Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

نيويورك، حي ويليامزبيرغ. يعيش اليهود الحسيديم في هذا الحي الأميركي إحدى أكبر أزمات الهوية في العصر الحديث. أزمة ويليامزبرغ ترخي بظلالها على كامل المشهد اليهودي في العالم. من جامعة يوشيفا في نيويورك إلى جامعة بار إيلان في رمات غان بالقرب تل أبيب يبدو المشهد الديني متداخلاً بعض الشيء ومعقداً.

بشار اللقيس

طوفان الأقصى ومفترقات اللوبي اليهودي في أميركا

نيويورك، حي ويليامزبيرغ. يعيش اليهود الحسيديم في هذا الحي الأميركي إحدى أكبر أزمات الهوية في العصر الحديث. أزمة ويليامزبرغ ترخي بظلالها على كامل المشهد اليهودي في العالم. من جامعة يوشيفا في نيويورك إلى جامعة بار إيلان في رمات غان بالقرب من تل أبيب يبدو المشهد الديني متداخلاً بعض الشيء ومعقداً.

يفضل الحسيديم في الولايات المتحدة المحافظين على الديمقراطيين اليوم. في الآن عينه يرفض غالبية هؤلاء "إسرائيل". في تل أبيب، تدرك الحكومة الإسرائيلية الشعبية الكبيرة التي يتمتع بها قادة الحسيديم. وتتعاظم المخاوف من الحركة الحسيدية منذ أن زار "زلمان تايتلباوم" تل أبيب عام 2019.

تعود أصول غالبية يهود ويليامزبيرغ إلى أوكرانيا، وبولندا، فيما تعود أصول القليل منهم إلى ألمانيا. وهم أسوة بغيرهم من التيارات اليهودية الصوفية ذات الأصل الأوروبي، يتحدثون الييديش ويعكفون على قراءة التوراة في غالب نهارات عملهم.

في "إسرائيل"، يعيش الحسيديم ومجمل تيارات الصوفية اليهودية تحديات متصاعدة. يحاول هؤلاء اليهود التكيف مع محيط لا يكاد يشببهم البتة. وبنفس حال الحسيديم، يعيش مجمل المتصوفين ارتباكاً في علاقتهم بالدولة.

التيار الليتواني في "إسرائيل" هو أحد أكبر تيارات اليهودية أصولية وتحولاً في "إسرائيل" اليوم. بإمكاننا التماس تحوّلات هذا التيار من خلال "ييشيفاة فولوجين" الذي سيشكل مع الوقت واحداً من أبرز مؤسسات الييشيفوت في عالم الحريديم الليتوانيين. يتميز الليتوانيون عن غيرهم من اليهود المتصوّفة في كونهم لا يدرسون في كتب القبالة التقليدية. في الييشيفوت الليتواني يكاد لا يقع نظر الباحث على أي من تعاليم الصوفية والفلسفة اليهودية. يدرس طلاب هذه الييشيفوت الأخلاق ليس إلا. وبالرغم من اعتبار الليتوانيين أن دراسة التوراة هي القيمة العليا، إلا أن قسماً كبيراً من رجالهم يتوجهون إلى العمل بدلاً من الييشيفوت.[1]

وبالرغم من تحفظ مجمل الحريديم على الحركة الصهيونية منذ نشوئها، ومعارضتهم قيام دولة يهودية، ومعارضة حسيديّة ساتمار لقيام "الدولة اليهودية الكافرة" بحسب أدبياتهم، إلا أن طيفاً واسعاً منهم راح يتأقلم شيئاً فشيئاً مع الواقع الجديد.
بُعيد قيام إسرائيل، تراجع حزب "أغودات يسرائيل"، الذي يشكل الذراع السياسية للحريديم الليتوانيين، عن الموقف من الدولة، ووقع مندوب الحزب، الحاخام إسحق مئير ليفين، على "وثيقة استقلال إسرائيل"، وبعد توليه إحدى المناصب الوزارية. أما الحريديم من الشرقيين فقد تغير وضعهم بشكل جوهري بعيد صعود حزب الليكود إلى الحكم وتولي مناحيم بيغن رئاسة الحكومة.

