بعد مرور ما يقارب العقدين من الزمن على بداية الحرب الأمريكية على أفغانستان، يتعذر خلالهما تقصّي حجم الخسائر البشرية والمادية الهائلة التي شهدتها تلك البلاد، وقّعت الولايات المتحدة وحركة طالبان الأفغانية في الدوحة، في 29 شباط 2020، اتفاق سلام يضع الأساس لانسحاب القوات المسلحة الأمريكية من أفغانستان، وللمحادثات بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان. اتفاق السلام هذا، جاء كمحصلة جهود حثيثة ومكثفة امتدت لسنوات عجاف طوال، بذلتها الأطراف المعنية بالصراع وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والحكومة الأفغانية ودول إقليمية أخرى، إضافة إلى الدور الفعال الذي لعبته دولة قطر، والتي تحاول دوماً أن تكون مركز اتصال ومحور علاقات في المنطقتين العربية والإسلامية. فقد أدرك الجميع بأن هذه الحرب لا يمكن حسمها بالقوة العسكرية والاشتباك المسلح، وأنه لن يكون بمقدور أيٍّ من أطراف الصراع تحقيق أغراضه التكتيكية وأهدافه الاستراتيجية عبر مواصلة القتال.

جذور عملية السلام في أفغانستان تعود إلى كانون الثاني من العام 2010، أي إلى وقت انعقاد مؤتمر لندن حول أفغانستان، والذي اتسم بعدم الجدية آنذاك. حينها فكرت حركة طالبان ولأول مرة في التفاوض، وأعلنت في مجموعة بيانات لها عن حزمة من السياسات الجديدة، أكدت من خلالها أنه بحال قامت الولايات المتحدة بسحب جنودها من أفغانستان، فإنها ستقطع علاقتها بتنظيم القاعدة. كما أشارت بأن لديها رؤية مستقبلية للتعامل السياسي مع باقي الأفغان، وتخلّيها عن مبدأ الجهاد خارج أفغانستان، في محاولة منها للحصول على نوع من الشرعية الدولية. قامت الحكومة الأفغانية بعدها بمجموعة محاولات من أجل السلام في أفغانستان، وصفت بالمزيفة والمسرحية، ولم تلق طريقاً للنفاذ إلى الواقع، لأن طالبان كانت تنظر للحكومات المتعاقبة في أفغانستان على أنها مجرد دمى في يد القوى الخارجية. المساق الأهم كان بلا شك هو المساق القطري، الذي بدأت أولى نجاحاته في العام 2011، حين أثمر أول مشاركة فعلية ومعترف بها بين قيادة طالبان وباقي اللاعبين الأساسيين في النزاع الأفغاني. وبمساعدة من مبعوث ألماني، تم التوصل إلى اتفاق بين طالبان والولايات المتحدة على عقد لقاء وجهاً لوجه في قطر. تبع هذا الاتفاق محاولات من المجتمع الدولي لتعزيز أفق المفاوضات ودعم عملية السلام.

لم تُفضِ مساراتُ التفاوض إلى نتائج ملموسة حتى أواخر العام الماضي. فالولايات المتحدة كانت تصرّ على نزع سلاح طالبان ودفعها لنبذ العنف، وقطع صلاتها بتنظيم القاعدة، والقبول بالدستور الأفغاني. بينما كانت طالبان في المقابل، تصر على انسحاب كافة القوات الأجنبية من أفغانستان، وإعادة الإمارة الإسلامية إلى الحكم. وما من شك أن الولايات المتحدة كانت لها حساباتها الإستراتيجية المستترة لمحاولة البقاء في أفغانستان، فالطرف الخفيّ في المعادلة الجيو-سياسية بالنسبة لها متعلق بتأمين مخزون النفط والغاز الهائل في المنطقة - خصوصاً في بحر قزوين وآسيا الوسطى - وتصديره إلى الخارج. يضاف إلى ذلك، أن الولايات المتحدة اعتقدت أنها تمكنت بعد غزو أفغانستان من تأمين موطئ قدم لها في موقع جيو-إستراتيجي يربط شرق وغرب وجنوب ووسط آسيا، وبالتالي تكون على مقربة من مثلث الخصوم الألد بالنسبة لها، وهو روسيا والصين وإيران. إن المصالح الاقتصادية والأمنية، وتأمين مستقبل الطاقة الأمريكية، هي التي جذبت الولايات المتحدة إلى أفغانستان، بعد أن وفرت لها ضربة الحادي عشر من سبتمبر الذريعة للقيام بغزوها، بحجة تصفية بن لادن والقاعدة، وإسقاط حكم طالبان المتعاون معها، وتوفير الأمن والاستقرار لأفغانستان، ومعروف أن الأخيرة لم تحدث أبداً. وبذلك استمرت الحرب بجانب مسارات التفاوض التي غلب عليها طابع التشاؤم طيلة الوقت.

