مُنذ الأسبوع الأول للحرب الإسرائلية على غزة، والمدن الأوروبيّة تعيشُ تحت ضغط الاحتجاجات والمسيرات الرافضة للحرب والداعية للتضامن مع الفلسطنيين في غزة وفي الضفة الغربيّة. تنوعت مظاهر تلك الاحتجاجات بين مسيرات عامة في الشوراع والمراكز الرئيسية في العواصم الغربيّة وبين احتلال الموانئ ومحطات القطار المركزية. تنوّعٌ كشف عن حيويّة المدينة الغربيّة وقدرتها على اتاحة المجال العمومي للنّاس، والتعبير عن رأيهم في القضايا العامة.
المقاومة المدنية للحرب على غزة في أوروبا (1-2)
مُنذ الأسبوع الأول للحرب الإسرائلية على غزة، والمدن الأوروبيّة تعيشُ تحت ضغط الاحتجاجات والمسيرات الرافضة للحرب والداعية للتضامن مع الفلسطنيين في غزة وفي الضفة الغربيّة. تنوعت مظاهر تلك الاحتجاجات بين مسيرات عامة في الشوراع والمراكز الرئيسية في العواصم الغربيّة وبين احتلال الموانئ ومحطات القطار المركزية. تنوّعٌ كشف عن حيويّة المدينة الغربيّة وقدرتها على اتاحة المجال العمومي للنّاس، والتعبير عن رأيهم في القضايا العامة. والواقع أنّ المدن الغربية لم تشهد احتجاجات بهذه الكثافة منذ عقدين من الزمّن، أي في العام 2003 عندما كان الرأي العام الغربي معترضاً على القرار الأميركي لاحتلال العراق. والواقع أيضاً، أنّ سيرة الاحتجاج هنا وفي هذه اللحظة التاريخيّة لا يمكن النظر إليها على أنها عبثية، بقدر ما عبّرت أيضاً عن مقاومةٍ شرسة خاضتَها منظمات المُجتّمع المدني في الغرب لإستعادة حيويّتها من جهة، ولمقاومة القرارات الحكومية التي كانت متهجة نحو تجريم التضامن والتعاطف مع القضية الفلسطنيّنية من جهة ثانية، إذ كانت الحكومات الغربية ولا تزال تصّر على استعادة السردية الصيهونيّة وتقديسها، الأمر الذي شكّل فجوة حادة بين الحكومات في الغرب والمواطنين هناك.
في جزء آخر تشيرُ هذه الاحتجاجات إلى سيولة الثقة بوسائل الإعلام الرسمية مثل محطاتِ التلفزة المشهورة، أو تصريحات المسؤولين والوزراء المعنيين، إذ لم يعد الجمهور يثقُ في التغطيات والتصريحات الخاصة بالأحداث الضخمة الي تجرى في غزة. ويمكن بكل وضوح ملاحظة حالة انتقال متابعة الجمهور الغربي إلى وسائلٍ التواصل الاجتماعي كبديلٍ أكثرَ انتشاراً وأكثر موثوقيةً فضلاً عن كون الإعلام الجديد وفّر منصات سمحت بالحد الأدنى من الاعتراض على الرواية الرسمية للأحداث، واستطاعت منصاتٌ عديدة تقديم محتوى ناقدٍ للتغطيات الإعلامية السائدة، بل إن تلك المساهماتُ الفردية أستطاعت أن تعدلَ من سلوك بعض القنوات المتلفزة وأنها تُجبرها على تقديم بعض الاعتذار للمشاهدين، كما حدث لقناة البي البي سي في تغطيتها لمسيرة مناهضة للحرب قرب مبنى القناة في العاصمة لندن. او إنها جعلت من بعض القنوات أن تنشر ما لا يخدمُ الرؤية الرسمية والسردية الإسرائيلية للحدث كما في اسكاي نيوز التي بدأت بتقديم صور العنف الإسرائيلي إلى جانب الرواية الاسرائيلية.
حصيلة لكل ذلك باتت وسائل الإعلام التقليدية تشعرُ بالحرج الشديد إزاء النقد الكثيف الذي طالَها من جهتيّن، الأولى تتعلق بنقلها صورة الحدث بشكل متوازي، والثانية أكثر عمقاً وخطراً وهي حرية التعبير والحريات الإعلامية ومدى توفر شروط الموضوعية في محتواها. وكلا الجهتين أصابت المجالَ العمومي للحريات بكدمةٍ كبيرة بما عزز قناعةَ الكثيرين من أنّ الحريات العامة في الغرب أصبحت على محكٍ حقيقي، وأن تلك الحريات معرضة أيضاً للانتهاك الممنهج.
