Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

اليوم، يبدو أن أخطر ما يواجه سوريا هو انفكاك بنى الأمن القومي السوري نفسها، وارتهانها لجملة أطراف متنافرة التوجه والتطلعات

هيئة التحرير

حكاية العِقال والجنرال في سوريا

منذ أواخر عام 2024، شرعت الحكومة السورية بمجموعة من الترقيات في مسعى لإعادة هيكلة القوات الحكومية. شملت الترقيات قيادات عليا من مثل وزير الدفاع مرهف أبو قصرة ورئيس هيئة الأركان علي نور الدين النعسان إلى رتبة لواء،  تلاها خطوات أوسع شملت تعيين قادة فرق وألوية، وتشكيل فرق عسكرية جديدة،  في استيعاب لمئات الآلاف من العناصر من الفصائل المسلحة. رافقت هذه العملية تأسيس لجان متخصصة كـ"لجنة الهيكلة" التي تُعنى راهناً بالموارد البشرية وقواعد بيانات الفصائل المسلحة، في رؤية مستقبلية تتطلع لدمج الفصائل في الجيش الجديد.  رافق هذا كله سلسلة من اللقاءات بين وزير الدفاع وقيادات الفصائل في درعا والجنوب بهدف الحل والاستيعاب،  إلا أن أزمة الهيكلة لا تزال، إلى اليوم، بنيوية. إذ لا تستمد أزمة الدفاع والأمن السورية تعقيداتها من مشهد ما بعد سقوط نظام البعث وما رافق السقوط من ترك الجيش بلا قيادة أو توجيهات فحسب. بل تعود الأزمة إلى سنين خلت تتجاوز مدة الحرب الأهلية في السنوات الماضية.ا

في مذكراته، أعاصير دمشق، يروي فضل الله أبو منصور واقع حال الجيش السوري إبان الحقبة الأولى من الخمسينيات. نحن هنا نستعيد مثل هذه المذكرات للوقوف عند طبيعة المشكلة التي تتجاوز فكرة الهيكلة راهنا. يقول أبو منصور كان يندر، في الخمسينيات، أن تقع عينك على ملازم في الجيش لا يتحين فرصة الانقلاب، وكان يندر أن تجد أحداً منهم لا يراهن على "علاقة ما" بقوى خارجية. هذه الظاهرة لا علاقة لها بشخصية الجيش السوري، بقدر ما تشير إلى طبيعة المسألة السورية نفسها، وانفتاح شرايين سوريا على الخارج بشكل دائم. مذكرات أبو منصور، تتقاطع في هذه النقطة مع الكثير من الدراسات والشهادات عن تلك المرحلة (راجع: أحمد عبد الكريم في كتابه "حصاد سنين خصبة وثمار مرة"، وأمين أبو عساف في ذكرياته، ومحمد معروف في "الانقلابات العسكرية وأسرارها في سورية"، ومطيع السمان في "وطن وعسكر").ا

إذن، الأزمة في جنبة من جنباتها تتعلق بـ"الفقدان الممنهج" لاستقلالية المؤسسة العسكرية منذ ما يزيد عن السبعين عاماً. وفيما ينحو النظام الاقليمي نحو تثبيت ديناميات الاستقرار بصعوبة، تظهر جملة من الأزمات تتعلق بوضعية سوريا السياسية الحالية، وتشي بانفتاح شرايين سوريا على أزمات مفتوحة ومستعصية.ا

اليوم، يبدو أن أخطر ما يواجه سوريا هو انفكاك بنى الأمن القومي السوري نفسها، وارتهانها لجملة أطراف متنافرة التوجه والتطلعات. نحن هنا لا نتحدث عن الأمن والمسألة الأمنية (بانحسارها بالجيش والاستخبارات) فحسب، بل نتحدث عن بنى الأمن القومي بما يشمل جميع قطاعات الأمن المائي، السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي. وهذه كلها مسائل تصب في صلب هيكلية الأمن القومي السوري بعيد المدى. أما الخطر فيكمن في أن كلاً من هذه القطاعات تخضع لتجاذبات إقليمية متنافرة ومتضادة حتى داخل القطاع الواحد منها.ا

منطقة الجنوب السوري، على سبيل المثال، تخضع لثلاث مستويات من سيطرة. من جهة، تولى العقيد بنيان الحريري (أبو فارس درعا) قيادة الفرقة 40، المعنية بالسيطرة على المنطقة الجنوبية والتي تشمل محافظات درعا، السويداء وقنيطرة، منذ 22 كانون الثاني/ يناير 2025. ومن جهة أخرى عيّن وزير الدفاع مرهف أبو قصرة عبد حكيم المحاميد (أبو محمد المالكي) مسؤولاً عن الأمن العكسري بالجنوب السوري. يختلف الرجلان في توجهاتهما، كما في ولائهما. وفيما يبدو الأول أقرب للهوى القطري - التركي، فإن الأخير أقرب للمنطق العشائري. يمكن اعتبار المسألة العشائرية السبب الرئيس وراء تعيينه. الأمر نفسه يمكن لحاظه في المنطقة الشرقية، وتحديداً مع تعيين أحمد إحسان فياض الهايس (أبو حاتم شقرا، القائد السابق في حركة أحرار الشرقية (2016)، ثم حركة التحرير والبناء/ الجيش الوطني منذ عام 2022) في منصب قائد الفرقة 86. يؤكد غير مصدر مطلع على أجواء وزارة الدفاع السورية، أن السبب الرئيس في تعيين الهايس انتماءه العشائري للعكيدات. في الحقيقة، يعود تعيين هؤلاء الأشخاص في موقع المسؤولية، أيضاً، إلى سنين خلت حاولت تركيا فيها هندسة مشهد عشائري موالٍ لها، من خلال تأسيسها مجلس العشائر السورية في أورفا، وجيش العشائر الشرقية. وبالمجمل يمكن النظر لبنية الأجهزة الأمنية في سوريا من خلال ثلاث مستويات تعمل بشكل مستقل وإن كان متكاملاً.ا