طرأ في الأعوام الأربعة الأخيرة مجموعة من المتغيرات على سياسات الولايات المتحدة دفعتها للقبول باتفاق السلام الحالي. يمكن إيجاز الأسباب المتعلقة بهذه المتغيرات في أربعة نقاط: أولها، أن جميع الجهود المتعددة الأبعاد التي بذلتها الولايات المتحدة وحلفاؤها لكسب الحرب ضد طالبان والحركات المناوئة للوجود الخارجي في أفغانستان قد فشلت بالكامل. ثانيها، تراجع أهمية القضية الأفغانية على أجندات صناع السياسة الأمريكيين، بحيث أصبحت تعتبر مشكلة إقليمية أكثر منها قضية أمن قومي. ثالثها، فشل الحكومات المحلية في أفغانستان والمدعومة من الخارج في فرض الأمن والاستقرار في البلاد. وأخيراً، وجود تيار من اليمين الجمهوري الانعزالي في الولايات المتحدة على رأس الإدارة الأمريكية يمثله الرئيس دونالد ترامب، يدعو إلى قصر اهتمامات الولايات المتحدة على شؤونها الداخلية.

في المقابل، تمكنت حركة طالبان من الحفاظ على قوتها في المشهدين العسكري والسياسي في الساحة الأفغانية، والمستمدة أساساً من رافعة اجتماعية متينة هي الإثنية البشتونية، التي تشكل نصف عدد سكان أفغانستان تقريباً. هذه الفئة معروفة تاريخياً بنفسها الطويل في مواجهة الغزو الخارجي ومقاومة أي احتلال أجنبي، ثبت ذلك في مواجهة المحتل البريطاني قديماً، ومن ثم في مواجهة روسيا وأمريكا حديثاً. وقد وجد البشتون في طالبان منذ العام 1992 المعبّر الأهم عن هويتهم الثقافية، والممثل الرئيس لطموحاتهم السياسية. وقد ساعد على ذلك، أن بنى وهيكليات الدولة الأفغانية ما بعد 2001، أثبتت أنها غير جديرة بالثقة وفاسدة وتنقصها الكفاءة والدراية في شؤون الحكم، كما أنها تعسفية وغير منصفة تدار بالمحاباة والمحسوبيات، باعتراف الأمريكيين أنفسهم. وقد نتج عن هذا الوضع المتأزم مجموعات ناقمة ومتمردة جاهزة للتعبئة والتحشيد والاستغلال في الصراعات الداخلية، وحمل السلاح ضد الحكومة المحلية وضد القوات الأجنبية. وقد استغلت طالبان هذا العامل وعامل الوقت أيضاً، لتجدد فكرها ولتعيد صياغة رؤاها وتصوراتها تجاه المستقبل وترسيم طرق الوصول إليه، بعد أن أدركت أن التصلب والرؤية السياسية الأحادية يؤثر سلباً على مصالحها ويضعف نفوذها، خصوصاً في ظل تعدد الإثنيات المحلية وتوزعها بين طاجيك وأوزبك وهازارا وتركمان وعرب وغيرها.

على المستوى الإقليمي

 ثمة قدر معتبر من المصالح المشتركة في المنطقة عزز من أهمية فكرة السلام في أفغانستان. فعلى الرغم من استفادة بعض الجهات الفاعلة إقليمياً من بعض نواحي عدم الاستقرار الأفغاني، إلا أنه كانت هناك مكاسب محتملة أكبر من نهاية الحرب، خصوصاً مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان في العام 2015 -التوأم الجهادي لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام- وتهديده لأمن الدول المجاورة.  فروسيا التي تود رؤية الولايات المتحدة تتعرّض للإذلال في أفغانستان على غرار تجربتها القاسية هناك، إلا أنها تخشى انتشار عدوى العنف الجهادي في جمهوريات آسيا الوسطى المجاورة، أو وصوله إلى روسيا نفسها. كذلك الصين، فإنها تخشى من وجود أية تنظيمات على حدودها القصيرة مع أفغانستان يمكن أن تشجّع أو تدرّب أو تحتوي الانفصاليين الإيغور. من ناحية أخرى، تقوم باكستان بتقديم دعم لا محدود لطالبان كوسيلة للاحتفاظ بنفوذها الإقليمي ومنافسة الهند، التي بدورها أيضاً تحذّر باستمرار من خطر المتطرفين الأفغان، وتريد التزام الولايات المتحدة على المدى الطويل بالاستقرار الإقليمي. وأخيراً إيران، فيبدو أنها تمكنت من عقد تفاهمات مع طالبان كي تتجنب عنف القوى المعادية للشيعة على حدودها، مثل الذي يسعى إليه تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان. يضاف إلى ذلك كله، المصلحة المشتركة لهذه الدول مجتمعة في مكافحة المخدرات، والتطوير التعاوني لمشاريع الطاقة الإقليمية.