مرة جديدة، أفلح اليمين الإسرائيلي في الاستفادة من القوى المختلفة المعادية للعلمانية الأشكينازية. فقد تمكن اليمين من تجيير الصوت الحريدي في الداخل بنحو كبير، والصوت الحسيدي في الولايات المتحدة من خلال عمل اللوبي اليهودي كقوة منظمة في واشنطن.

***

واشنطن، آذار 1954، كان لاقتراح مساعد وزير الخارجية الأميركية، هنري بايرود، على ناحوم غولدمان، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، في ضرورة أن يتحدث اليهود الأميركيين بصوت واحد مع البيت الأبيض ووزارة الخارجية، أثر كبير. فعقب هذا الاقتراح، نظم غولدمان وإيبا إيبان، سفير "إسرائيل" لدى الولايات المتحدة في حينه، وفيليب كلوتزنيك، رئيس جمعية "بناي بريث - أبناء العهد" (وهي أقدم منظمة يهودية أميركية)، تجمعاً ضم زعماء جميع المنظمات اليهودية الأميركية. أفضى هذا التجمع إلى تأسيس مؤتمر الرؤساء، الذي عُهد إليه بالعمل على رفع صوت اليهود الأميركيين إلى الإدارة الأميركية بشأن القضايا المتصلة بـ"إسرائيل".

واقع الأمر، لم يكن اللوبي الإسرائيلي في واشنطن ليبصر النور لولا نشاط الجماعات الحسيدية الليتوانية هناك. فمنذ مطلع العقد السادس من القرن الماضي، بدا أن ثمة منظمتين رئيسيتين هما لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (American Israel Public Affairs Committee) ومؤتمر رؤساء كبرى المؤسسات الأميركية اليهودية/ مؤتمر الرؤساء (Conference of Presidents of Major American Organizations) قد بدأتا العمل على إحداث تغيير في سياسات الولايات المتحدة، وإن اقتصر دورهما بحدود مصالح الجماعات اليهودية على الأراضي الأميركية. وفيما ركزت اللجنة على الكونغرس، صرف مؤتمر الرؤساء تركيزه الى السلطة التنفيذية، ولا يزال تقسيم العمل هذا قائماً حتى يومنا الراهن.

بالتوازي مع عمل مؤتمر الرؤساء، كانت لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية تباشر عملها على يد إشعيا ليو سي كينن (Isaiah Leo "Si" Kenen) الصحافي الأميركي الكندي المولد. كان إشعيا قد عمل من قبل مديراً للجنة الطوارئ الأميركيةللشؤون الصهيونية خلال الحرب العالمية الثانية، ثم تولى منصب مدير معلومات الوكالة اليهودية في هيئة الأمم المتحدة بعيد الحرب قبل أن يصبح عضواً في أول وفد إسرائيلي لدى الأمم المتحدة عام 1949. عام 1954، شكل كينن (الذي انتابه القلق من إدارة الرئيس أيزنهاور التي نوَت فتح تحقيق مع المجلس الصهيوني الأميركي الذي رأسه، من قبل، بعدما تبادر إلى أيزنهاور قيام المجلس بأنشطة ضغط تخالف وضعه كمؤسسة معفاة من الضرائب) لجنة الشؤون العامة الأميركية الصهيونية بصفتها جماعة ضغط محلية مستقلة الأمر الذي يسّر له المشاركة في عدد غير محدود من حملات الضغط في أروقة الكونغرس. عام 1963، غيّر كينن اسم المنظمة إلى لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية الـ(AIPAC)من أجل استقطاب مزيد من الزعماء اليهود الأميركيين من غير الصهاينة.

تمثلت المهمة الرئيسية للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية – الآيباك، منذ تأسيسها في منتصف الخمسينيات، في تعزيز العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل وتوطيد دعائمها.

