Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

ثمة مشاكل قانونية حول ثروات بحر قزوين كانت قد تفجرت بين الدول المتشاطئة البحر منذ نهاية الحرب الباردة عام 1991. ولم تكن المشاكل منحصرة قط في ترسيم قاع البحر، بل وأيضا في مسألة الترسبات الهيدروكربونات الكبيرة الموجودة على جرفه. ومن البداية ضهر طرحان أو ثلاث لعلاج المسائل العالقة

هيئة التحرير

قزوين؛ ما وراء القوقاز

"

هو أحد أكبر المسطحات المائية الغنية بالطاقة عالمياً. تدور حول شواطئه معارك لا تُسمع إلا في أروقة القرار وغرف صناع السياسة، وفيه ترسم علاق القوى الآسيوية ببعضها البعض. هو بحر قزوين والمعضلة التي انتظرت أكثر من اثنين وعشرين عاماً لكي تسوى، فما هي حكاية قزوين ومشاكله؟

يشكل بحر قزوين أحد أكبر المسطحات المائية المغلقة على الأرض.إذ يمتد على مساحة تبلغ 371 ألف كلم2، فيما يبلغ طوله 1200 كلم، وعرضه 300 كلم، وعمق يصل إلى 1023 متراً. وبثرواته الداخلية، يشكل كنزاً للدول المشاطئة له وذخراً لمستقبلها. وعلى الرغم من المشاكل التقنية والسياسية الكبيرة حوله، إلا أن ثرواته المختلفة تفتح آفاق المشاركة بين الدول المحيطة به بدلاً من الصدام المباشر. يلعب قزوين دور خزان الطاقة الاستراتيجي في آسيا الوسطى، ويضم ثالث أكبر احتياطي عالمي من النفط والغاز، بما يوازي ثلث احتياطي النفط في منطقة الشرق الأوسط. كما يحتل البحر المرتبة الرابعة بعد روسيا وإيران وقطر بحجم احتياطاته من الغاز الطبيعي، والتي تقدر بنحو 6 إلى 7% من الاحتياطيات العالمية من الغاز. تختلف التقديرات حول احتياطاته، إلا أن غالبها يؤكد وجود أكثر من 80 مليار برميل نفط قابل للاستخراج من بحر قزوين، ما يجعل دور البحر ووظيفته أكبر من حجمه بأضعاف.

إلا أن ثمة مشاكل قانونية حول ثروات بحر قزوين كانت قد تفجرت بين الدول المتشاطئة البحر منذ نهاية الحرب الباردة عام 1991. ولم تكن المشاكل منحصرة قط في ترسيم قاع البحر، بل وأيضا في مسألة الترسبات الهيدروكربونات الكبيرة الموجودة على جرفه. ومن البداية ضهر طرحان أو ثلاث لعلاج المسائل العالقة، تبنت كل من آذربيجان وكازاخستان وتركمانستان الطرح الأول، والقاضي بتحديد حصة ثروة كل دولة مطلة على بحر قزوين من خلال طريقة "الخط الوسط المعدل" (خط تكون كل نقطة فيه على مسافة متساوية من أقرب النقاط المقابلة على سواحل هذه الدول) ما يحرم إيران وروسيا الاستفادة من أية احتياطات كبيرة من ثروات البحر؛ إذ تكمن معظم هذه الاحتياطيات في القطاعين الشمالي والأوسط من البحر، أي في مياه كازاخستان وأذربيجان.. أما  إيران، فقد أصرت على الحفاظ على مبدأ الملكية المشتركة، باعتباره بحيرة، ليتم تقسيم البحر إلى خمسة قطاعات متساوية (20٪ لكل منها)، رافضة بشكل قاطع الاتفاقيات الثنائية والطرح الأول. وما بين الطرحين، كان لروسيا رأيها القاضي بترسيم أعماق بحر قزوين دون تقسيم منطقتها المائية. وظل هذا النزاع مخيماً على أفق استثمار ثروات قزوين حتى عام 2018، عندما وقعت الدول المتشاطئة اتفاقاً في العاصمة الكازاخية آستنا، يقضي باعتبار المنطقة الرئيسية لسطح مياه بحر قزوين متاحة للاستخدام المشترك للأطراف كافة، فيما تُقسم الدول الطبقات السفلية وما تحت الأرض إلى أقسام متجاورة بالاتفاق في ما بينها على أساس القانون الدولي. وتتم عمليات الشحن والصيد والبحث العلمي ووضع خطوط الأنابيب الرئيسية وفقاً للقواعد المتفق عليها بين الأطراف عند تنفيذ مشاريع بحرية واسعة، مع مراعاة العامل الإيكولوجي. وحددت الاتفاقية أيضا الحكم المتعلق بمنع وجود قوات مسلحة للقوى الأجنبية الإقليمية والدولية في بحر قزوين، وتحدد الدول الخمس لبحر قزوين المسؤولة عن الحفاظ على الأمن البحري وإدارة موارده.

