ما بين الانهماك بمواجهة جائحة كورونا التي بدأت 'صينية'" وصارت أكثر فأكثر '"هندية'" في بحر هذا العام، وما بين عودة التوترات بل الاشتباكات في المناطق الحدودية المتنازع عليها في أعالي الهيملايا، أفسدت التحضيرات للاحتفال هذا العام، بالذكرى السبعين لإقامة العلاقات بين الهند المستقلة حديثاً آنذاك والجمهورية الشعبية التي كانت خرجت لتوها منتصرة من الحرب الأهلية الصينية"
نزاع حدودي على قلب آسيا
ما بين الانهماك بمواجهة جائحة كورونا التي بدأت "صينية" وصارت أكثر فأكثر "هندية" في بحر هذا العام، وما بين عودة التوترات بل الاشتباكات في المناطق الحدودية المتنازع عليها في أعالي الهيملايا، أفسدت التحضيرات للاحتفال هذا العام، بالذكرى السبعين لإقامة العلاقات بين الهند المستقلة حديثاً آنذاك والجمهورية الشعبية التي كانت خرجت لتوها منتصرة من الحرب الأهلية الصينية، وكانت الهند من أوائل من اعترف بها، عوضاً عن جمهورية الكيومنتانغ الوطنية.
لم تكد هذه العلاقات تنطلق حتى تأزمت بفعل مضي الصين في ضم التيبت خريف العام 1951، ليصار من ثم إلى إيثار الهند المقاربة الاستيعابية للأمور، في لحظة مؤتمر باندونغ وبدايات حركة عدم الانحياز، وطموح الهند لتزعم البلدان المتحررة حديثاً من الاستعمار. فكان توقيع "الاتفاق حول التعاون والعلاقات بين منطقة التيبت الصينية وبين الهند" في 29 نيسان 1954، الذي نظر إليه جواهرلال نهرو - رئيس الوزراء الهندي وقائد عملية تشكل الهند المستقلة ومؤسس "حكم السلالة" من ذريته من بعده من حيث كان يدري أو لا يدري - على أنه يكرس أفكاره الخمس" البانج شيلا"، إذ نص الاتفاق في مقدمته على الاحترام المتبادل لوحدة تراب وسيادة البلدين والرغبة المتبادلة في اللا اعتداء واللا تدخل، كما في الندية والسعي الى المنافع المتبادلة، وفي القول بالتعايش السلمي. اليوم، ثمة اتجاه قوي داخل الهند لانتقاد نهرو على "سذاجته"، وعلى تفريطه بالتيبت في لحظة باندونغ، وأنه بتوقيعه هذا الاتفاق فتح الطريق لاحقاً لانتقال الصين من إلحاق التيبت بها مع ابقاء الحكم البوذي اللامائي فيه، إلى الدمج التام، من بوابة إشاعة الإصلاح الزراعي في الاقليم وصولاً إلى انتفاضة التيبتيين عام 1959 المنتهية بفرار الدالاي لاما إلى الهند، وإعلانه حكومة منفى من مدينة درامشالاه في شمالها.
انتقاد "البانج شيلا" النهروية على عدم كفايتها هو جزء من الانتقاد المنهجي لنموذج "الدولة النهروية"، وهذا شائع في الهند اليوم لا سيما في اليمين. فهذا اليمين يربط بين تفريط نهرو بالجغرافيا الثقافية الذي أدى تباعاً لتفريطه بالجغرافيا السياسية. فالتيبت، والبلاد الهيملاوية ككل، هي وفقاً لهذه النظرة جزءٌ من العالم الهندي الممتد وليس من العالم الصيني. التيبت بقيت على البوذية التي نشأت أساساً شمال الهند، فيما لم تبق عليها الهند بعد الفترة الذهبية للبوذية فيها بين القرن الثالث قبل الميلاد والسادس بعده، وكانت الغلبة فيها للديانة المتمحورة حول معتقدات وتقاليد البراهمة، وقد جاءت الفتوحات والسلطات الإسلامية في شمال الهند لتقوض البوذية فيها بعد أكثر، في حين سيشتد عود المنظومة الدينية المتشكلة حول طبقة الكهنة البراهمة ويؤسسون للديانة الكونفدرالية والتراتبية التي نسميها اليوم الهندوسية. لكن البوذية التيبتية، أي مدرسة المركب الماسي، الفاجرايانا، تبقى أكثر تشرباً للتراث التنتري الهندوسي، من نمط البوذية الناشئ في الصين والمنتشر منها إلى الشرق الأقصى (اليابان وكوريا)، زد على أن البوذية نفسها بقيت ثالث ثلاثة في الصين، وطالما عاملتها التاوية والكونفوشية كبضاعة الهند فيها.
