قد تكون ليلة الثامن من كانون الثاني 2024 واحدةً من أكثر الليالي درامية في تاريخ سوريا الحديث. ليلة سقوط النظام لم تكن مجرد حدث سياسي، بل لحظة مفصلية غيرت مصير البلاد وساكنيه وربما هويتهم أيضاً
الهوية الجامعة وخرائط الدم
قد تكون ليلة الثامن من كانون الثاني 2024 واحدةً من أكثر الليالي درامية في تاريخ سوريا الحديث. ليلة سقوط النظام لم تكن مجرد حدث سياسي، بل لحظة مفصلية غيرت مصير البلاد وساكنيه وربما هويتهم أيضاً، تعددت فيها الروايات وتباينت القراءات، فيما بقيت أسرار كثيرة طي الكتمان.ا
في تلك الليلة، نام الآلاف في الشوارع والساحات، بعضهم خوفاً، آخرون فرحاً، وآخرون بدافع الترقب. وللمرة الأولى منذ عقود، شعر السوريون – على اختلاف مواقعهم – بإحساس جماعي نادر: نحن أحرار!ا
الأيام التالية كشفت عن مشهد اجتماعي أكثر تعقيداً. بدأت الهويات الطائفية والمناطقية تظهر إلى العلن بشكل غير مسبوق، وبدأت الروابط التي جمعت السوريين لعقود تتفكك تدريجياً. وكانت لحظة سقوط النظام بداية لسقوط دراماتيكي آخر، أخطر، في عمق البنية المجتمعية السورية.ا
من الإنكار إلى التصنيف: الطائفة تخرج إلى العلن
قبل انهيار الدولة المركزية، كان الحديث الطائفي في سوريا من المحظورات القانونية والسياسية، بل وكان مستهجناً مجتمعياً، ومع أن شبح الطائفية بدأ بالظهور خلال سنوات الصراع، إلا أن ما كان مكبوتاً تحرر كلياً بعد سقوط النظام السابق مباشرة حيث ظهرت الطوائف إلى العلن لا بصفتها الروحية أو الثقافية، بل كأدوات فرز وتصنيف وقتال، وصار الانتماء الطائفي بطاقة تعريف أولى، لا تهمة ولا خجل، بل علامة فارقة يمكن أن تحدد مصيرك في كثير من الأماكن. وتمّ تحميل طوائف بأكملها تبعات أفعال أفراد منها، أو مؤسسات دولة ادّعت تمثيلها.ا
هذا التحوّل لم يكن عشوائياً، ولا حتى مفاجئاً بالمطلق بل نتاج لعقود من القمع السياسي، الذي أخفى الطوائف دون أن يعالج أسباب الانقسام، لا بل عمل على شحذ السكاكين في يد كل طرف ضد الآخر فظلت الجروح تحت السطح، حتى وقع الانفجار وجعلها تنزف كلها دفعة واحدة.ا
الأقلية الأكثر عدداً... والأقل حماية:ا
من بين كل المكونات السورية، ربما كانت الطائفة العلوية هي الطائفة الوحيدة التي وجدت نفسها بعد سقوط النظام بلا مرجعية، بلا زعيم روحي، بلا هيئة تمثلها، أو حتى خطاب واضح يجمع أبناءها تحت مظلة واحدة، هذا الغياب لم يكن عفوياً، بل كان نتاج سياسة ممنهجة مارستها السلطة لعقود، سياسة تعتمد على منع تشكّل أي قيادة أو مرجعية دينية أو اجتماعية داخل الطائفة، لا بل ذهبت أبعد من ذلك نحو تغذية البُنى العشائرية والعائلية حتى بات واضحاً التمييز بين محافظة وأخرى وتفضيل أبناء عائلة على الثانية وخصهم بامتيازات معينة بشكل مباشر مقابل تهميش قرى وعائلات أخرى حتى تحوّل الجسم الواحد إلى مجموعة مكونات متباعدة، حتى تبقى خاضعة تماماً ومرتبطة بالنظام وحده في كل ما يخص الحقوق والمظالم والهوية.ا
يُشكل العلويون ما يقارب 10-12% من سكان سوريا، وفقاً لمصادر مختلفة وبذلك يكونون ثاني أكبر طائفة دينية في البلاد بعد المسلمين السنة، إلا أنهم كانوا خلال الأشهر الستة التي تلت سقوط النظام من بين المكونات الأكثر ضعفاً وتخبطاً، فقد انهارت الحماية السياسية دفعة واحدة، ولم يظهر من داخل الطائفة من يستطيع أن يتحدث باسمها، أو يضع رؤية مستقبلية واضحة لمكانها في سوريا الجديدة فواجه أبناؤها الخوف من الخارج، والضياع من الداخل والتخوين من الغالبية.ا
