اتضح الآن وبجلاء للجميع أن نصرة القضية الفلسطينية والمواجهة الاستراتيجية مع الكيان الصهيوني ليست فقط قضية إنسانية أو دينية، بل هي مسألة أمن قومي إيراني بالدرجة الأولى
المواجهة الأولى مع عدو الأمة
انطلقت الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني، ضد نظام الشاه محمد رضا بهلوي بشكل علني منذ عام 1962. حملت هذه الحركة الثورية منذ بدايتها هدفين استراتيجيين واضحين: الأول محاربة الاستبداد الداخلي المتمثل في النظام "الشاهنشاهي"، والثاني مقاومة الاستعمار الخارجي والاستكبار العالمي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. ورغم أن النضال ضد نظام الشاه - بصفته أداةً أمريكية في المنطقة وقمة هرم النظام الدكتاتوري - جمع بين هذين الهدفين في آن واحد، إلا أن العداء للسياسات الأمريكية والمشروع الصهيوني كان واضحاً وجلياً في خطاب الإمام الخميني وتلامذته منذ اللحظات الأولى للثورة.
حققت الثورة الإسلامية انتصارها العظيم عام 1979، لتؤسس نظام الجمهورية الإسلامية في إيران كنموذج فريد للحكم الإسلامي المعاصر. ورغم أن "محاربة الاستكبار العالمي" و"دعم حركات التحرر" وردا بشكل صريح في الوثائق الدستورية العليا للنظام، وظلت هذه السياسات تُتبع في جميع الحكومات المتعاقبة، إلا أن درجة وشدة تنفيذها ارتبطت بشكل وثيق بمنهج السياسة الخارجية للرؤساء المنتخبين بالتصويت الشعبي المباشر. ففي بعض الفترات التاريخية، تولى الرئاسة من اعتقدوا أن على الجمهورية الإسلامية عدم الوقوف في وجه السياسات الغربية بالمنطقة، وسعوا جاهدين عبر المفاوضات والمبادرات الدبلوماسية لتحويل إيران إلى عنصر "عادي" في المعادلة الدولية وفق الرؤية الأمريكية.
في المقابل، استخدمت الولايات المتحدة و"إسرائيل" وحلفاؤهما في المحور الغربي كل الأدوات والوسائل المتاحة - العسكرية المباشرة والناعمة غير المباشرة - لزعزعة النظام الإسلامي في إيران أو إجباره على تغيير سلوكه وسياساته على الساحة الدولية، وإضعاف نهج المقاومة الذي تتبناه طهران. وشملت هذه الوسائل شن الحروب وإثارة الفوضى والاضطرابات الداخلية، وتنفيذ عمليات الاغتيال ضد الشخصيات العلمية والعسكرية، وفرض حزم العقوبات الاقتصادية القاسية، وإدارة حرب نفسية وإعلامية ضارية. في العقدين الأخيرين على وجه الخصوص، تركزت الجهود المعادية على تشديد العقوبات الاقتصادية وتكثيف الحرب النفسية. فمن خلال فرض أقسى العقوبات الاقتصادية والمالية، حاولوا تقويض الأوضاع المعيشية للمواطنين داخل إيران، وفي نفس الوقت، شنت وسائل الإعلام الغربية حملات نفسية مكثفة لخلق فجوة وشرخ بين الشعب الإيراني ونظام الجمهورية الإسلامية. وقد روّجت هذه الحملات لفكرة مفادها أن سبب الضغوط والعقوبات على إيران هو "سياسات النظام المغامرة والمتطرفة في المنطقة"، محاولين تصوير الأمر وكأن دول المنطقة العربية والإسلامية، وحتى الفلسطينيين أنفسهم، قد اصطفوا مع السياسات الأمريكية وصالحوا الكيان الصهيوني، بينما تصر طهران بدوافع أيديولوجية متطرفة على إنفاق ثروات البلاد ومواردها في سياسات متهورة تشعل نيران الحروب في المنطقة..
لقد قامت وسائل الإعلام المعادية بتقديم السياسات الإيرانية وتصويرها (من مثل مثل تشكيل محور المقاومة، وتقديم الدعم العسكري والأمني لفصائل المقاومة، والمشاركة في سوريا للحفاظ على وحدتها الترابية ومنع سقوطها في أيدي القوى التكفيرية)، على أنها "مغامرات غير مسؤولة وخارجة عن الإطار المقبول دولياً". ولا شك أن هذه الحرب النفسية الواسعة وغير المسبوقة في التاريخ المعاصر قد تركت آثارها السلبية على قطاعات من الرأي العام الإيراني والعربي.
