Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

'من يتحكم في إمدادات الغذاء يتحّكم في لقمة عيش الشعوب. ومن يتحكم بمصادر الطاقة يمكنه التحكّم في مصير قارات بأكملها. ومن يتحكم في المال يمكنه التحكم في العالم بأسره'". ولذلك وضعت أميركا يدها على مصادر الطاقة (النفط) وطرق إمدادته حول العالم"

كمال ديب

تفكيك الصورة الكبرى من بيروت إلى بغداد

"

فيما تشتعل الحرب السورية منذ عام 2011، وتستعر حروب العراق منذ 1980 إلى اليوم، تستمر الأزمة القائمة في لبنان منذ أن قامت دولة المحاصصة والفساد في لبنان برعاية عربية ودولية. وليس حال كل بلد منفصل عن الآخر بل هو ملف واحد يشغل برّ الشام وبلاد ما بين النهرين منذ أكثر من ستين عاماً: كيفية التخلّص من الاستعمار الجديد، والهيمنة الاقتصادية والتبعية، وإزالة آثار العدوان، خاصة الاستيطان الصهيوني في فلسطين.
لقد توقّع العرب أنّ الاستعمار الغربي التقليدي – فرنسا وبريطانيا – والذي تواصل عقوداً منذ أواسط القرن التاسع عشر قد بدأ ينحسر بعد الحرب العالمية الثانية (1945) وقد نال عدد من الدول العربية الاستقلال. إلا أنّ صعود الولايات المتحدة الأميركية منذ 1949 ألغى مفاعيل هذا التحرّر بالأخص على الصعيد الاقتصادي. إذ أنّ الولايات المتحدة اعتبرت نفسها وريثاً شرعياً للاستعمار القديم. حتى أنّ بريطانيا أبلغت واشنطن رسمياً في آذار 1948، انسحابها من امبراطوريتها المتهالكة حول العالم وخاصة في الجوار المحاذي للاتحاد السوفياتي. فحلّت مكانها أميركا اقتصادياً وثقافياً وعسكرياً وديبلوماسياً. وفيما تلكأت فرنسا في الانكفاء عن امبراطوريتها مقارنة ببريطانيا، فإنّ صمود فرنسا لم يدم أكثر من  15 عاماً إضافياً. ففرنسا واصلت احتلالها للهند الصينية (فيتنام ولاوس وكمبوديا) إلى أن تعرّضت لهزيمة فادحة في معركة ديان بيان فو عام 1954، فانسحبت وأخذت مكانها أميركا. ثم تحالفت فرنسا مع بريطانيا واسرائيل لشن عدوان ثلاثي على مصر عام 1956 ردّاً على تأميم الرئيس جمال عبدالناصر لقناة السويس، إلى أن أجبرت أميركا المعتدين الثلاثة الانسحاب لتأخذ مكانهم. ثم بدأت فرنسا حرباً دموية وارتكبت سلسلة من المجازر المهولة ضد شعب الحزائر بلغ عدد ضحاياها مليوني جزائري. إلى أن قبلت بالأمر الواقع بعدما هزمتها المقاومة الجزائرية عام 1962.
لم تكتف الولايات المتحدة بخروج بريطانيا من المنطقة العربية بل رغبت في إزالة الأنظمة السياسية التي أوجدتها. فدعمت ثورة 23 يوليو ضد حكم الملك فاروق وأسرة الخديوي في مصر عام 1952، ودعمت ثورة 14 تموز 1958 في العراق ضد الأسرة الهاشمية ودعمت الانقلابات ضد التقليديين في سورية من 1949 إلى أواخر الخمسينيات. ولكن الدعم الأميركي للدول العربية ذات النظام الجمهوري كان مؤقتاً - إذ أنّ القوى الوطنية العربية التي صعدت في سورية ومصر والعراق تبنّت شعارات قومية وقضايا تحررية ولم تسر تماماً وفق رغبات واشنطن. فانقلبت أميركا على جمال عبد الناصر بسبب مواقفه في قضية فسلطين وفي حرب اليمن وفي الاحتلال الأميركي للهند الصينية. وكذلك صبّت أميركا غضبها على سورية لأنّ الرئيس حافظ الأسد لم يسر في اتفاقية كامب دافيد مع اسرائيل.
لقد وُلد في العالم العربي أربع دول محورية في أواخر التسينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين هي: مصر وسورية والعراق والمملكة العربية السعودية. وباستثناء السعودية التي ربطها حلف أبدي عسكري مع أميركا، فإّن الدول المحورية الثلاثة كانت رائدة في النضال العربي وفي نصرة فلسطين وتمويل ودعم الصناعات الثقافية العربية، في الأدب والفن والسينما.    