بعد الإعلان عن تأسيس "المجلس الإسلامي العلوي الأعلى" مطلع شباط 2025، كان الوقت كان قد تأخر كثيراً وخلال الأشهر التي تلت التأسيس لم يشكل هذا المجلس أي ورقة قوة تحسب للطائفة إلا بشكل رمزي وخجول جداً. وفي سياق الحديث، لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن العلويين هم المكون الوحيد الذي لم يلتقِ رئيس المرحلة الانتقالية أي ممثل عنهم، بل وعلى العكس، تم اعتقال عدة أعضاء من المجلس على خلفية مواقفهم المطالبة برد المظالم عن أبناء الطائفة فس حين لم تتوقف الأثمان التي دفعها المكون العلوي حتى اليوم، والتي تنوعت بين القتل المباشر بسبب الهوية أو الخطف أو الاعتقال، أو الفصل التعسفي من الوظائف والحرمان من العمل وصولاً إلى التغييب القسري للنساء.ا
في الطريق إلى الحرية أضعنا الهوية:ا
رغم أن الهوية الجديدة التي تشكّلت بعد سقوط النظام بدت في بداياتها ساعية إلى التحرر من القوالب الطائفية، إلا أن الواقع ذهب عكس ذلك. لقد ظهرت رغبة حقيقية في الانتقام لدى شرائح واسعة من السوريين، وتحوّلت هذه الرغبة إلى فعل دموي صريح بمجرد توفر الفرصة فكانت "مجازر الساحل" صباح السابع من آذار التجلي الأصدق للهوية السورية الجديدة، إذ قُتل ما يزيد عن 1682 مدنيّ خلال الفترة الممتدة من 6 آذار وحتى نهاية نيسان، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.ا
تعرض العلويون في دمشق وحمص على وجه الخصوص لانتهاكات واسعة شملت اعتقالات تعسفية لمدنيين ومجندين سابقين وحوادث اختطاف متكررة تجاوزت 60 حالة انتهى معظمها بالإعدام الميداني، كما جرى تهجير عائلات بأكملها ومصادرة ممتلكاتها والاستلاء على أراضيها في قرى ريف حمص الغربي وريف حماة الشرقي، إلى جانب حملات اقتحام واعتقالات جماعية وتسريح تعسفي من الوظائف الحكومية في معظم المحافظات.ا
حمّلت شرائح من أنصار النظام الجديد الطائفة العلوية وزر انتماء الرئيس السابق إليها ووزر انتماء نسبة كبيرة من الضباط إلى ذات الطائفة، وبدأت رغبة عارمة في الانتقام تتشكل. لم تكن دوافعها دينية بالضرورة، بل شعور عميق بالقهر تراكم على مدى عقود، وانفجر دفعة واحدة بعد سقوط جدران الصمت وانهيار أسوار السجون التي بناها النظام السابق داخل البلاد وخارجها وأقصد هنا مخيمات اللجوء والتهجير وشركاء الوطن الذين كانوا يراكمون اجتراع الظلم في نفوسهم ويرضعونه لأبنائهم.ا
كلّ الهويات في النار:ا
انزلق المسيحيون مكرهين في قلب كرة النار، إذ لم تقتصر الانتهاكات بحقهم على المضايقات الفردية، بل اتخذت أشكالاً جماعية وصادمة؛ من الاعتداءات المتكررة على البارات ومحال بيع المشروبات الكحولية، وتكسير الصلبان في المقابر، إلى حملات التحريض والكراهية التي اجتاحت وسائل التواصل. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وصل إلى طلب دفع “الجزية” علناً كما حدث في بلدة محردة بريف حماة، وأحياناً عنوة وبصمت عبر خطف تجار الذهب في دمشق وابتزازهم مالياً. فوق ذلك، جاءت الاستفزازات العامة التي مثّلتها سيارات “نشر الدعوة” وهي تجوب الأحياء المسيحية في قلب دمشق، مطلقة الخطب الدينية عبر مكبرات الصوت. وما لبث أن انفجر المشهد بشكل أكثر دموية، بتفجير انتحاري استهدف كنيسة في قلب دمشق أثناء الصلاة، أودى بحياة عشرات المدنيين الأبرياء.ا