ما بين الخمسينيات والستينيات اقتصر عمل الآيباك على ممارسة الضغط من أجل تقديم المساعدات الإقتصادية لـ"إسرائيل" وإبرام صفقات بيع الأسلحة معها، والسعي إلى منع مبيعات الأسلحة الأميركية للدول العربية. لكن ما لم يكن في وسع كينن هو أن يقنع إدارة أيزنهاور ببيع الأسلحة لإسرائيل، لأن أيزنهاور كان قلقاً من إثارة سباق تسلح في الشرق الأوسط، فيما أراد للولايات المتحدة أن تبقى على مسافة واحدة من "إسرائيل" والعرب تفادياً لدفع الدول العربية إلى المعسكر السوفياتي.[2]

ومع ذلك، لم تنشط جماعات الضغط الأميركية حتى فترة الثمانينيات. وبالرغم من خسارتها رهان منع ريغان بيع طائرات نظم الإنذار المبكر (الأواكس) للمملكة العربية السعودية عام 1981، حيث باءت محاولات الآيباك ومؤتمر الرؤساء والمجلس اليهودي للشؤون العامة بالفشل، إلا أن لجنة الشؤون العامة سجلت نجاحاً في إقناع مجلس النواب بمعارضة صفقة بيع هذه الطائرات بالرغم من مصادقة مجلس الشيوخ عليها. لقد خسر اللوبي الإسرائيلي رهانه بمنع الصفقة لكنه نجح في إثبات قدراته بالنسبة للنواب الأميركيين، فأصبح منذ ذلك الحين قوة يُحسب لها الحساب.

عززت القوة المتنامية للآيباك، خلال حقبة الثمانينيات، عمل لجان العمل السياسي التي نشأت وازدهرت بسبب التعديلات التي جرت على قوانين تمويل الحملات. فقد ظهر تأثير هذه اللجان للمرة الأولى في انتخابات الكونغرس عام 1980. في هذا العام تحديداً، ساعدت الأموال التي جمعتها لجان العمل السياسي في إلحاق الهزيمة بالنائب بول فيندلي (كان واحداً من أبرز منتقدي “إسرائيل” في الكونغرس). أما في انتخابات 1984، فقد سجلت لجان العمل السياسي الموالية "لإسرائيل" انتصاراً أكبر بعدما ألحقت الهزيمة بالسيناتور تشارلز بريس، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، الذي أيّد بيع طائرات متقدمة للعربية السعودية.

هكذا، صار عمل لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية مقنعاً للحكومتين الإسرائيلية والأميركية على حد سواء. ما جعل اللجنة تتحول من جماعة ضغط صغيرة في واشنطن مطلع الثمانينيات، إلى منظمة مستقلة وكبيرة تضم عدداً هائلاً من الأعضاء أوائل التسعينيات.

وبالرغم من العلاقات التي أقامها توماس داين (رئيس الآيباك بين عامي 1980 و1993) مع أعضاء الكونغرس وكل من وزارة الخارجية والدفاع والتجارة الأميركية، إلا أن نجاحه لم يكن نتيجة جهوده وحده، فقد قام واضعو السياسات من الأميركيين والإسرائيليين بدور بارز في هذا المجال.

واقع الأمر، فضلت إدارة ريغان التعامل مع لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية على التعامل مع الجماعات اليهودية الأميركية الأخرى ذات التوجه الوسطي والتي كانت تعارض إدارة ريغن في جملة من القضايا الخاصة بأميركا. وعلى هذا المنوال، فضل إسحاق شامير والليكود عموماً اللجنة ومؤتمر الرؤساء على غيرهما من المنظمات اليهودية التي كانت تنتهج نهجاً أكثر ديمقراطية.

بحلول نهاية الثمانينيات كان ثمة العشرات من لجان العمل السياسي التي تدين بالولاء لإسرائيل. ولم يكن اللوبي الصهيوني ليخسر أياً من معاركه على الإطاق، إلا مع حلول خريف عام 1991، عندما قفت لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية ومؤتمر الرؤساء في وجه إدارة الرئيس جورج بوش الأب في قضية ضمانات القروض الأميركية التي منحت لإسرائيل.