المستوى الأول: الشرطة والأمن، التابعة مباشرة لوزارة الداخلية. تسعى القيادة السورية من خلال هذا المستوى ضمان ولاء العشائر والقطاعات الشعبية/ الاجتماعية الكبرى، بإشراك أكبر شرائح ممكنة منها في بنية النظام. مستفيدة من خبرة هيئة التحرير في التعامل مع العشائر من خلال "ألوية المقاومة الشعبية"، و"مجالس العائلات والأعيان" التي شكلتها خلال الحرب.ا

المستوى الثاني: الجيش والفرق النظامية (الفرق 25، 40، 74، 86). ويغلب على هذه الفرق تشكيلات الجيش الوطني وجماعات مدينية "تركية الولاء" عمادها حركة أحرار الشام.ا

المستوى الثالث: غير معلن عنه، ويشكل نواة القوات السورية المسلحة، وجلهم من قادة وعناصر هيئة تحرير الشام (من المهاجرين والأنصار)، ويلعب هؤلاء دور القوة الضاربة في الجيش، وهم أصحاب السلطة الفعلية.ا

تفتح مثل هذه المسائل الباب واسعاً حول إمكانية التجاذب السياسي، وتحول الولاءات نظراً لاختلاف المرجعيات العملية والأيديولوجية ومع تعرض سوريا في أي وقت لاهتزاز سياسي داخلي، أو صدع إقليمي.ا

القبيلة والمخاطرة بمستقبل الدولة:ا

في كتابه "الدولة والقبيلة في سوريا"، يقدم أستاذ العلاقات الدولة حيّان دخان فهماً شاملاً لعلاقة الدولة بالعشيرة في سوريا من خلال استقراء العلاقة بينهما طوال القرن المنصرم. يتنبه دخان إلى موقف العشيرة المتحوّل على الدوام، وإلى الولاءات العشائرية العابرة للحدود في شرق سوريا. ويعتبر أن واحدة من سياسات الأسد الأب كانت اعتماده على القبائل الأقل مكانة في البادية والمشرق السوري (البكارة، طي، والمعامرة في مواجهة العكيدات والشعيطات) لمواجهة المناطق الحضرية المعترضة عليه. وفي نفس الوقت يستقرئ التدخل الخارجي من خلال العشائر، بما يتجاوز إمكانات الدولة السورية برمتها؛ كانت السعودية تتواصل مع العشائر وتستميل الكثير منهم، وتثوّر البعض الآخر، بحسب ما تقتضي الحاجة للضغط على دمشق. يشرح الكاتب في الخاتمة مسألة القبيلة، وكيف تحولت قبائل من مثل العكيدات والشعيطات إلى ورقة سعودية - أردنية في الخاصرة الجنوبية والشرقية لسوريا.ا

صبيحة 11 تموز/ يوليو 2025، بدأت أحداث بالقرب من مدينة السويداء إثر إشكال بين مجموعة من البائعين العشائريين وأحد أبناء المدينة من الدروز. الحدث الذي سرعان ما تحوّل إلى حرب طائفية شاملة في محافظة السويداء، لا شك سيشكل منعطفاً على مستوى الحالة الأمنية السورية (في الجنوب السوري أقله). فقد أصدرت العشائر بيانات عدة ومتنوعة تدعو إلى التحرك في قوافل مدججة باتجاه السويداء، محذرين من "رد موحّد على أي استهداف لهم". وقد بدأ مقاتلو العشائر هجوماً على السويداء من جهة الشمال والشرق، بأكثر من 50 ألف مقاتل، مع توافد أعداد إضافية من شرق سوريا وحلب وريف دمشق والقنيطرة من 41 قبيلة ووسط أنباء عن استعداد قبائل عربية في العراق والأردن ولبنان للانضمام، بعد مناشدات وجهها أبناء العشائر. هذا الطرح قد يقودنا إلى فكرة مفادها احتمالية تغوّل العشائر في المسار العسكري في البلاد، وأن البنية العشائرية قد تصير مع الوقت سهماً مزدوجاً بحسب رأي بعض العارفين في مسائل الجنوب. وخطورة العشائر لا تكمن في ما يمكن أن تحدثه من تتركه من انزياح في الثقل السياسي والاجتماعي، بل وفي ضبط توازنات الثقل السياسي للعشائر العابر للحدود.ا

في 19 تموز/ يوليو 2025، صدر بيان عن مجلس العشائر الأردنية يعلن تأييد عشائر الأردن للشرع في حربه على من يهدد إرادة الشعوب. البيان، على صغره، سُمعت أصداؤه في عمّان أكثر مما سُمعت أصداؤه في دمشق. تعي عمّان جيداً معنى اللعب بالرهانات العشائرية عندها، وهو ما تعلمه دمشق جيداً. ويعي الطرفان خطورة هذه الورقة وحساسيتها. فخبرة الحكم في دمشق اليوم لا تتأتى من سوريا نفسها بما يخص العشائر، بل من سنين خلت من قبل الثورة السورية. تعي هيئة التحرير جيداً أثر الولاءات المتحولة للعشائر، بين عامي 2006 و2011 في العراق، من الولاء للمذهب إلى الولاء للغنيمة "فترة الصحوات". وهي تعرف جيداً معنى الفزعة العشائرية في الجنوب السوري وما تفتحه من أبواب واحتمالات، قد يجعل من شرايين مفتوحة على الدوام، لأي طارئ أو متغير بعيد.ا

 

صحيفة الخندق