وعلى الرغم من أن المكون الكردي لم يكن هدفاً لمجازر مباشرة أو أعمال قتل جماعي، كما حدث مع المكونات الأخرى، إلا أن هويته بقيت ساحة صراع وتوتر مستمر. فالأكراد، الذين عاشوا عقوداً من القمع اللغوي والثقافي والحرمان من الجنسية في عهد النظام السابق، وجدوا أنفسهم بعد سقوطه أمام صراع جديد، لا على الوجود، بل على التمثيل والقيادة والهوية.ا
بين السلطة الجديدة، والتنظيمات الكردية المتنوعة، احتدمت معارك سياسية حادة حول من يمثل "الكرد"، وما هي ملامح "الهوية الكردية" في سوريا الجديدة. هذا النوع من الصراع، وإن لم يكن دائماً عنيفاً جسدياً (وهذا يعود إلى الحماية الدولية التي يحظى بها الكُرد بطبيعة الحال)، إلا أنه كان بالغ التأثير، لأنه أصاب البنية الرمزية والوجدانية لهوية تمتد عميقاً في التاريخ السوري.ا
وفي ذروة تصاعد الأحداث كل المكونات السورية كان لها حصة من العنف والفوضى والخراب والقتل، فالدروز الذين تعرّضوا لاستهداف مباشر، في مركز قوتهم في السويداء أو في الأحياء التي يقطنها الدروز داخل العاصمة دمشق بشكل متكرر وبصور متعددة، انتقل من التهديد إلى التعدي الفعلي وصولاً إلى التهجير القسري في بعض الحالات خلال الأشهر التي تلت سقوط النظام، تحول هذا الاستهداف إلى صراع “هوياتيّ” في اقتتال مباشر، اشتعل بين مقاتلين دروز وعشائر من البدو منتصف تموز 2025، توسعت المواجهات فيه بعد تدخل القوات الحكومية لفضّ النزاع لكن سرعان ما خرجت الأمور عن السيطرة وتحولت إلى عنف طائفي خطير ترافق بحملات تخوين طالت الدروز بسبب طلبهم الحماية الدولية ودخول اسرائيل على خط الصراع بضربات جوية ضد القوات الحكومية بزعم حماية الطائفة الدرزية، انتهت بإعلان وقف إطلاق نار وانسحاب القوات الحكومية لكن الاتفاق الهشّ انهار خلال ساعات لتعود وتتجدد المعارك الدامية على خلفية نداءات “فزعة” عشائرية استدعت توافد آلاف المقاتلين والعناصر المسلحة من العشائر من مختلف المحافظات ليخلف هذا النزاع مئات القتلى من كل الأطراف تجاوز بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان الخمسمائة قتيل أكثر من نصفهم قتلوا بإعدامات وتصفية ميدانية فيما تجاوز عدد الجرحى 1600.ا
في المحصلة، تلطّخت الهوية السورية بالدم من كل الجهات، ولم يسلم منها أحد. وكان واضحاً أن "الهوية" نفسها – لا الأشخاص فقط – صارت ضحية، وساحة قتال مفتوحة. فوفقاً لتوثيقات المرصد السوري، قُتل أكثر من 7 ألاف شخصاً في الفترة الممتدة بين الثامن من كانون الثاني 2024 وحتى تموز 2025، أغلبهم من المدنيين لتشكل هذه المرحلة واحدة من أكثر الحقب دموية وعنفاً في ظل غياب العدالة والمحاسبة.ا
نحو عقد اجتماعي جديد
لا سبيل للعودة إلى الوراء، لكن المضي نحو المستقبل لن يكون ممكناً بعد كل ما جرى، وقبل أن يُعاد تعريف الهوية السورية كهوية مدنية، تعترف بكل الطوائف والمكونات، ولا تنفي أياً منها، ولا تمنح أحدها تفوقاً على الآخر. هوية تُبنى على الشراكة، بعد أن يعيد السوريون النظر في علاقتهم ببعضهم البعض، وفي علاقتهم مع السلطة والدين والطائفة، وبعد تجاوز فكرة الانتقام والثأر والاستعاضة عنهما بالمحاسبة العادلة، قبل أن تستحيل هذه الهوية إلى شظايا يصعب جمعها من جديد.ا
Related Posts
كاتبة وصحافية سورية