ليس الإعلام هو ما يشكل قلب المعركة الحالية، رغم التأثيرات الواضحة على تغير مزاجه أو ممارساته السائدة، فالقلب الذي تديره المنظمات المدنية غير الحكومية هو السيطرة على المجال العمومي وإعادة الاعتبار للساحات الجماهيرية باعتبارها ملكاً شعبيا لا يجب أن يخضع للسلطة الرسمية. ويشمل هذا المجال العمومي مجموعة واسعة من القطاعات تفتقد إليها المدينة الشرقية عند مقارنة واقع مدن الشرق بمدن الغرب الموصوفة بأنها أكثر تنظيماً من جهة، والأكثر التصاقاً بمفهوم المساحة الفاصلة بين الدولة والمجتمع. يضاف إلى ذلك قوة واستقلالية مؤسسات المجتمع المدني مدعومة بقوة القضاء واستقلاليته بما يتيح لها فعالية أقوى خلافاً لدول الشرق حيث تسطير الدولة على كل مرافق الدولة ومجالها العمومي.
الساحات والمرافئ وبوابات الشركات
في بداية إعلان الحرب على غزة سعت الحكومات الغربية لاستنساخ التجربة الأوكرانية وتعميم الإجراءات القمعية لأي تعاطف مع فلسطين أو غزة. ففي بريطانيا خرجت وزير الداخلية تحذر من رفع الأعلام الفلسطينية أو التظاهر ضد الحرب الإسرائيلية بل اعتبرت أن شعار فلسطين حرة يعتبر شعاراً معادي للسامية. وبالمثل جرمت الحكومة الفرنسية التظاهر المتضامن مع فلسطين حالها حال الحكومة الألمانية. كما سعى الإعلام الرسمي لتضخيم أحداث 7 اكتوبر والنظر إليها على أنها احتلال وجريمة وهولوكست جديد يطال "إسرائيل". في الأسبوع الأول من الحرب دعت منظمات داعمة لفلسطين إلى التظاهر في لندن أمام السفارة الإسرائيلية وبدورها قامت الشرطة بمحاصرة المكان ومحاولة منع وصول المتظاهرين إلى المكان لكنها فشلت واستطاع المتظاهرون تحريك مسيرة ضخمة في جوار السفارة الإسرائيلية. أهمية هذه المظاهرة أنها كسرت تحذريات وزيرة الداخلية وسحقت كل تهديداتها الأمر الذي عزز موقف المنظمات المدنية في معركتها مع السردية الصهيونية فدعت تلك المنظمات إلى مسيرة ضخمة أمام مبنى قناة البي بي سي وبالفعل كانت المسيرة تعد الأكبر من ناحية المشاركين منذ عام 2003.
لقد كسرت تلك المسيرة التي توجهت من الشارع التجاري في لندن إلى مقر الحكومة البريطانية القيود التي كان من المتوقع فرضها كما في تجربة الحرب الأوكرانية ضد التعاطف مع روسيا وتطبيق كافة الإجراءات التي اتخذت حينها. وبهذا استطاعت منظمات القطاع المدني استعادة موقعها ودورها في وضع حد لممارسات الحكومة وهيمنة السردية الصهيونية. لا يخلو الأمر هنا من الإشادة بموقف رئيس شرطة لندن الذي التزم بالقانون الأصلي في حق التظاهر والحريات العامة دون الأخذ بتحذيرات ومواقف الحكومة الداعمة والمؤيدة للسردية الصهيونية. وهو الأمر الذي تطور لاحقاً في مقالة نشرتها وزيرة الداخلية في مجلة التايمز اتهمت فيه عميد شرطة لندن بالمحاباة والتعاطف مع مؤيدي القضية الفلسيطينة مستشهدة بالتاريخ الإيرلندي في لندن، الأمر الذي فجر قضية أخرى تتعلق بالمطالبة بإقالة وزيرة الداخلية والتهكم من مواقفها. وزيرة الداخلية المنحدرة من أصول هندية مهاجرة كانت تسببت في إثارة الرأي العام لأكثر من مرة قبل حرب غزة لكنها هذه المرة واجهت ردة فعل قوية من قبل المؤيدين للقضية الفلسطينية ومن قبل خصوم حزب المحافظين أو بالأحرى خصوم حكومة ريشي سوناك الهندي الأصل أيضاً.
