حرب الأيّام الاثنا عشر على إيران أجابت عن جملة من تساؤلاتنا تجاه المجتمع والحكومة في طهران، كما أنّها أثارت تساؤلات جديدة بشأن مرحلة ما بعد الحرب
الشعب الإيراني: لم يحن وقت العبور بعد
الحرب ذات الأيّام الاثنا عشر على إيران أجابت عن جملة من تساؤلاتنا تجاه المجتمع والحكومة في طهران، كما أنّها أثارت تساؤلات جديدة بشأن مرحلة ما بعد الحرب، والسيناريوهات المطروحة هنا وهناك، من مثل: هل سيشنّ نتنياهو حملةً جديدة على إيران أم لا؟. ثم ماذا سيكون ردّ فعل المجتمع الإيراني تجاه الحملة الثانية؟
كما تُثار تساؤلات أخرى، من قبيل: هل يمكننا أن نضع ما نسمّيه "المجتمع الإيراني" في خانة واحدة، أم نحن أمام انقسام مجتمعي، كما يعبّر عن ذلك بعض أساتذة علم الاجتماع في الجامعات الإيرانية؟ فالانقسامٌ، هو في أقل تقدير - بحسبهم - شطران: شطرٍ مناصر للحكومة، وآخرَ منتقد لها.
أبرز ما يمكنني التنويه إليه في هذا الشأن هو المفاجأتان اللتان تلقاهما "صاحب مشاريع المفاجآت"، أو لنقل "الندّ الأكثر طموحاً في صناعة المفاجأة" إذا صحّ التعبير؛ أي بنيامين نتنياهو. فالمسألة لا تتعلّق بمفاجأة واحدة فحسب، بل بمفاجأتين في آنٍ واحد. أولاهما، رهان "إسرائيل" على المجتمع الإيراني، معتقدة أن هذا المجتمع ينتظر "ضربة واحدة" لكي ينهار أو يثور من الداخل. ويبدو أن نتنياهو، بعد خطاباته القليلة والمصاغة بعناية – والتي توجه فيها إلى الشعب الإيراني – كان يتوهّم أن هذا الشعب قد يناصره في عدوانه على الأراضي الإيرانية، متجاهلاً تاريخ "إسرائيل" الدموي القريب، والذي لا ينفصل زمنياً عن الهجمات الجارية. فكيف كان يفكر هذا "الوحش القزم" تجاه الشعب الإيراني؟.
هل تصوّر أن الشعب الإيراني – مهما كانت معاناته، ومهما بلغ نقده لحكومته – يمكن أن يقبل بالتحرك تحت راية شخص مثل نتنياهو؟
لقد ابتكر بعض المفكّرين في إيران مصطلحاً وُلد من رحم التأمّل في واقع المجتمع الإيراني المعاصر، فسمّوه "جامعه آستانه ای"؛ أي: "المجتمع الواقف على العتبة/ أو الحافة". العتبة/ الحافة التي تفصل بين الثبات والانهيار. ومنذ زمن، ثمة سؤال لم يكن قد فارقني: هل تجاوز المجتمع الإيراني هذه العتبة/ الحافة أم لا؟ سؤالٌ ظلّ معلقاً لا يملك أيٌ من الباحثين يقين الإجابة عليه. فهل اجتاز هذا المجتمع عتبة الانهيار، وبات قاب قوسين أو أدنى من التفكك؟ أم أنّه ما زال بعيداً عنها، وأنّ كل ضربة موجعة لا تُضعفه، بل توقظه، وتستنهض فيه ما تراكم في أعماقه من تماسكٍ وقدرةٍ على البقاء؟.
بتقديري، جاءت هذه الحرب كاشفةً لحقيقة الكبرى: لم يعبر المجتمع الإيراني بعدُ عتبةَ السقوط، بل دلّت شواهدها على أنّ جذوره ما تزال ضاربة في عمق الأرض. رأينا ذلك في لحظة خاطفة، لكنها بليغة، حينما خاطبت المذيعة الإيرانية سحر إمامي الكيانَ الغاصب، على الهواء مباشرة، بينما كانت القنابل تتساقط على مبنى التلفزيون الرسمي.
ذلك التحدي الصادق، في ذروة الخطر، لم يكن درساً تلقّته في أروقة إعلامٍ رسميٍّ مترهّل، بل كان صوتاً منبعثاً من أعماق الروح، ومن جذورٍ متينة لم تهزمها الرداءة ولا الخوف. لقد كان ردّ فعلها مجرّد رأس جبل الجليد، أمّا بقيته، فمغمور في الأعماق، غافل عن كثيرين، لكنه حاضر، وحيّ ينتظر لحظة الولادة.
تعود هذه الجذور في جانب منها إلى تراثٍ إسلامي متراكم، سني في القرون الأولى، ثم شيعي في ما بعد، وهو ما كان ينعكس – إلى حدٍّ بعيد – في زيّ السيدة إمامي ولباسها. ويعود جانبٌ آخر منها إلى تراثٍ وطنيٍّ إيرانيٍّ ضاربٍ في عمق التاريخ، يمتدّ إلى آلاف السنين.
والمفارقة اللافتة، أن نظام الحكم في إيران، خلال هذه الحرب، أكّد الخطاب الوطني بدرجة غير مسبوقة، تجاوز فيها كل ما كان عليه من قبل. فشهدنا مزجاً غير معتاد قام به الرواديد (وهو المصطلح العراقي لمنشدي مراثي عاشوراء) والمنشدون، بين العناصر الوطنية والأخرى الدينية - العاشورائية بشكل خاص، متمثلة في حماسة كربلاء ومظلومية الحسين (ع).