التهاون في أمر التيبت واحد من المآخذ إذاً على مرحلة نهرو في الهند اليوم، لا يقلل منها أن الهند عام 1959 استقبلت حكومة الدالاي في المنفى. وأكثر من يلقي عليه المؤرخون المحافظون باللائمة في الهند هو وزير نهرو كريشنا مينون، الشيوعي الهوى.
تم ضم التيبت ثم دمجها بناءً على مطالبة الصين بكل ما اعتبره جزءًا من مملكة التيبت من أراضي شرقي وغربي الهيملايا، في وقت أخذ اللاجئون من التيبت بالتدفق على الهند. وهذا مسار كانت نتيجته توغل صيني في اللاداخ الهندية عام 1959، وسلسلة أعمال عدائية، وصولاً إلى حرب بين البلدين، في تشرين الأول 1962، انتهت بهزيمة عسكرية هندية سريعة. لم يكن ثمة ما يوقف الجيش الصيني وقتها، لكنه اكتفى باحتلال أرونجال براديش في الشمال الشرقي من الهند وأكساي شين في الشمال الغربي، ثم انسحب من الأولى مع الهدنة، مع بقائها منطقة متنازع عليها تحدث توتراً صينياً كلما زارها مسؤول هندي، في حين بقيت منطقة اكساي شين مع الصين.
في سياق الحرب الباردة، دفعت حرب 1962 الشقاق داخل المعسكر الشرقي بين الاتحاد السوفياتي والصين الى أقصاه، سيما وأن السوفيات عبروا عن تضامنهم مع الهند، كما عبدت الطريق للتقارب الصيني الباكستاني، الذي سيصبح شيئاً فشيئاً معطى جيوستراتيجي أساسي بالنسبة إلى جنوب آسيا، ما يعزز هندياً منظار التشكي من "كماشة" تحيط بها من شمال ومن غرب: الصين وباكستان. أيضا أدت هذه الحرب إلى انشقاقات عميقة وعنيفة داخل الحركة الشيوعية في الهند، وصولاً إلى انطلاقة حركة التمرد الماوية النكسالية المسلحة أواخر الستينيات، والمستمرة إلى اليوم، في مقابل أحزاب شيوعية عديدة بدءًا من الحزب الموالي بموسكو، والحزب الشيوعي الهندي الماركسي، "اللامنحاز" بين موسكو وبكين، والمهيمن في ولايتي البنغال الغربي وكيرالا، وطائفة من الاحزاب الماوية "الشرعية" في مقابل تلك المسلحة والمصنفة إرهاباً.
تجدد التصادم العسكري بين البلدين عام 1967 على خلفية التنازع هذه المرة على مملكة سيكيم ذات السلالة البوذية، والأكثرية السكانية التي صارت مع الوقت هندوسية، الأمر الذي كتب لسيكيم مصيراً مختلفاً عن جارتها بوتان البوذية ملكاً وشعباً، ودفع بها نحو الاندماج بالهند عام 1975، ولو من بعد اختبار قوة، وتنازع صيني - هندي على القسم الشمالي منها.