في الحقيقة، شكل سقوط الاتحاد السوفياتي لحظة من لحظات الافتراق الإسرائيلي الأميركي. فلقد أرادت إدارة بوش الأب تأخير موافقة الكونغرس على الطلب إسرائيلي بإقراضها 10 مليارات دولار أملاً في استيعاب تل أبيب للمهاجرين الجدد إليها من الاتحاد السوفياتي. قرنت إدارة بوش المساعدة بوقف حكومة شامير بناء المستوطنات في أراضي عام 1967.

وبالرغم من الكباش السياسي في أروقة القرار الأميركي بين اللوبي الصهيوني وإدارة بوش الأب، فقد نجح بوش في نهاية المطاف في تأخير ضمانات القروض حتى وصول رابين إلى سدة الحكم في "إسرائيل".

لم تمر الأزمة تلك بشكل هادئ في تل أبيب ولا في واشنطن، فقد أحدثت الأزمة تصدعات في جبهة اللوبي الموالي "لإسرائيل" عندما أعلنت منظمة "أميركيون من أجل السلام الآن" عن دعمها لإدارة الرئيس بوش التي علقت تلك الضمانات. كانت تلك هي المرة الأولى التي تنشطت فيها منظمة يهودية أميركية لممارسة الضغوط على الحكومة الإسرائيلية انتصاراً لخيارها الأميركي. بمعنى آخر، مثّل ذلك، على الرغم من عدم أهميته السياسية في حينه، نقطة تحول في تاريخ اللوبي الموالي لإسرائيل.

انطلاقاً من تلك اللحظة، كان اللوبي الإسرائيلي يفقد وحدته ورسالته المشتركة عند كل تحد جديد. وعوضاً عن العمل المتضافر في سبيل تعزيز الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل، بات اللوبي المؤيد لإسرائيل يشهد قدراً متزايداً من الفرقة والتشرذم، حيث انقسم إلى طائفة من الجماعات التناحرة التي تعتمد توجهات وبرامج سياسية ينافس بعضها بعضاً.

عملية أوسلو عام 1993 هي الأخرى، كانت قد أفضت إلى مزيد من التشرذم داخل اللوبي الموالي لإسرائيل. لقد شهد اللوبي انقساماً حاداً بشأن عملية السلام. وبينما مارست جماعات اليسار والوسط، كمنظمة "أميركيون من أجل السلام الآن" و"منتدى سياسات إسرائيل" الضغط لتأييد عملية السلام، عمدت جماعات يمينية على شاكلة المنظمة الصهيونية الأميركية إلى ممارسة الضغط لمناهضة السلام وتأييد السياسات الإسرائيلية اليمينية.

أظهرت المنظمة الصهيونية الأميركية ميولاً يمينية في ظل قيادة "مورتون كلاين - Morton Klein" المعارض لاتفاقية أوسلو علانية. كما لم تعارض المنظمة الصهيونية الأميركية سياسة حكومة رابين فحسب، بل سعت إلى توظيف الكونغرس الأميركي لتعطيل عملية السلام من خلال محاولاتها وقف المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس.

عام 1994، مثلاً، كان النجاح من نصيب المنظمة الصهيونية الأميركية والإتحاد الأرثوذكسي وبعض الجماعات المسيحية الإنجيلية المؤيدة لإسرائيل في الضغط على الكونغرس لكي يمرر التعديل الذي طرحه سبيكتر وشيلبي (على قانون تيسير عملية السلام في الشرق الإوسط) لسنة 1994، وربط المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة للسلطة الفلسطينية بالتزام هذه السلطة بكامل التزامات أوسلو (وقد عارضت حكومة رابين هذا التعديل).

في العام التالي، ضغطت المنظمة الصهيونية الأميركية، لإقناع الكونغرس بالإمتناع عن منح السلطة الفلسطينية 500 مليون دولار من المساعدات. فيما كان نشاط المنظمة يثير امتعاض رابين نفسه.