قبل أن تتحرك ساحات لندن في مسيرات ضخمة غير معهودة كانت الشوراع الفرنسية تعيش حالة من الاضطراب والمواجهات السلمية بين المتظاهرين وقوات الشرطة الفرنسية. كان إغلب المشاركين في تلك التظاهرات من المهاجرين أو المنحدرين من أصول عربية وإسلامية تحدوا القانون الفرنسي وتعرضوا للأذى القانوني والبدني في بعض الأحيان. وقد استمر هذا الوضع المضطرب مدة من الزمن إلى أن أصدرت المحكمة العليا في فرنسا قرارها بحرية التظاهر وشرعية الاعتراض على الحرب. وشهدت المدن الأوروبية بعد هذا القرار تظاهرات ضخمة وحاشدة في المدن الرئيسية الأوروبية من بينها برلين رغم عدم التصريح بالتظاهر هناك، لكن المحتجين ومؤيدي القضية الفلسيطينة فرضوا إيقاعهم الخاص.
لقد أصبحت المدن الأوروبية منذ الأسبوع الثاني للحرب ساحات حرب إعلامية أخرى تقف إلى ساحة الحرب في غزة، وعبر المتظاهرون عن رفضهم للحرب المفروضة على غزة كما رفضوا مواقف حكوماتهم المؤيدة للسردية الصهيونية، الأمر الذي حفّز منصّات التواصل الاجتماعي على إغراق وسائل التواصل بمطالب المتظاهرين وصوتهم الرافض للحرب وللسردية الصيهونية.
الأمر الأكثر إثارة في مجال السيطرة على المجال العمومي كان متثملاً في بروز اليهودية مقابل الصهيونية ودخول اليهود المعارضين لـ"إسرئيل" على خط المواجهة وتصدر المسيرات المناهضة للحرب. وهو أمر أفقد السردية الصهيونية تماسكاً وأعطى جرعات قوّة للحركة المدنيّة في مواجتها للقوانيين الصارمة في مكافحة ما تمسيه الإرهاب الفسلطيني وتجريم تمجيد أفعال حماس. إذ برزت أصوات من اليهودية تدحض مستندات القوانيين الأوروبية وتعرّي المواقف السياسية بصورة مذهلة. وكان أقوى تلك المواقف هو احتلال اليهود لمحطة القطار في أميركا للاعتراض على الحرب الإسرائيلية.
تسبب هذا السلوك المدني في دفع حركات المجتمع المدني لتصعيد حراكها ضد السردية الصهيونية واستنساخ تلك التجربة بصورة أقوى وأكثر فعالية، فنشأ حلف عابر للدول بين تلك الحركات - وإن كان غير منظّم - يستهدف السيطرة واحتلال الساحات والمرافئ وفرض الحصار المدني على "إسرائيل" في أوروبا والدول الأخرى. وبرزت حركات الإغلاق للمصانع التي تورّد "أسرائيل" بالأسلحة أو السفن المعدّة لحمل الأسلحة لـ"إسرائيل" كما في إسبانيا.
إن حدود المعركة التي خاضتها منظمات المجتمع المدني أخذت في التوسع والانتقال من الساحات العامة، والمرافئ، ومحطات القطارات، إلى المؤسسات السياسية ومجالس البرلمانات حيث ظهرت أصوات عديدة من برلمانيين سواء في الاتحاد الأوروبي، أو المجالس البرلمانية المحلية، تطالب بوقف الحرب وبإيقاف الدعم السياسي المقدَّم لـ"إسرئيل". وهو أمر يدلّل على تصاعد قوة الشكبات التي نسجتها حركة المقاومة المدنية للحرب واستنداها إلى حليف سياسي داخل المؤسسة التشريعية. وهي وإن كانت ضعيفة أمام غول التعاطف الرسمي والحكومات مع "إسرائيل" إلا أنه كشف عن مسارات جديدة تخوضها المؤسسات السياسية الأوروبية.
Related Posts
باحث بحريني مقيم في بريطانيا