إلا أن حل المشاكل القانونية لم يحل دون مشاكل أخرى. إذ ثمة هواجس وتحديات أمنية يفرضها الموقع الجغرافي لقزوين. فالبحر يقع على خط طرق التجارة البرية مستقبلاً ما يجعل منه ساحة تنافس إقليمي ودولي. في جغرافيا السياسة القزوينية، يظهر التنافس على أشده بين كل من روسيا، الصين، والولايات المتحدة الأميركية. تتنافس هذه الدول بشكل رئيس على احتواء الدول المطلة على البحر، وتحاول بشكل حثيث السيطرة على إنتاج النفط والغاز الطبيعي فيها، أو التحكم بخطوط تصدير الطاقة منها إلى الأسواق العالمية.

ويظهر أن لقزوين، أهمية استثنائية إيرانية. إذ يشكل موقع إيران الجغرافي ميزة تجعل من إيران الطريق الأقرب والأكثر أمنًا والأقل تكلفة والأوفر لتصدير نفط وغاز دول بحر قزوين إلى أسواق آسيا والأسواق العالمية الأخرى. فطهران تستطيع بأقل تقدير نقل منتجات كازاخستان وتركمانستان من النفط والغاز إلى العالم. وهو ما تخشاه الولايات المتحدة، التي تسعى إلى عزل إيران ومنعها من مد نفوذها في وسط آسيا بشكل حاسم.

  • مواقف الدول الإقليمية والدولية من النزاع:

مع تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991 بدأ التنافس على حوض بحر قزوين بين ثلاث قوى دولية وإقليمية كبيرة: الولايات المتحدة الأميركية، روسيا، وإيران، وكانت غاية كل من هذه الدول نيل حصة من سوق النفط والغاز القزويني، وملء الفراغ الإستراتيجي في الجمهوريات السوفيتية السابقة. اشتد هذا التنافس في العقد الماضي بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، بسبب زيادة الطلب على الطاقة من الصين، واحتياج السوق الأوروبي المتنامي، والذي عانى من توقف إمدادات الغاز الروسي بعد الخلافات الروسية الأوكرانية. الأمر الذ جعل كلاً من الدول المتنافسة على القوقاز، تعيد ترسيم سياساتها واستراتيجياتها كلٌ وفق أولوياته التي نعرضها في التالي:

  • بالنسبة للولايات المتحدة

سارعت أميركا ومن ورائها دول الاتحاد الأوروبي والكيان الصهيوني إلى خوض الصراع من خلال ثلاث جبهات:

الأولى: الجبهة الاقتصادية بهدف بناء شبكة من الأنابيب لنقل النفط والغاز إلى أوروبا، دون المرور بالأراضي الروسية أو الإيرانية. وقد موّلت الولايات المتحدة إنشاء خط أنابيب جديد لنقل الطاقة لا يمر بالأراضي الروسية بدءاً من العاصمة الآذرية باكو مروراً بالعاصمة الجورجية تبليسي وانتهاءاً في ميناء جيهان التركي على البحر الأبيض المتوسط. وقد بدأ هذا الخط بالعمل في العام 2006. كما سعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتوسيع شبكة الأنابيب هذه لتتمكن من نقل النفط والغاز من ميناء أكتاو في كازاخستان عبر بحر قزوين باتجاه باكو؛ لكن الأمر لا زال معلقاً بانتظار الموافقة القانونية لكل من روسيا وإيرن.

