Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

مؤخراً، تتردّد أصداء توسّع النفوذ الصيني، فيما بات يُعرف بخطاب 'التوجّه شرقاً'"، وهو انعكاس المرحلة الانتقالية التي يشهدها العالم ومنطقتنا إثر انهيار منظومة القطب الواحد. وكأيّ تغييرٍ جذريّ في التاريخ، يفتح صعود الصين باب الأسئلة المصيرية التي وجب على الشعب الفلسطيني خوضها على طريق حربه للتحرّر والتحرير."

نضال خلف

فلسطين والصين: متى نبدأ المسير؟

"

مؤخراً، تتردّد أصداء توسّع النفوذ الصيني، فيما بات يُعرف بخطاب "التوجّه شرقاً"، وهو انعكاس المرحلة الانتقالية التي يشهدها العالم ومنطقتنا إثر انهيار منظومة القطب الواحد. وكأيّ تغييرٍ جذريّ في التاريخ، يفتح صعود الصين باب الأسئلة المصيرية التي وجب على الشعب الفلسطيني خوضها على طريق حربه للتحرّر والتحرير. فيما يلي نستعرض تطوّر الدور الصيني في القضيّة الفلسطينية في محاولةٍ للإجابة على السؤال الأبرز: كيف نستفيد من الصعود الصيني القادم؟ ومتى نبدأ مسيرنا الثوري؟

المرحلة الاولى: الثورة والاندفاع

تزامن إنشاء الكيان الصهيوني وتصاعد حدّة القضية الفلسطينية مع تثبيت جمهورية الصين الشعبية أقدامها بقيادة الزعيم ماو تسي تونغ، مقابل أفول مشهد "حكومة تايوان" إقليمياً ودوليّاً. وعلى الرغم من المحاولات الصهيونية المُبكرة لكسب القيادة الصينية الجديدة، تمسّكت جمهورية الصين الشعبية بنظريّة "المنطقة الوسيطة" التي أطلقها الزعيم ماو عام 1946 في تحديده لموقف الصين من الصراع الدائر في غربي المتوسّط.انطلاقاً من نظرية "المنطقة الوسيطة"، تبنّت الصين القضيّة الفلسطينية كمعركة للتحرّر من الاستعمار، وهو ما عبّر عنه المندوب الصيني في الأمم المتحدة، تشياو كان - ها، عام 1971 حين أعلن بأنّ "حكومة الصين وشعبها يقدّمان الدعم المُطلق وغير المشروط للشعب الفلسطيني والشعوب العربية الأخرى في مواجهة الاعتداءات التي تتعرّض لها. ونحن على قناعة بأنّ الحفاظ على النضال والوحدة سيمكّن الشعب الفلسطيني البطل والشعوب العربية من استرجاع أراضيها واستعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه الوطنية."كانت الصين أوّل دولة غير عربية تعترف بمنظّمة التحرير الفلسطينية عام 1964، وقد تصاعد التبنّي الصيني للقضية الفلسطينية من تناغم الموقفين الرسمي والشعبي الداعمين لحقوق الشعب الفلسطيني، نحو آلية دعم مادي ومباشر للنشاط الثوري لمنظّمة التحرير. خلال اجتياح عام 1982، استولت "إسرائيل" على وثائق عسكرية وأمنية وتنظيمية تكشف حجم الدعم الصيني للقضيّة الفلسطينية. وبحسب ما تكشف صحيفة "هآرتس"، فإنّ الدعم العسكري الصيني لمنظمة التحرير انطلق في أوائل ستّينات القرن الماضي، وما بين عامي 1965 و1970، بلغ الدعم العسكري المباشر قيمة 5 مليون دولار (أي ما يوازي 33 مليون دولار اليوم). بالإضافة إلى ذلك، ساهمت معسكرات التدريب الصينية في رفع جاهزيّة ومهارة الكوادر الفدائية الفلسطينية. وعلى عكس الاتحاد السوفياتي والأنظمة العربية، انطلق الدعم الصيني لمنظمة التحرير من بوابة التكامل في معركة التحرر من الاستعمار، بعيداً عن الخطابات الإعلامية ومحاولات الابتزاز السياسي، وهو ما يؤكّده المؤرخ ليليان كريج هاريس في وصفه للمساعدات الصينية بأنّها "استثمار حقيقي في قضية ]الفلسطينيين[ الثورية."لكنّ الدعم الصيني للقضيّة الفلسطينية لم يقتصر على الجانب المادي، فقد ساهم الاحتكاك الصيني - الفلسطيني بتطوير النظرية الثورية الفلسطينية وتكتيكات حرب العصابات، وقد ظهر ذلك الأثر فيما بات يُعرف في "التيار الماوي" داخل حركة فتح، الذي تجسّد في عددٍ من المفكّرين من أمثال حنا ميخائيل (أبو عمر) والمجموعات الفدائية كالكتيبة الطلابية.