في هذه السياقات الطويلة، والمسارات المعقدة، والظروف الإقليمية المركبة، جاء توقيع اتفاق السلام بين الولايات المتحدة وطالبان، بعد عام من المحادثات، وتسع جولات من المفاوضات المضنية، وتعثر توقيعه أكثر من مرة. وكان لافتاً غياب الحكومة الأفغانية المدعومة من واشنطن عن المفاوضات وعن مراسم التوقيع. اشتمل الاتفاق على أربعة أجزاء رئيسة: يتعلق الأول بضمانات وآليات إنفاذ الاتفاق التي من شأنها منع أي مجموعة أو فرد من استخدام الأراضي الأفغانية لتهديد أمن الولايات المتحدة وأمن حلفائها. ويعالج الثاني ضمانات وآليات سحب جميع القوات الأجنبية من أفغانستان، والإعلان عن جدول زمني لذلك. أما الثالث، فيتعلق بالمفاوضات الأفغانية الداخلية للتوصل إلى حل سياسي. ويتمحور الرابع حول وقف دائم وشامل لإطلاق النار بين الأفغان، والاتفاق على آليات التنفيذ المشتركة، والتي من المفترض أن يتم الإعلان عنها عند الاتفاق على خريطة الطريق السياسية المستقبلية لأفغانستان.

أثار هذا الاتفاق جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والإعلامية في الولايات المتحدة الأمريكية. فقد اعتبره الكثيرون بأنه يعني ضمنياً تسليم أفغانستان لحركة طالبان من جديد، كون أن الحكومة الحالية في أفغانستان لا يُتوقع لها أن تصمد طويلاً في مقارعة الحركة عسكرياً وسياسياً. فيما تحاول الإدارة الأمريكية برئاسة ترامب التسويق لهذا الاتفاق على أنه نصر ديبلوماسي، خلّص الولايات المتحدة من حرب لا تنتهي، كلفتها الباهظة بشرياً وصلت إلى 2400 جندي أمريكي، والمادية بلغت أكثر من تريليوني دولار. ومن المرجح أن تستعجل الولايات المتحدة وحلف الناتو سحب قواتهم قبل الموعد المحدد للانسحاب في اتفاق الدوحة، تحت ذريعة كورونا وتفاقم الأزمات الناتجة عن انتشار الفيروس.  

لا شك في أن انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان سيتيح للأفغان فرصة أكبر للاستفادة من موارد بلادهم وخيراتها ومقدراتها، إلا أن سؤال الأمن والاستقرار الداخليين الذي يمكنهم عملياً من تحقيق هذه الاستفادة، سيبقى مرهوناً بالمفاوضات الأفغانية – الأفغانية، والتي باعتقادنا ستكون أكثر أهمية من المفاوضات بين طالبان والولايات المتحدة ونتائجها في الاتفاق المبرم. لكن هذه المفاوضات لا تقتصر تعقيداتها على مقاربات وقف إطلاق النار، وتحرير السجناء، والوساطات الخارجية، والتي تشهد تعثّرات بالغة حالياً، بل تتعداها إلى قضايا أكثر عمقاً وحساسية تتعلق بدور الإسلام في المجتمع، وطبيعة الحكم والحكومة المناسبة في أفغانستان، ومعنى الجهاد، ووضع الأجانب والمنظمات غير الحكومية العاملة في أفغانستان، وسبل الحد من التدخل الخارجي في الشؤون الأفغانية.

لقد وقعت أفغانستان طيلة عقود خلت، ضحية تنافس دولي بين قوى كبرى تحاول جاهدة بسط سيطرتها وتوسيع نفوذها في المنطقة، ويوجد أمامها الآن فرصة سانحة لشق طريق صحيح باتجاه إنهاء صراع مرير ومعقد، تداخلت خيوطه المحلية والإقليمية والعالمية، وشغل المجتمع الدولي لما يزيد عن الأربعة عقود. أما الخيار الآخر، فقد يكون السير على درب التفسخ العميق والانقسام الحاد وفق المسالك القبلية والاثنية والمذهبية إلى أجل غير معلوم. وبطبيعة الحال، فإن دور الإقليم يبقى في غاية الأهمية لمساعدة أفغانستان، وبذل الجهود الديبلوماسية اللازمة التي يمكن أن تسهم في تجنب هذا الخيار الكارثي.