الثانية: استخدام ورقة السياسة والدبلوماسية لبناء تحالفات مع الدول الثلاث الجديدة (كازاخستان، تركمانستان، آذربيجان) التي ظهرت على شواطئ بحر قزوين بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، مستفيدة من رغبة هذه الدول في الخلاص من السيطرة الروسية، ومن خلافاتها مع إيران كذلك. وقد استغلت الولايات المتحدة الخلاف بين إيران وأذربيجان فدفعت باستثمارات هائلة تعدت العشرين مليار دولار في قطاع النفط في آذربيجان وحدها، حتى تحثها على الاستمرار في موقفها المضاد لإيران حول تقسيم ثروات البحر.

الثالثة: الحضور العسكري المباشر؛ إذ أقامت أميركا قواعد عسكرية في المنطقة الممتدة ما بين البحر الأسود وحدود الصين. مدخلة بحر قزوين في قائمة أولويات سياستها، من خلال دعم جيوش دول الاتحاد السوفياتي السابق هناك، وبشكل خاص آذربيجان، كازاخستان، وتركمانستان"، واعتبار آذربيجان نقطة انتشار للقواعد والقوات العسكرية الأميركية في القوقاز، ولما لباكو من الأهمية في موقعها على الحدود الشمالية لطهران.

  • بالنسبة لروسيا

تنظر موسكو للقوقاز باعتباره جزءًا من حدودها الطبيعية، وتعتبر الحضور الأميركي في هذه المنطقة الاستراتيجية تهديداً لمكانتها وأمنها ومحاولة لتطويقها. ولهذا السبب تدعم موسكو مواقف أذربيجان وكازاخستان في خلافهما مع إيران. كما تحاول احتواء الدور الصيني هناك. تمثلت هذه السياسة بشكل كبير وصريح في قرارات موسكو التي فرضتها عشية القمة الخامسة لدول بحر قزوين عام 2018. إذ استطاعت روسيا فرض مقاربتها لمعضلة التقسيم القانوني لثروات بحر قزوين من خلال تقسيم قانوني ثنائي للبحر وثرواته (بجعل المنطقة الرئيسية لسطح مياه قزوين متاحة للاستخدام المشترك لدول الحوض، فيما تقسم الطبقات السفلية من البحر وما تحت الأرض إلى عدة أقسام متجاورة بالاتفاق في ما بين الدول على أساس القانون الدولي).

تحاول موسكو هنا الاستفادة من شبكة الأنابيب السوفيتية القديمة التي ظلت القناة الرئيسية لتصدير الطاقة من وسط آسيا حتى فترة قريبة. كما وتحاول لعب دور الوسيط بين دول الحوض وأوروبا، من خلال مدها أنابيب الطاقة التي تقل النفط نحو البحر الأسود. ويشكل خط أنابيب بحر قزوين الذي ينقل النفط من كازاخستان إلى ميناء نوفوروستيسك على البحر الأسود في روسيا ومنه إلى أوروبا واحداً من هذه المشاريع.

  • بالنسبة للصين:

ترسخ مصالح الصين في منطقة بحر قزوين "استراتيجية طريق الحرير" التي تتبعها تجاه الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا. هي كثفت على مدى السنوات الماضية استثماراتها في الدول المتشاطئة لبحر قزوين، وخاصة في كازاخستان وتركمانستان ومن ثم في إيران، وذلك من خلال مشروعين أساسيين للبنية التحتية هما، خط أنابيب النفط "كازاخستان – الصين" وخط أنابيب الغاز "تركمانستان - الصين"، والمعروف باسم خط أنابيب الغاز "آسيا الوسطى – الصين".