رغم كل المحاولات لتبريد وتحسين العلاقات، لم ينزع أساس الخلافات الحدودية بين البلدين، وهو أن الصين ترى أن كل ما كان للتيبت المملكة يعود لها بالنتيجة في الهيملايا، في حين ترى الهند إلى المسائل بمعين خرائط "الراج" البريطاني. مع هذا، جاء انتهاء الحرب الباردة ليسمح فعلياً بمجالات شتى من التعاون بين الهند والصين، بخاصة الصعيد التجاري - الاقتصادي، قبل أن تدفع خطط طريق الحرير الصينية الجديدة مجدداً نحو مصدر جديد للتوتر، لأن الهند تنظر بالنتيجة إلى هذه الطرق، وإلى ازدياد النفوذ الصيني في باكستان غربها والنيبال شمالها كما في سري لانكا جنوبها، على أنه تطويق لها. ولئن سعت الهند إلى مواجهة طريق الحرير الممتدة من بر الصين إلى ميناء جوادر على الساحل البلوشي من باكستان، بالتعويل على تطوير ميناء جابهار المقابل له من الجانب الإيراني، ومنه شبكة مواصلات بالبر إلى أفغانستان. يأتي التوجه الصيني لتفاهم تجاري واستثماري مزمن مع إيران ليعيد خلق الأوراق هنا.
على الاختلاف الايديولوجي بينهما، تعيش الصين والهند اليوم فترة زعامتين كاريزميتين، شي جين بينغ ونارندره مودي. الاختلاف الأيديولوجي بين شيوعية الأول ومحافظة الأخير، تقابله الشراكة في إحياء الفكرة القومية الإثنية الأكثروية على الجانبين، كصين متمحورة حول ثقافة قوم الهان، و"هند الهندوس" على ما تختصر به عقيدة الهندوتفا المعمول بها في حزب مودي. في المقابل، النموذج الصيني في النهوض الاقتصادي هو ما تعمل هند مودي على الاستيحاء منه من جملة نماذج. بالنتيجة، العقد الأخير إن دل على شيء فعلى تنامي التبادل التجاري بين البلدين، في مقابل تنامي الريبة والحساسية، وصولاً إلى قفز التوتر الحدودي الدفين مرة جديدة إلى الواجهة، من أزمة دوكلام الحدودية في القاطع بين بوتان وسيكيم والتيبت "الصينية"، التي خرجت منها الهند رابحة ديبلوماسياً في صيف 2017، إلى الاشتباك في أعالي لاداخ كما حدث في أيار المنصرم، حيث تعتبر الهند هضبة اكساي شين امتداداً للاداخ، شرق نهر جلوان، المسمى على اسم المكتشف اللاداخي الكشميري الأصل غلام رسول جلوان في القرن التاسع عشر. أما الصين فتقدمت عام 1962 حربياً إلى غرب النهر، وسيطرت على وادي نهر جلوان (وهو نهر يعود ويصب في نهر السند، الإيندوس) وعلى معظم بحيرة بانغونغ.
النزاع الحدودي هو الحلقة الأكثر توهجاً من نزاع أوسع هو نزاع على الهيملايا ككل، فبعد أن ذهبت التيبت للصين، وأروناجل براديش وسيكيم للهند، لا تزال هناك النيبال وبوتان مستقلتين، هذا في مقابل حيوية نيبالو هندية في منطقة دارجيلينغ المطالبة أقله بالانفصال عن ولاية البنغال الغربي، واستحداث ولاية غوركالاند، كولاية نيبالية داخل الهند. في هذا النزاع على الهيملايا تخوضه الصين أساساً بتطوير المواصلات، من طرق سريعة وسكك حديد، في حين تعول فيه الهند قبل كل شيء على الرابطة الدينية، بين الأكثرية الهندوسية من النيباليين وبين الأكثرية الهندوسية في الهند، كما رابطة القرابة الدينية بين البوذية التيبتية وبين الهندوسية. يبقى أن المهيمن أكثر على الهيملايا هو الممسك فعلياً أكثر بمسارات قارة بأسرها، فالهيملايا جيوبوليتيكياً هي مجال الاشتباك والافتراق بين فضاء "الهارت لاند/ heart land" وفضاء "الريم لاند/rim land "، ومن يهيمن على الهيملايا سيمسك بقلب آسيا.
"Related Posts
كاتب سياسي لبناني.