Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

إن تناول الطائفية صراحة في النقاش السوري ما يزال أمراً إشكالياً ومعقداً، ويعود هذا إلى تاريخ سسوريا السياسي والثقافي الذي تطور على اعتبارها دولة مركزية وقومية في آن واحد، ما جعل من الطائفية أمراً محظوراً ومنبوذاً

موريس عايق

المسألة الطائفية في سوريا

رغم وضوح البعد الطائفي في أحداث سوريا منذ انطلاق الانتفاضة الشعبية ضد نظام الأسد 2011 وما تلاها من حرب حتى سقوط النظام الأسد بعد 14 عاماً واستيلاء جبهة النصرة وحلفائها على السلطة في دمشق، فإن تناول الطائفية صراحة في النقاش السوري ما يزال أمراً إشكالياً ومعقداً، ويعود هذا إلى تاريخ سسوريا السياسي والثقافي الذي تطور على اعتبارها دولة مركزية وقومية في آن واحد، ما جعل من الطائفية أمراً محظوراً ومنبوذاً يمس الوحدة الوطنية والقومية المفترضة للسوريين، وهكذا صار تناول الطائفية -حتى على سبيل الفهم والتحليل- أمراً ممنوعاً ومحرماً، بل أندراسة الطائفية تستدعي تهمة الطائفية. وهكذا أمكن لأشد الناس طائفية الاختباء خلف لغة وطنية، واتهام الآخرين بالطائفية حالما يتحدثون عنها لغرض مكافحتها ومواجهتها، ما يجعل من نقاش المسألة الطائفية في سوريا أمراً ملوثاً وغير مجدي تحت وطاة الاتهامات المتبادلة.

على العكس، يظهر اللبنانيون متصالحين مع الواقعة الطائفية ولا يملكون حساسية خاصة تجاهها ولا نكراناً لاهميتها ومركزيتها، فالنظام السياسي اللبناني قام أساساً على الاعتراف بالطائفية واعتبارها المدخل الوحيد للمواطنين إلى دولتهم التي تعرفهم بوصفهم أبناء طوائف قبل أي شيء آخر.

بهذا المعنى لدينا شكلين للتعامل مع الطائفية، دون أن يعني هذا أن الطائفية في أحدهما أقل أهمية مما هي لدى الآخر، فالطائفية في سوريا لعبت دوراً لا يقل عما لعبته في لبنان خلال عهد حافظ الأسد، وبشكل خاص انطلاقاً من الثمانينيات في مواجهة تمرد الإخوان المسلمين.

يُظهر السياق اللبناني قدرة الطائفية والنظام الطائفي الهائلة على الصمود رغم ما عصف به من مخاطر وحروب أهلية. فالنظام الذي تشكل في منتصف القرن التاسع عشر مع متصرفية جبل لبنان كنظام محاصصة بين الموارنة والدروز توسع مع تشكيل لبنان الكبير عبر ضم بيروت والاقضية الأربعة إلى لبنان، حيث تحول إلى نظام هيمنة مارونية على طوائف متعددة ضمت السنة والشيعة إلى جانب الدروز وطوائف مسيحية أخرى. عرف هذا النظام حروباً وأزمات عديدة، أدت في النهاية إلى تغيير الفاعلين الأساسيين فيه. فالنظام الذي تشكل حول الموارنة والدروز انتهى إلى إقصائهم عن موقع القوة لمصلحة طوائف أخرى، ليصير نظاماً متحوراً حول ثنائية سنية-شيعية، فيما يحظى المسيحيون بالمركز الثالث، وقد آل الدروز إلى أقلية صغيرة. رغم تحول وتبدل الفاعلين بقي النظام الطائفي صامداً، هذه الملاحظة الأولى.

الملاحظة الثانية هي فشل كل محاولات تأسيس هوية وطنية عابرة للطوائف، تكون أساساً لدولة وطنية غير طائفية، رغم أن الأخيرة كانت بنداً حاضراً (إلغاء الطائفية السياسية) على اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية. فالقوى الوطنية اللبنانية أيا كانت ايديولوجياتها ومسمياتها، ورغم التاريخ الطويل للكيان اللبناني وما يعنيه من تشكل ثقافة ومجال حياة مشتركين لمواطنيه، فشلت في تأسيس هذه الهوية الوطنية والتعبير عنها سياسياً أو تحقيق شيء من أهدافها، فلا قانون انتخابي غير طائفي حتى ولو فقط لبعض المقاعد من البرلمان أو لجزء من موطفي الدولة اللبنانية، لا قانون زواج مدني اختياري، ولا حتى قدرة سياسية متقدمة للقوى السياسية الوطنية غير الطائفية سواءلتشكيل كتل نيابية أو قدرة على التأثيرفي السياسة الرسمية. بقيت القوى الوطنية، سواء أحزاب أو شخصيات، بلا قدرة تأثير حقيقية وواقعية، وكل محاولاتها بقيت معزولة ومقتصرة على شرائح محدودة لا تتجاوزها بحيث تخلق تياراً شعبياً مؤثراً. وبالطبع لا تسعفنا التفسيرات العديدة التي قدمتها هذه القوى لشرح الطائفية وتفسير رسوخها. فلا التحديث نجح في تحطيم الطائفة، والطائفيون ليسوا -في الحالة اللبنانية- أبناء ريف أو حديثو النعمة أو التعليم، بل هم أبناء عمليات تحديث ناجحة، أبناء مدن وأنظمة تعليم حديثة وقطاعات إنتاجية شديدة الحداثة، مثلما فيهم أيضاً أبناء ريف. لم تكن الطائفية، كسلوك وممارسة، مقتصرة على وضعية اجتماعية معينة. أيضاً، لم تفد مقاربة الطائفية بوصفها وعياً مزيفاً (برجوازياً أو استعماري ضد حقيقة الأمة) ومواجهتها على هذا الأساس، فالطائفية ليست طبقية ولا أمة حقيقية تجلت في النهاية، رغم كل هذه الأحداث العديدة التي عرفتها البلاد.