تبنّت الولايات المتحدة منذ صعودها الدولي عام 1949 استراتيجة تقوم على ثلاثة أعمدة:
أولاً، الريادة الاقتصادية
 economic leadershipفي العالم وتتضمن نشرَ النموذج الرأسمالي الأميركي في كل مكان وأن تكون أميركا صاحبة الكلمة في الاقتصاد المحلي في كل بلد.
ثانياً، أنّ مصير أميركا المعلن
Manifest Destiny هو أن تكون سيدة العالم بدون منافس. وكان المبرّر الأساس في هذا المبدأ هو خروج الصين عن الإرادة الأميركية وتحولها إلى الشيوعية بقيادة ماوتسي تونغ. وكذلك احتواء الاتحاد السوفياتي وتدمير نظامه الشيوعي.
ثالثاً، الهيمنة الثقافية
 American lifestyleونشر نمط الاستهلاك الأميركي على العالم. 

في العامود الأول الاقتصادي شرح هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون ووزير الخارجية الأميركية في أوائل السبعينيات أنّ: "من يتحكم في إمدادات الغذاء يتحّكم في لقمة عيش الشعوب. ومن يتحكم بمصادر الطاقة يمكنه التحكّم في مصير قارات بأكملها. ومن يتحكم في المال يمكنه التحكم في العالم بأسره". ولذلك وضعت أميركا يدها على مصادر الطاقة (النفط) وطرق إمدادته حول العالم. لتصبح الدول الصناعية الكبرى وخاصة أوروبا الغربية رهينة لمشيئة واشنطن. ولكن منذ أوائل التسعينيات بدأ التحول الكبير نحو الغاز الطبيعي في العالم، ولذلك فمنذ أوائل الألفية الثالثة تحاول أميركا جاهدة وضع اليد على مصادر الغاز وخطوطه لتجعل من القرن الحادي والعشرين قرنا أميركياً. وفي نفس الوقت اختلقت تكنولوجيا كثيرة وجديدة لضبط التحويلات المالية والنظام المصرفي العالمي بحيث جعلت عملتها الدولار عملة العالم بأسره ولا يمرّ مبلغ ألف دولار في أي مكان في العالم بدون أن تعلم به الإدارة الأميركية وخاصة عبر إجراءات سويفت.

في المبدأ ألثاني، سعت الولايات المتحدة إلى تطويق الصين وروسيا ومحاصرتهما. ففي حال روسيا، أصغت واشنطن جيداً إلى مقولات المؤرخ برنارد لويس المتخصص في تركيا وشعوب وسط آسيا إنّ الإسلام هو ديانة مناهضة للماركسية ويحبّذ الرأسمالية وسياسة السوق الحر، وإنّ الاتحاد السوفياتي محاط بكتل إسلامية كبرى سواء داخل جمهورياته الجنوبية (في آسيا الوسطى) أو على حدوده الجنوبية (تركيا وإيران والباكستان وأفغانستان) أو في بلدان إسلامية كبرى حيث وجود شيوعي مهم مثل إندونيسيا. فسعت أميركا إلى تغليب قوة تنظيمات تحمل العقائد الاسلامية لتصل إلى الحكم مكان الدولة المدنية في هذه الدول حتى لو كان عن طريق الانقلابات كما حصل في الباكستان أو المجازر الوحشية كما حصل في اندونيسيا.

وإذ نجحت سياسة الولايات المتحدة في قلب الأنظمة في الدول ذات الأكثرية الإسلامية التي تطوق الاتحاد السوفياتي، أشعلت حرب الطالبان ضد حكومة أفغانستان المدنية المدعومة من موسكو عام 1979. أمّا في حال إيران التي اعتبرتها سياسة واشنطن أنّها من دول الطوق الإسلامية إسوة بتركيا والباكستان، فقد اعتقدت أميركا أنّ الثورة الإيرانية ضد الشاه في شباط 1979 ستأتي في سياق تغليب العقيدة الدينية لتطويق الاتحاد السوفياتي. ولكن تبيّن بعد شهور أنّ ما خرج في طهران كان دولة مناوءة للاستعمار والصهيونية وترفع راية فلسطين ولو أنّها اتسمت جمهورية إسلامية.
من ناحيتها شرعت اسرائيل على تدمير الدول العربية المحورية الثلاثة – مصر والعراق وسورية. فنجحت في مصر أولاً بمعاهدة كامب دافيد في أيلول 1979 التي أخرجت مصر من حضنها العربي لتصبح حليفاً لاسرائيل. ومنع الانزلاق العربي الواسع للصلح مع اسرائيل صمود الدولتين المحوريتين سورية والعراق. ولكن السياسة الأميركية ورغبة حكومة العراق في أن تبقى في المحور الغربي والكتلة العربية المحافظة (مصر والأردن والخليج) دفعت العراق ليخوض حرباً ضد إيران في أيلول 1980 أنهكت البلدين بشرياً واقتصادياً. ولم يتعاف العراق عندما انتهت الحرب عام 1988. بل ارتكب خطأ غزو الكويت وتعرّض لحرب ساحقة من أميركا وحلفائها في شباط 1991 ثم إلى سلسلة حروب موجعة توجّها الغزو الأميركي في آذار 2003، حيث زرعت واشنطن زمرة من أتباعها جعلوا من العراق دولة فاشلة وأكثر دول الأرض فساداً بعدما كان العرب يتطلعون إليه على أنّه ألمانيا العرب القادمة.