أما لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية فقد أبدت دعماً فاتراً لعملية أوسلو، أو لِنقُل دعماً اعتراه التردد في أحسن الأحوال. فحسبما جاء على لسان نيل شير، المدير التنفيذي للجنة بين عامي 1994 و1996، كان إجبار اللجنة على دعم عملية أوسلو وما أرادت الحكومة الإسرائيلية أن تُقدم عليه أشبه بعملية خلع الأسنان بالمطرقة.

أواخر التسعينيات، ومع انهيار عملية أوسلو، ووسقوط إيهود باراك في "إسرائيل" استرجعت كل من لجنة الشؤون العامة الأميركية، ومؤتمر الرؤساء، دوارهما بقدر أكبر من الإريحية. فما عاد يتعين على أعضاء اللجنة ولا المؤتمر أن يروجا لعملية سلام كانوا منقسمين بشأنها. وعوضا عن ذلك، بات في وسع هذه القيادات أن تلقي بكامل ثقلها في دعم الجهود التي تبذلها “إسرائيل” لقمع الفلسطينيين.

تولت اللجنة ومؤتمر الرؤساء زمام القيادة مرة أخرى في حشد دعم اليهود الأميركيين وحكومة الولايات المتحدة لصالح "إسرائيل"، وحظيتا بانبعاثة من الدعم والمساندة. فشهدت التبرعات التي قدمت للجنة زيادة معتبرة عقب انطاق شرارة الإنتفاضة الثانية، وارتفع عدد أعضائها من 55000 عضو إلى 85000 عضو خلال سنوات هذه الانتفاضة.

ومع ذلك، لم يدم إحساس الوحدة بين الجماعات الأميركية طويلاًَ، إذ سرعان ما طفت الإنقسامات على السطح من جديد. ففي نيسان من العام 2002، وفي ذروة الإنتفاضة الثانية، شكلت مجموعة من اليهود الأميركيين ذوي الميول اليسارية منظمة جديدة عُرفت باسم "بريت تصيدق فشالوم - التحالف من أجل العدالة والسلام" بغية ممارسة الضغط على أعضاء الكونغرس لاستئناف عملية السلام وإنفاذ حل يرتكز على حل الدولتين.

أطلقت المنظمة، في العام التالي، حملة للتوقيع على لائحة تدعو إلى منح المستوطنين اليهود في الضفة الغربية حوافز مالية لحملهم على العودة إلى أراضي عام 1948، كما دشنت المنظمة حملة عُنيت بدعم اتفاق جنيف، في معارضة صريحة لحكومة شارون وسياساتها.

تفاقمت الخلافات بين أوساط اللوبي الموالي لاسرائيل بعدما خبت جذوة الإنتفاضة الثانية، وصارت أكثر بروزاً. فقد أفضت خطة الإنسحاب الأحادي الجانب التي وضعها رئيس الوزراء شارون عام 2005، إلى انقسام هذا اللوبي بين التيارين المعروفين، حيث عارضت جماعات التيار اليميني هذه الخطة بشدة بينما أيدها أنصار التيار اليساري. ومرة أخرى، شهدت لجنة الشؤون العامة الأميركية اليهودية ومؤتمر الرؤساء انقسامات داخلية حيال فك الإرتباط عن قطاع غزة، مع أن كلتا المنظمتين أعربت عن دعمها لها وتأييدها في نهاية المطاف.

كان الأمر يعود مجدداً للتوتر في كل مرة تطرح فيها الحكومة الإسرائيلية عنواناً للحوار مع الفلسطينيين. حصل ذلك بعيد محادثات أنابوليس، في تشرين الثاني 2007. وفي كل مرة راهنت فيها الإدارة الأميركية على تقارب إسرائيلي فلسطيني. الأمر الذي طرح سؤالاً واسعاً لدى نخب أكاديمية عدة في أميركا: هل بات اللوبي الصهيوني عبءاً على السياسة الخارجية الأميركية نفسها؟.

