصراً على إيران، فقد أرسل المرجع الكبير في النجف السيد أبو القاسم الخوئي وآخرون دعماً مادياً مهماً (من الوجوهات الشرعیة) إلى السید موسى الصدر في لبنان لدعم حركات المقاومة ضد "إسرائيل". لقد اعتبر العلماء فلسطين جزءاً من الرد على "جرائم معسكرات الإبادة النازية" التي شرعت لقيام "إسرائيل"، ورأوا فيها مفتاحاً لوحدة الصف الإسلامي "ضد المستعمرين".ا
ولقد أولى آیة الله الخميني وتلاميذه قبل الثورة الإسلامية، وخاصة بعد عام 1963، اهتماماً كبيراً للقضية الفلسطينية، معتبرين إياها قضية إسلامية عالمية وليست مجرد قضية عربية أو إقليمية. ومنذ بداية نهضته، عمل السید الخميني على كشف العلاقات السرية والعلنية بين نظام الشاه و"إسرائيل"، واعتبر هذا الأمر أحد الأسباب الرئيسية لمعارضته الشاه. وقد عبر عن هذا الموقف بوضوح في خطاباته وتصريحاته المتعددة.ا
أما السنوات الأخيرة، وخاصة بعد عدوان 2023 على غزة، فقد شهدت إيران موجة جديدة من التضامن الثقافي. ترجمت أعمال أدبية فلسطينية جديدة، وكتب شعراء إيرانيون قصائد مخصصة لأحداث غزة وصمود أهلها. استمر الاهتمام بترجمة ونشر أدب المقاومة (علی سبیل المثال أعمال محمود درويش، غسان كنفاني، الياس خوري وأحمد مطر). مع هذا، لم يحمل كل المثقفين الإيرانيين لواء القضية بنفس الحماس بعد الثورة. اتجه بعضهم مثل مصطفى ملكيان ومحمد مجتهد شبستري إلى الاهتمامات الداخلية أو الإشكالات الفلسفية، وظلوا صامتين نسبياً حيال التطورات الأخيرة في فلسطين، ربما خشية الالتباس مع الجدل السياسي السائد. وعلى النقيض من بعض المثقفين الذين التزموا الصمت، تناول الدكتور أبوالقاسم فنائي القضية الفلسطينية، وإن كان بشكل محدود. فقبل السابع من أكتوبر، كان تركيزه منصباً على قضايا فلسفة الأخلاق والسياسة في السياق الإيراني. لكن بعد بدء الهجمات على غزة، استخدم فنائي أدواته الفلسفية والأخلاقية، مثل نظرية "الأخلاق الاجتماعية"، لتحليل الأزمة. حاول أن يبرهن كيف يتم انتهاك مبادئ حقوق الإنسان في فلسطين، وكيف أن هذا يكشف عن "النفاق الأخلاقي" لدى الغرب. ومع ذلك، يظل اهتمامه بالقضية فرصة لتطبيق أطره النظرية، بينما تظل أولويته الفكرية الأساسية منصبة على القضايا الداخلية الإيرانية.ا
عبد الكريم سروش: اشتُهر سروش بتركيزه على الإشكاليات الفلسفية والدينية، وكان داعماً لحقوق الإنسان عالمياً. خلال السنوات الأخيرة، شهدت مواقف الدكتور عبدالكريم سروش تحولاً جوهرياً في نظرته إلى القضية الفلسطينية، مخالفةً لما كان عليه في العقود السابقة من صمتٍ أو حذرٍ فكري. ففي خطاباته الأخيرة، عبّر سروش عن تضامنٍ شديد مع الشعب الفلسطيني، واصفاً العدوان الإسرائيلي على غزة بأنه "مجزرة تُنفَّذ بعينٍ مفتوحةٍ من النظام الميكافيلي العالمي"، ومؤكّداً أنّ ما يشهده الفلسطينيون اليوم هو "كربلاء العصر"، حيث يُقتَل الأبرياء وتُقصف المستشفيات والمدارس بلا رحمة، بينما يقف المجتمع الدولي متفرّجاً، عاجزاً أو متواطئاً. وقد وجّه سروش كلماتٍ لاذعة ضدّ أولئك الذين يدافعون عن الاحتلال، واصفاً إيّاهم بأنهم "أناسٌ بلا ضمير" وأنّ دفاعهم عن "القصّابين الغاصبين" لا يصدر إلا عن تجرّدٍ من القيم الإنسانية.ا