وفي حال سورية، واجهت دمشق سلسلة حروب شنّتها اسرائيل في لبنان وفلسطين منذ 1978 بعد رفضها الانضواء في مسيرة كامب دافيد. وهي حروب لم تتوقف بل تواصلت في القرن الحادي عشر ضد لبنان (تموز 2006) وضد غزّة (2008 و2012 و2014). كما تعرّضت سورية لعقوبات ااقتصادية وحصار موجع منذ الثمانينيات. وإذ أثبتت أنّها عصيّة على الانكسار، شنّ تحالف عربي ودولي واسع حرباً كونية على سورية عام 2011 ولما تنتهي. وأدّت هذه الحرب إلى دمار مدن سورية الكبرى واقتلاع 14 مليون مواطن من منازلهم ومصرع 600 ألف سوري.

اعتبرت الولايات المتحدة العالم العربي مسرحاً لها تأخذ ما تشاء وتفرض نوعية وتركيبة حكوماته. فهي دعمت مشروع "الربيع العربي" عام 2011 شريطة أن يحصل التغيير فقط في الدول التي لا تتبع أميركا تماماً (وليس في المغرب أو البحرين أو الأردن مثلاً). ثم أنّ تركيا عضوة الحلف الأطلسي وحليفة اسرائيل كانت الحصان الرابح في الربيع العربي رقم 1. فأنقرة أقنعت الرئيس الأميركي باراك أوباما الداعم لصعود الأخوان المسلمين أنّها ستكون النموذج الإسلامي لتلك الدول التي تُسقَط حكوماتها (مثل تونس وليبيا ومصر)، وذلك على نمط الحكومة الأخوانية التي يقودها رجب طيب إردوغان في أنقرة. وإذ نجح الربيع العربي رقم 1 في قلب أنظمة وجعلها أكثر انصياعاً لأميركا لم ينجح النموذج التركي ذهب مع الريح. ثم بدأ عام 2019 الربيع العربي رقم 2 في السودان والجزائر والعراق ولبنان. وإذ نجح الربيع العربي رقم 1 في تقسيم السودان إلى شمال وجنوب، نجح ربيع 2 في قلب حكومة السودان وجعلها أكثر تبعية، ولكن ربيع 2 تعثّر في لبنان في خريف 2019 ولم تتبين نتائجه في العراق والجزائر بعد، فيما رواحت الحرب مكانها في سورية وليبيا واليمن.

فلبنان منقسم عامودياً، شعبياً ورسمياً، بين معسكرين: أولهما موالٍ تماماً لمحور أميركي - عربي والثاني هو خليط من حركات تحرّر وحركات مناهضة لأميركا ويسار محلي وحلفاء لسورية. وما يزيد الأمر تعقيداً هو المنحى الطائفي الذي يمنع أي تغيير ثوري أو جذري بالصميم في لبنان. وبعكس أماني الخارج في تحويل الحراك لكي يستهدف رئيس الجمهورية ميشال عون والمقاومة، لم يحصل أي من ذلك. في حين حافظ المعسكر الآخر الموالي لأميركا والخليج في مراكز قوته.

ولذلك فأنظار الجميع تتجه شرقاً نحو العراق حيث ترتسم ملامح مواجهة بين إيران وحلفاءها من جهة والولايات المتحدة وحلفاءها من جهة أخرى. فهل يعود العراق إلى نقطة الصفر قبل أربعين عاماً عندما أصبح ساحة مواجهة أميركية – إيرانية وتم التضحية به في آتون رغبة أميركا استعادة إيران التي خسرتها عام 1979؟ حتى لو كان الثمن حروب وكوارث على شعب العراق؟.

"

كاتب وباحث لبناني