كانت حرب تموز في لبنان، وما تبعها من تأثيرات وتداعيات تطرح الكثير من الأسئلة لدى المراقبين، وحتى داخل الساحة اليهودية الأميركية. منظمة "جي ستريت" التي ولدت في نيسان 2008، كانت واحدة من الإجابات الواقعية على تلك الأسئلة. لقد وصفت "جي ستريت" نفسها بأنها "البيت السياسي للأميركيين الذين يناصرون “إسرائيل” ويؤيدون السلام". كما سعت هذه الجماعة، بحسب مؤسسها جريمي بن عامي إلى إعلاء صوت الانتقاد عالياً. ثمة وجهة نظر أخرى بات يستشعرها اليهود الأميركيون. فطريق اليمين لم يعد مربحاً بالنسبة للكثيرين منهم.

لقد تميز عمل "جي ستريت" عن أسلافها منذ أدركت الارتباط الوثيق بين تمويل الحملات والنفوذ السياسي، فجمعت لجنة العمل السياسي التابعة للمنظمة، في غضون شهور من إنشائها، مبلغاً قدره 570000 دولار لصالح 41 مرشحاً لعضوية الكونغرس الأميركي بحلول موعد الإنتخابات الأميركية في تشرين الثاني 2008.[3] كان ذلك يفوق جهد أي لجنة أخرى من لجان العمل السياسي المؤيدة لإسرائيل في عموم أنحاء البلاد، مما حدا بصحيفة الواشنطن بوست إلى وصف اللجنة التابعة لمنظمة جي ستريت بأنها اللجنة الرائدة من لجان العمل السياسي المنارصة لإسرائيل في واشنطن.[4]

واقع الأمر كانت "جي ستريت" تعبيراً صارخاً عن فقدان ثقل الآيباك واهتزاز نفوذه في أميركا. "جي ستريت" كانت تعبيراً بأن الصوت الذي ينطق به معظم اليهود الأميركيين قد ضاق ذرعاً من "الـ8%" من ذوي الصوت الأعلى منهم؛ أولئك الذين يتسمون بالعناد وينتمون إلى تيار اليمين ويدعمون "إسرائيل" بلا انتقاد يذكر. ستتعاظم أسئلة "جي ستريت" ما بعد طوفان الأقصى، كما ستتعاظم انقساماتهم حول آلية التعاطي مع المسألة اليهودية برمتها. والأكيد، أن انقساماً حاداً كان قد ابتدأ في "إسرائيل"، قبل عقود، سرعان ما سيمتد إلى كامل حضور الطيف اليهودي في العالم، وأن يهود الولايات المتحدة لن يكونوا بعيدين عنه بعد اليوم.