على ضوء هاتين الملاحظتين اللبنانيتين يمكن لنا قول أشياء سريعة عن الطائفية في سوريا.

-          إن الخطاب الوطني الذي يتحصن خلفه الخطاب السوري المناهض للطائفية الموروث عن تاريخ سوريا السياسي الماضي، سواء القومي او الوطني، لا يملك القوة على مواجهة الطائفية. فلا قاعدة اجتماعية حقيقية للوطنية السورية، يمكن لها أن تتجاوز الانقسامات الطائفية وهي انقسامات ممأسسة قانونا ومعاشاً. الخطاب الوطني الصادر عن قوى وطنية ومثقفين ينحل في النهاية إلى مواعظ أخلاقية لا وزن لها ولا أثر سوى على المناكفات الداخلية والعصبوية بين هؤلاء الوطنيين الذين يمكن لهم يتهموا بعضهم الآخر بالطائفية وما إلى هذا.

إن الدعوات الوطنية الصادرة عن هؤلاء تاخذ،في بعض أحيان عديدة،أشكالاً حالمة مثل فكرة الوطنية الدستورية لدى هابرماس وهي فكرة طوباوية على مستوى الاتحاد الأوروبي، وإن كانت ملهمة هناك على مستوى المؤسسات. لكن ما هو الحامل الاجتماعي لمثل هذه الدعاوى لدينا؟ متى حصلت لدينا العملية الاجتماعية التاريخية التي أدت إلى تفتت الانتماءات الأهلية من طائفية وعشائرية لتبعث "الفرد" المتحررمن أية انتماءات أهلية؟ متى حصل لدينا تحول قانوني ومؤسساتي أدى إلى تحول في البنية القانونية والمؤسساتية والتنظيم الاجتماعي بحيث يُحرر الأفراد من الطائفة والشريعة والعرف ليكون هذا التحول مؤسساً للامة والدولة؟

الاغراق في تسييس الموضوع الطائفي، وكأن التغيير السياسي وحده يمكن أن يلغي الطائفي. لكن من ناحية أخرى لا أحد يعلم كيف لهذا التغيير السياسي أن يتحقق دون تجاوز الطائفية أساساً (أي إيصال قوى غير طائفية للسلطة السياسية، يكون لها من الشرعية ما يمكنها من انجاز هذا التغيير الجذري في البنية الاجتماعية). تذكر هذه الوضعية بمعضلة البيضة أم الدجاجة، وهو ما يجعل من الخطاب الوطني الرافض والمتعالي عن السؤال الطائفي أقرب لموعظة أخلاقية منه لممارسة سياسية. فمعضلة الخطاب الوطني ليست قيمه، إنما غياب الواقعية عنه وتحوله إلى مجرد شعارات أخلاقية وسياسية لا معنى لها أو وزن خارج عالمالمحازبين.

-          إن مأسسة الطائفية في سوريا، والاعتراف بها، رغم كل شيء، خطوة إلى الأمام،قياساً إلى الخبرة المكتسبة من أن إنكار الطائفية لم يعن إلغائها أو مكافحتها بقدر ما جعلها– خاصة في سياق الانظمة السلطوية والمركزية التي يبدو أن سوريا لن تتخل عن نموذجها قريباً- سلاحاً واستراتيجية تسلطية في يد النظام الأسد وضمان ولاء جماعات له. وحالياً لا يشذ النظام الحالي -وهو ما يزل يحبو في مرحلة بناء الدولة- عن هذا، حيث يطور عصبية سنية متخيلة كأساس لشرعيته بعد فترة حكم العلويين بحسب الخطاب السائد.

الاعتراف بالطوائف قد يضعف ويشذب من العصبية واحتكار السلطة باتجاه الاعتراف بالآخرين وضمان حقوقهم وحمايتهم.

-          بالمقابل فإن مأسسة الطائفية تحمل خطراً، نعرفه من النموذجين اللبناني والعراقي، وهي أنها في ذاتها لا تقدم ضمانة ضد الحروب والأزمات بدون توافقات مشتركة يصعب تحقيقها. أيضاً، إن مأسسة الطائفية تأخذنا إلى نظام مغلق يحبس الأفراد في سجون طوائفهم دون قدرة على الخروج، ودون قدرة على تغييره أو تفكيكه لاحقاًكما يرينا المثال اللبناني.

التحدي ليس في رفض الطائفية أو في تكريسها، إنما في إيجاد التوازن المناسب من الاعتراف بها على مستوى مؤسساتي ودستوري دون انغلاق النظام نفسه على طائفية محضة. المهمة العسيرة،ولا يبدو أن هناك من يحملها حقاً في سوريا، أمام إنكار وترفع عن الطائفية والحديث عنها باسم الوطنية من ناحية. ورغبة طائفية شعبية -تقارب الفاشية- في ابتلاع الدولة المركزية كونها غنيمة المنتصر الذي طالما انتظهر هذه اللحظة بعدما دفع ثمنها قدراً مهولاً من الدم والخراب والحطام، فهل علينا الآن الاعتراف بالطوائف حينما صار دورنا!

باحث سوري