بالتالي، شكّل التبنّي الصيني للقضية الفلسطينية جزءاً من الاستراتيجية الصينية لمحاربة الامبريالية وتكامل نضال الشعوب المستعمَرة، وهو ما عبّر عنه الزعيم ماو عام 1965 أمام وفد منظّمة التحرير: "الإمبريالية تخاف من الصين والعرب. إسرائيل وفورموزا [تايوان] أساسان للإمبريالية في آسيا."المرحلة الثانية: الهزيمة والتوازن

خفت وهج الاندفاعة الصينية تجاه القضية الفلسطينية في منتصف السبعينات، وأسباب ذلك متعدّدة. بدايةً، حمل دخول الصين رسميّاً إلى الأمم المتحدة تغيّراً في تكتيكات السياسة الخارجية التي ارتأت تحصين جبهتها الداخلية عوض الغوص بعمق في معترك "الشرق الأوسط". وقد تزامن ذلك مع الشكوك المتصاعدة حول نهج قيادة منظّمة التحرير ونجاعتها في قيادة الشعب الفلسطيني نحو أهدافه. فبعد الخروج من الأردن وبدء الحرب الأهلية اللبنانية، بدأ نهج "كامب - ديفيد" المُساوم يظهر بوضوح في عقليّة القيادة المتنفّذة في منظّمة التحرير، مما أضعف الرهان الصيني - الماوي على هذه المنظومة كحليف استراتيجي لمحاربة الامبريالية. بالإضافة إلى ذلك، شكّل الثقل الأمريكي - السوفياتي جداراً صعب الاختراق، بالأخصّ بعد انتهاء حقبة جمال عبد الناصر في مصر. ومع "اختلاط الحابل بالنابل" وازدياد التعقيدات السياسية والعسكرية في المنطقة، تقلّص الدعم الصيني للشعب الفلسطيني إلى زاوية الدعم الإعلامي واللوجستي البسيط، مقابل ارتفاع منسوب التواصل مع القنوات الدبلوماسية والتجارية الإسرائيلية في العالم.

وجاء العام 1993 ليحمل التحوّل الرئيسي في الموقف الصيني تجاه القضيّة الفلسطينية. فبعد هزيمة منظّمة التحرير وتوقيع قيادتها على اتفاقية "الاستسلام" في أوسلو، أعلنت الصين إقامة علاقات دبلوماسية مع "إسرائيل" لأوّل مرة منذ عام 1948.

منذ ذلك التاريخ، اتّبعت الصين سياسة التوازن القائمة على تحصين أكبر قدر ممكن من النقاط الاقتصادية والسياسية لصالحها دون التنكّر لمبادئ دعمها القضية الفلسطينية. على الصعيد السياسي، تستمرّ الصين في دعم القضيّة الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني لاستعادة حقوقه، التي شوّهتها قيادة منظّمة التحرير. ويظهر الدعم الصيني سياسياً ودوليّاً من خلال دعمها الكامل للسلطة الفلسطينية وفتح القنوات مع جميع الفصائل الفلسطينية. بالمقابل، نجحت "إسرائيل" في استخدام التطبيع الفلسطيني والعربي في سبيل تطوير علاقاتها التجارية مع الصين التي بلغ حجمها 14 مليار دولار عام 2018. ويشكّل المجال التكنولوجي الساحة الأبرز للتعاون الصيني - الإسرائيلي، حيث شاركت أكثر من 164 شركة إسرائيلية في علاقات تكنولوجيّة منها ما يتعلّق بالمجال العسكري. رغم ذلك، لم ترقَ العلاقات الصينية - الإسرائيلية إلى مرحلة استراتيجية وذلك لسببين أساسيين هما:

  1. الموقف الأمريكي الرافض لنموّ النفوذ الصيني، والذي يقابله خشيةٌ إسرائيلية من الخروج من عباءة "الأم الحنون" وعرائها أمام محيطٍ يحمل من العداء الفعّال ما قد يسرّع في القضاء على كيانها. ويرى عددٌ من المحلّلين في اغتيال السفير الصيني في تل أبيب، دو وي، مطلع هذا العام رسالةً أمريكية استباقية لقطع الطريق على تعزيز التعاون الصيني - الإسرائيلي.
  2. الموقف الصيني "الضبابي" تجاه "إسرائيل"؛ ففي حين تفتح الصين يدها لإسرائيل من البوابة التجارية، تستمرّ في تناقضها مع الأخيرة من خلال تحالفها مع أعداء الولايات المتحدة و"إسرائيل" في المنطقة، بالإضافة إلى انفتاحها المستمرّ على حركات المقاومة العربية في لبنان وفلسطين.

بالرغم من ذلك، ما زال الطموح الإسرائيلي بتعزيز العلاقات مع الصين قائماً، ولعلّ اللعاب الإسرائيلي يسيل حول مشروع "طريق الحرير" الصيني، الذي تتشارك فيه بكين مع أكثر من 60 دولة.المرحلة الثالثة: الضريح الأخير؟

تشهد المنطقة بداية انحسار النفوذ الأمريكي، مقابل صعود قوى إقليمية تثبّت أقدامها في مختلف الميادين. والى جانب المسرح الرئيسي، تقف الصين متأهّبة للدخول إلى المشهد السياسي والاقتصادي لمنطقة البحر المتوسط، بعد أن تمكّنت من تأمين طرفي "طريق الحرير"، أي درب الانطلاق (وسط آسيا) والخاتمة (أوروبا). ودخول الصين إلى المشهد سيبني على منطلق أساسي هو التناقض مع الوجود الأمريكي دون الخوض في معارك مباشرة معه. مما يعني حُكماً تعزيز تحالف الصين مع القوى الإقليمية القادرة على دفع الأمريكي للمغادرة، بالإضافة إلى إدارة المنطقة بعد الخروج. فماذا يعني ذلك بالنسبة للشعب الفلسطيني؟

أوّلاً، إنّ الدفع نحو الخروج الأمريكي (أو انحسار نفوذه) هو دفعٌ لصالح القضيّة الفلسطينية، لأنّ أكبر المتضرّرين من هذا الانحسار هي "إسرائيل". وفي ظلّ استحالة التوجّه الإسرائيلي المطلق نحو الصين، يشكّل الدور الصيني (المتمسّك ضمنيّاً بفهمه للتناقض مع أمريكا وأدواتها) فرصةً مهمةً للشعب الفلسطيني.

ثانياً، إنّ مجال الاستفادة من الدور الصيني يبقى منوطاً بقدرة الشعب الفلسطيني على الانتظام والعمل على تغيير موازين القوى لتثبيت وجوده ككتلة بشرية متناسقة وهادفة وقادرة على تغيير المعادلات. حينها فقط، ستتحوّل "إسرائيل" إلى "نمرٍ من ورق" (باصطلاح ماو تسي تونغ عن الصواريخ النووية) سيحترق عند أوّل شرارة.

ختاماً، لا شكّ بأنّ التغيّرات القائمة في المنطقة والعالم تحمل من التعقيدات والصعوبات ما يجعل اليقين وهماً، إلى أنّ أوّل ما علينا أن نعيه كفلسطينيين، هو أنّه كلّما أسرعنا في انتظامنا وتحديد أهدافنا وإطلاق ثورتنا، كلّما ازدادت فرصنا في استغلال التغيّرات القائمة لصالحنا ولصالح شعوب المنطقة.

أختم بمشاهدة لغسّان كنفاني أثناء زيارته حديقة قصور الاباطرة في الصين عام 1966 يقول فيها:

"لقد اشترط أوّل الأباطرة أن تكون أضرحة أولاده الذين سيحكمون بعده أصغر من ضريحه، وهكذا فإنّ الأضرحة ال13 تتصاغر بانتظام ]...[ فالواقع أنّ الإمبراطور الذي جاء أخيراً كان مجبراً على بناء ضريحٍ متناهٍ في الصغر، فوفّرت الثورة عليه هذا الهم!"لقد آن الأوان لنوفّر على "إسرائيل" بناء ضريحها..

كاتب فلسطيني مقيم في لبنان