[1]ترأس التيار الحريدي الأشكينازي الحاخام يوسف شالوم إلياشيف حتى عام 2012. وبوفاته حصل انشقاق في التيار الليتواني إلى اتجاهين، مثل أحدهما (جناح الأغلبية) الحاخام أهارون شطاينمان، الذي يعتبر "معتدلاً" نسبياً، ويقود حزب "ديغل هتوراه" (الذي اتحد، لاحقاً، مع حزب "أغودات يسرائيل" في إطار حزب واحد هو "يهدوت هتوراه")؛ وجناح الأقلية ("الجناح المقدسي") بزعامة الحاخام شموئيل أويرباخ، الذي يعتبر متشدداً في معارضته تجنيد الشبان الحريديم لتأدية الخدمة العسكرية في الجيش ويعلي من معارضته لتأهيلهم المهني ودمجهم في سوق العمل، لأن ذلك يمنعهم من تكريس وقتهم وجهدهم لدراسة التوراة.
[2]أحداث عام 1957، لا سيما في الأردن وسورية ولبنان، مضافة لاقتراب عبد الناصر من إنجاز صفقة تسلحه الأكبر من تشيكيا عام 1958، جعلت الإدارة الأميركية أكثر تقبلاً لدعم "إسرائيل" ومساندتها شيئاً فشيئاً... كانت صواريخ الهوك أول مبيعات الأسلحة الأميركية لإسرائيل في عهد إدارة الرئيس كنيدي، عام 1962، بعدما أمد السوفيات مصر بقاذفات بعيدة المدى. لكن الحدث الأضخم كان حرب حزيران 1967. بالنسبة لواضعي السياسة الأميركيين، رفعت حرب 1967 القيمة الإسراتيجية لتل أبيب بالنسبة للأميركيين. ونتيجة لذلك، أُبرمت صفقة أسلحة تاريخية أخرى بين الولايات المتحدة و"إسرائيل"، باعت فيها إدارة الرئيس جونسون طائرات مقاتلة نفاثة من طراز "F-4" فانتوم لتل أبيب. وسجلت أكبر زيادة في مبيعات الأسلحة الأميركية لإسرائيل في حقبة السبعينيات من القرن الماضي في عهد إدارة الرئيس نيكسون، حيث كان نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر يعتقدان بأن المساعدات العسكرية التي تقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل تخدم المصالح الإسراتيجية الأميركية في خضم الحرب الباردة. بمعنى آخر كان دعم الكيان الصهيوني راجعاً لاعتبارات استراتيجية تخص الولايات المتحدة، ولم يكن سببها "حملات الضغط الموالية لإسرائيل" من قبل لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية، على الرغم من جهود الأخيرة الكبيرة في تأمين دعم الكونغرس لمبيعات الأسلحة الأميركية لإسرائيل.
[3]على النقيد من جي ستريت تنمو جماعة اللوبي المسيحي الإنجيلي الموالي لإسرائيل، من خلال منظمة "مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل". فقد أنشئت هذه المنظمة في العام 2006 على يد الأب جون هاغي، في جنوب شرق تكساس. ويدعي هاغي أن عدد أعضاء منظمته سجل عدداً مذهلاً قارب ثمانية ملايين عضو - وهو عدد يفوق تعداد السكان اليهود الأميركيين كلهم - مما يجعل هذه المنظمة أكبر المنظمات الموالية لإسرائيل في الولايات المتحدة قاطبة اليوم (وأكبر بشوط بعيد من لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية، التي تجمعها علاقة وثيقة بها). ولم يقف الأمر عند النمو الهائل الذي شهدته منظمة مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل، بل تعاظم نفوذها السياسي أيضاً. فخلال فترة رئاسة دونالد ترامب، كانت المنظمة تتمتع بقدرة لم يسبق لها مثيل على الوصول إلى البيت الأبيض والتأثير فيه. وقد تجلى ذلك في أوضح صوره عندما أصدر الرئيس ترامب قراره الذي أثار الجدل والخلاف بشأن الإعتراف بالقدس باعتبارها عاصمة “إسرائيل” ونقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس. وعندما منح رئيس المنظمة مباركته في الحفل الرسمي لافتتاح السفارة الأميركية في القدس في أيار 2018.
[4]منحت هذه اللجنة المزيد من الأموال في الإنتخابات اللاحقة. وسرعان ما تحولت بفضل قدراتها المالية الهائلة إلى جماعة الضغط الرائدة التي تؤيد “إسرائيل” في تيار يسار الوسط. ففي غضون بضع سنوات، تحولت هذه المنظمة من كونها منظمة ناشئة صغيرة، لم يكن ملاك طاقمها يزيد عن أربعة موظفين متفرغين، إلى طرف فاعل رئيسي في اللوبي الموالي لإسرائيل. وزادت موازنتها التشغيلية من نحو 1.5 مليون دولار في العام 2008 إلى ما يقرب من 7 ملايين دولار في العام 2012. ومنذ ذلك الحين، لا تزال منظمة جي ستريت تتنامى وتتمدد، حيث تستقطب المزيد من المؤيدين وتجمع قدراً أكبر من الأموال وتؤيد عدداً أكبر من المرشحين لعضوية الكونغرس.

 

رئيس تحرير صحيفة الخندق