أما بالنسبة للقضية الفلسطينية المركزية، فمع إيمان الأغلبية الساحقة من الشعب الإيراني باحتلال وظلم الكيان الصهيوني لأرض فلسطين - وهو إيمان تعزز وترسخ أكثر بعد انتفاضة "طوفان الأقصى" البطولية - إلا أن الرأي العام الإيراني انقسم حول مدى استعداد إيران لتحمل التكاليف الباهظة في هذا الصراع المصيري، سواء عبر الدخول في مواجهة مباشرة أو غير مباشرة مع "إسرائيل"، أو تحمل تبعات العقوبات الاقتصادية القاسية بسبب دعمها الثابت للمقاومة الفلسطينية.
فقد أيّد فريق من الشعب الإيراني، وهم المؤمنون إيماناً راسخاً بخطاب الأمة الإسلامية الواحدة ومبدأ نصرة المظلومين، هذه السياسات ودعموها بشدة، بينما شكك فريق آخر من المواطنين في جدوى هذا الدعم ومردوده الاستراتيجي، مفضلين حصره في إطار المواقف الدبلوماسية والمساندة السياسية والمعنوية. بل إن بعض المظاهرات والاحتجاجات الداخلية - التي اندلعت لأسباب اقتصادية أو اجتماعية - رفعت شعارات معارضة مثل: "لا غزة ولا لبنان، روحي فداء لإيران"، أو "اترك سورية، واهتم بأحوالنا المعيشية".
اللافت أن القاسم المشترك بين الفريقين المؤيد والمعارض كان اعتقادهم أن "إسرائيل" ليست عدواً مباشراً وجودياً لإيران، بل تسعى فقط للهيمنة على فلسطين والدول العربية المجاورة. لذا، أيد أنصار "مفهوم الأمة" سياسات النظام بدافع إنساني وإسلامي يتمثل في نصرة المظلومين، بينما عارضها المنتقدون لأنهم رأوا أن على إيران ألا تتحمل تكاليف مواجهة أعداء الدول الأخرى. أي أنّ كلا الفريقين لم يدرك حقيقة العداء المباشر والوجودي لـ"إسرائيل" تجاه إيران نفسها.
صحيح أن "إسرائيل" قامت سابقاً بعدة عمليات عدائية ضد إيران، مثل اغتيال عدد من العلماء النوويين الإيرانيين، وتنفيذ هجمات إلكترونية على بعض المنشآت الحيوية، وشن غارات جوية على بعض البنى التحتية العسكرية، إلا أن عامة الشعب الإيراني لم يذوقوا مرارة هذا العداء بشكل ملموس ومباشر يؤثر على حياتهم اليومية.
لكن العدوان الإسرائيلي الصريح والواسع النطاق على إيران في الفترة الأخيرة، والذي شمل ضربات صاروخية وجوية على البنى الاقتصادية الحيوية، وقصفاً عشوائياً للمناطق المدنية، واستهدافاً متعمداً للمدنيين الأبرياء، ومحاولات سافرة لزعزعة استقرار النظام، وإثارة الفوضى الداخلية، ودعم جماعات انفصالية مسلحة، كشف لأول مرة وبشكل لا لبس فيه لكل الإيرانيين أن "إسرائيل" عدو وجودي وخطير لهم أيضاً.
لقد اتضح الآن وبجلاء للجميع أن نصرة القضية الفلسطينية والمواجهة الاستراتيجية مع الكيان الصهيوني ليست فقط قضية إنسانية أو دينية، بل هي مسألة أمن قومي إيراني بالدرجة الأولى. لذا، خلافاً لتوقعات القادة الإسرائيليين الذين ظنوا أن هجماتهم ستثير احتجاجات شعبية ضد النظام، فإن هذه الاعتداءات الغادرة قد محت كل التصورات والادعاءات التي بنتها سنوات من الحرب النفسية الأمريكية-الإسرائيلية، ووحدت الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب الإيراني (رغم اختلافاتهم السياسية والفكرية) حول ضرورة التصدي والمواجهة. وهذا - بلا شك - يمثل أعظم هزيمة استراتيجية لـ"إسرائيل" في هذه الجولة من الحرب.
Related Posts
كاتب وإعلامي إيراني