ولم يكتفِ سروش بالإدانة الأخلاقية، بل تجاوزها إلى موقفٍ سياسيٍ حاد، حيث هاجم الحكومة الأميركية بسبب استخدامها الفيتو ضدّ قرارات وقف إطلاق النار، واعتبر ذلك "فتوى بشرعية الإبادة الجماعية"، معلناً "تبرّؤه وخجله" من مواقفها. كما أدان سروش الهجوم الإسرائيلي على إيران، وهاجم بشدة الأصوات الإيرانية التي رحّبت به، واصفاً أصحابها بأنهم "بلا وطن ولا هوية". وفي لفتة وجدانية، كتب سروش قصيدة بعنوان "ای فلسطین دلیر - يا فلسطين الشجاعة" عبّر فيها عن حزنه العميق وتعاطفه الصادق، مؤكداً أن "القلوب الحيّة لم تُطفأ بعد، وأن الأصوات الحرة لا تزال تردد صرخة الحق"، داعياً إلى مقاومة الظلم بكل أشكاله: بالكلمة، بالمال، وبالموقف الإنساني الشريف. یمکن هذا التحوّل يعكس عودة سروش إلى جذورٍ فكريةٍ "إنترناسيونالية" إسلامية، طالما كانت حاضرة في مسيرته المبكرة، لكنها تعزّزت اليوم بتجربة المنفى وتبصّره بالمشهد العالمي من خارج الحدود الجغرافية.ا
حميد دباشي: برز المفكر الإيراني المقيم في أميركا حميد دباشي كصوت نقدي أخلاقي بارز في تناول القضية الفلسطينية من منظور ما بعد استعماري. في أعماله مثل "أحلام أمة: عن السينما الفلسطينية"،يرى دباشي أن السينما الفلسطينية تشكل معقلاً لإعادة بناء الهوية والتأكيد على النضال ضد الصورة الاستشراقية الدونية. هو يرى أن كل فيلم فلسطيني جديد هو صوت يعبّر عن مقاومة ثقافية للهيمنة الغربية. يتناول دباشي فلسطين كـ"جرح أخلاقي كوني" و"معيار للمثقف الحقيقي"، منتقداً "المخبرين المحليين" و"المثقفين الكومبرادوريين" الذين يتواطؤون مع السرديات الإمبريالية والصهيونية أو يصمتون. فيكتب مثل "البشرة السوداء، الأقنعة البيضاء" و"إيران بلا حدود"، يضع المشروع الصهيوني في قلب أزمة نموذج الدولة -الأمة، واصفاً إسرائيل بـ"دولة بلا أمة"والفلسطينيين بـ"أمة بلا دولة"، مؤكداً أن فلسطين هي "فلسطين بلا حدود"، رمز لكل المستضعفين. فلسطين لديه ليست مجرد "قضية سياسية"، بل "حقيقة فلسفية" ومفتاح لرؤية بديلة للعالم تقوم على العدالة والكرامة المتجاوزة للهويات الضيقة. نقطة مثيرة للاهتمام هي أن حميد دباشي يحظى باهتمام أكبر في العالم العربي منه في إيران، حيث تُرجمت أعماله باستمرار إلى اللغة العربية، في حين لا تزال كتاباته غير مترجمة إلى الفارسية حتى اليوم، مما يجعله أكثر تأثيراً وحضوراً في الخطاب الفكري العربي.ا
تفنيد الادعاءات الشائعة:ا
ما تم تقديمه من أدلة تاريخية وفكرية يتيح لنا تفنيد ادعاءين شائعين بشأن علاقة المثقفين الإيرانيين بالقضية الفلسطينية:ا
ا 1- الادعاء الأول: اختلاق الجمهورية الإسلامية لأهمية فلسطين في إيران. هذا وهم تاريخي يتجاهل وقائع ملموسة. فقد كان الدعم الفكري والديني لفلسطين حاضراً وقوياً قبل الثورة بعقود.ا
ا 2- الادعاء الثاني: ربط معاداة بعض المفكرين لـ"إسرائيل" بسياسات ما بعد الثورة فقط. الحقيقة أن مواقف المثقفين الإيرانيين من القضية كانت دائماً متنوعة ومتمايزة حتى داخل صفوف المعارضة للنظام البهلوي نفسه قبل 1979. خير مثال هو الانتقاد الحاد الذي وجهه شريعتي لـداريوش آشوري بسبب تعاطفه مع إسرائيل بعد حرب 1967، وهو اختلاف فكري أيديولوجي قديم يتجاوز الثنائية المبسطة لما قبل الثورة وما بعدها.ا
Related Posts
باحث إيراني، ومدیر تحریر مجلة "شذرات" الفکریة في العراق