ولكن، هل يمكننا أن نعوّل على مجرد هذا المزج الخطابي، بين عناصر قد تكون متنافرة أحياناً، لبناء مشروع تماسك اجتماعي أو وعي جماعي مستقر؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي سنعود إليه لاحقاً.
المفاجأة الثانية التي تلقّاها نتنياهو تمثّلت في فشل تعويله على الضربة الأولى التي استهدفت مجموعة من القيادات العسكرية والعلماء، أملاً في انهيار نظام الحكم في إيران بالكامل. فهل كان يتوقّع هذا الردّ الإيراني العنيف، الذي كاد أن يحوّل تل أبيب إلى ما يشبه غزة، ثأراً لما تتعرّض له أمتنا الجريحة؟.
بعضهم يقول أن نتنياهو كان يعلم كل شيء. وكيف لا يعلم أو لا يعرف؟. هذا البعض لا زال يفكر بعقلية استشراقية يمكن إدراجها ضمن ما أسماه صادق جلال العظم "الاستشراق المعكوس"؟.
شخصياً، أرى أن الإدارة الإسرائيلية قد كشفت الكثيرَ عن إيران وعن "ما يُسمى بمحور المقاومة" فترة سوريا. لكنها لم تكن تدري كل شيء. كمثال، لم تتصور الإدارة الإسرائيلية أن هناك قدرةً صاروخيةً تتشكل وتنمو بعيداً عما تَصورت أنها قد كشفته سابقاً.
في تصوري، الإدارة الإسرائيلية اطمأنّت إلى ما تعرفه عن إيران، باعتبار ان تل أبيب صاحبة "موقعة البيجر" وضرب القادة في أي مكان كانت تتطلع من موقع الواثق بقدرته. لكن إيران استغلت هذا الاطمئنان الزائد لدى الكيان، في الوقت الذي كانت تعمل فيه على نظام صاروخي في الخفاء، وبعيداً عن أنظار الاستخبارات الإسرائيلية.
هذا هو تحليلي، وقد لا يتفق معه كثيرون، إلا أنني أعتبر ذلك المفاجأة الثانية، التي حملت رسائل من نوع مختلف. إذ لم تُنتجها آلة الإعلام الإيراني، وهو ما حقق صدمة استراتيجية للطرف الإسرائيلي.
نعم، شكلت المفاجأة الثانية صدمة استراتيجية، بالمعنى العسكري والإدراكي. نعم، لم تكن تداعيات المفاجأة الثانية لتقتصر على الساحة الإيرانية أو الإسرائيلية فحسب. فالصواريخ كانت تنطلق من عمق إيران، لتعبر سماء أكثر من دولة إسلامية، إلى أن تصل إلى قلب المعركة. وكانت هذه الصواريخ تُحدث تحوّلاً غير مسبوق في الوعي الإسلامي عامة. واقع الأمر، لم تكن المعركة مجرد اشتباك ناري، بل كانت ملحمة إعلامية في السماء، بلا وسيط ولا مونتاج ولا كاميرات. فلقد كانت الصورة أوضح من أي تصري والمشهد أبلغ من أي بيان.
إن المعركة التي وقعت في السماء، والتي حُرم الشعب الإيراني إلى حدّ كبير من مشاهدتها، برأيي، هي من حسمت صراع الأفكار لصالح الإيرانيين، الذين لم يكن يُنظر إليهم بعين الرضا من قِبَل كثير من المسلمين بعد جراح سوريا، وهنا مكمن المفاجأة الاستراتيجي.
إلى أين تتجه إيران بعد الضربة؟
إذا وجّهت "إسرائيل" ضربة جديدة، فهل سيكون الشارع الإيراني على قدر التماسك كما كان في المرة الأولى؟ وهل تستفيد تل أبيب من دروس حرب الأيام الإثنا عشر؟ أم أن طهران هي الأخرى أعادت حساباتها في ما يتعلق بالاختراقات من قمة الهرم إلى قاعدته؟. والسؤال الأعمق: هل نحن أمام ملامح خطاب إيراني جديد؟ خطاب يوازن بين الوطن والدين، بين الأمة والمذهب من جهة، وبين الخارج والعالم من جهة أخرى؟. السؤال الأهم: هل تكفي الأناشيد والأغاني لحمل هذا المشروع الخطابي المعقّد؟ الإجابة بكل وضوح: لا.
الحل يبدأ من العودة إلى مؤسسة العلم: الجامعات، الحوزات، النخب، والباحثين. هؤلاء وحدهم القادرون على طرح الأسئلة الصعبة: ما علاقة الثورة الإسلامية بإيران كدولة؟ ما موقع إيران في خارطة الأمة الإسلامية؟ ما موقعها بين الشيعة وأهل السنة؟ كيف نواجه الحوكمة المترهّلة؟ ماذا عن التحالفات الإقليمية والممرات الدولية؟ وأخطر الأسئلة: ماذا عن "الوحش الإسرائيلي" الواقف أمامنا؟
لا توجد إجابات جاهزة. الحلول الحقيقية لا تأتي إلا من عقود من البحث والحوار العميق، داخل إطار العلوم الإنسانية والإسلامية. لكن هل يسمح الوضع الجامعي في إيران اليوم بحمل هذا العبء؟ هنا يبدأ التحدي الحقيقي. المعركة القادمة ليست فقط في السماء أو على الأرض، بل في عقل الأمة.
Related Posts
باحث وأكاديمي إيراني في جامعة طهران