يبدو أن للصين أهدافاً ثلاثة واسعة النطاق في تلك منطقة هي: 1- توفير الأمن للمنطقة وإرساء الإستقرار في اقليم شينجيانغ (أو تركستان الصينية). 2- الوصول إلى الموارد الطبيعية. 3- توطيد النفوذ السياسي لكي تصبح بكين ذات هيمنة إقليمية من خلال إطار "منظمة شنغهاي للتعاون". ويشكل ذلك جزء من مكونات "استراتيجية طريق الحرير" الكلية التي تتبعها الصين لتنويع الاعتماد على الطاقة بعيداً عن منطقة الخليج غير المستقرة، وبناء مسارات برية لتجنب عراقيل الإمداد البحري.

وعليه تسعى بكين إلى تدعيم "منظمة شنغهاي للتعاون" من أجل المشاركة والتعاون في مجال الطاقة، ومن أجل العمل مع روسيا على ضم تركمانستان وإيران للمنظمة بما يعزز تعزيز التكامل الإقليمي. سيؤدي ذلك بالنسبة للصين إلى زيادة تشجيع تكامل مشاريع البنية التحتية و"إمكان بناء خط أنابيب النفط المقترح من كازاخستان عبر تركمانستان وصولاً إلى إيران من خلال منظمة شنغهاي للتعاون. كما تأمل الصين أن تغادر القوات الأمريكية المنطقة لكي تتمكن من ملء فراغ القوة دون الدخول في أي تحد مع روسيا.

  • بالنسبة لإيران

تمثل آسيا الوسطى مجالاً حيوياً لإيران، ولاشك في أن تفكك الاتحاد السوفيتي واستقلال دوله الإسلامية التي ترتبط بإيران بعلاقات ثقافية وتاريخية، كان بمثابة الفرصة لطهران لكي تتجاوز الحصار والعقوبات المفروضة عليها. إلا أن الأمور لم تسر كما تشتهي طهران. إذ تعقّدت العلاقات الدبلوماسية بين كل من إيران وكازاخستان، وإيران وآذربيجان، واستمرت بين مد وجزر.

وتعي طهران أن ثمة حاجزين كبيرين يحولان دون لعب إيران دوراً كبيراً في وسط آسيا هما: روسيا وأميركا، اللتان تمنعان  أي تنام للعلاقات بين إيران وجيرانها من الدول الإسلامية. لكنها تعي أيضاً أن العقوبات المفروضة على روسيا من قبل الولايات المتحدة والغرب، فضلاً عن التوتر المتصاعد بين كل من بكين وواشنطن سيزيدان من فرص الحضور الإيراني في وسط آسيا، ومن تقليل حجم الهوة بين القوى المختلفة في وسط آسيا.

فضلاً عما سبق، تتوقع إيران أن يؤدي تضاعف الطلب على النفط ومنابع الطاقة خلال الثلاثين عاماً المقبلة، إلى زيادة أهمية دورها في إقليم بحر قزوين. صحيح أن منطقة قزوين لن تكون منافساً رئيسياً للمنطقة الخليجية، لكنها ستلعب بالتأكيد دوراً كبيراً في تنويع مصادر الإنتاج، وهو ما تشجعه الدول الغربية المستهلكة للطاقة.

في المقابل، فإن سيناريو تنامي النفوذ الصيني في منطقة بحر قزوين هو أمر مرضٍ لإيران، التي تشهد علاقاتها بالعملاق الصيني تطوراً مطّرداً، في ظل استراتيجية متكاملة لآسيا، تسعى طهران لتثبيت دعائمها المرتكزة على رفض المحاولات الأميركية الرامية إلى السيطرة على وسط  آسيا.

 

"

صحيفة الخندق