قبل حوالي عقد من الزمن، نشر المؤرخ البريطاني الشهير إيريك هوبزباوم كتاباً بعنوان 'العولمة والديمقراطية والإرهاب'"، استشرف فيه أفول الديمقراطية الليبرالية وعدم امكانية استمرار نجاحاتها التي أريد تعميمها على مستوى المعمورة، وذلك على عكس ما رآه قبل ذلك المفكر السياسي الأميركي فرانسيس فوكوياما، بأنها تشكّل'"نهاية التاريخ'"."
بايدن العجوز والديمقراطية الشائخة
قبل حوالي عقد من الزمن، نشر المؤرخ البريطاني الشهير إيريك هوبزباوم كتاباً بعنوان "العولمة والديمقراطية والإرهاب"، استشرف فيه أفول الديمقراطية الليبرالية وعدم امكانية استمرار نجاحاتها التي أريد تعميمها على مستوى المعمورة، وذلك على عكس ما رآه قبل ذلك المفكر السياسي الأميركي فرانسيس فوكوياما، بأنها تشكّل"نهاية التاريخ".
تمكّن المؤرخ المخضرم من استقراء عجز الآليات السياسية المعمول بها في كبرى الدول الديمقراطية عن مواجهة المشاكل الناشئة في داخل الحدود القومية لتلك الدول، خصوصاً تلك الناتجة عن العولمة و"الأتمتة" والهجرة. لم يتنبّه كثيرون لأهمية هذا الكلام في حينها، بل استبشروا "بموجة ديمقراطية رابعة" ستجتاح العالم الثالث إبّان ما عُرف بثورات الربيع العربي. لكن الفترة الرئاسية لترامب، والانتخابات الأميركية الأخيرة، وما رافقها وتبعها من إشكاليات عالقة، أظهرت بقوة مدى تصدّع فكرة الديمقراطية الغربية عموماً، والأميركية خصوصاً، التي تعيش أزمة لا سابق لها في التاريخ المعاصر.
دقّت الكثير من الجامعات الغربية والمؤسسات الأكاديمية والمراكز البحثية والشخصيات العلمية نواقيس الخطر محذرةً من تهافت الديمقراطية. كان آخرها رسالة موقعة من 200 شخصية غربية حملت عنوان "كيف يمكن إبقاء الضوء على الديمقراطيات: خطاب قلق مفتوح من قبل علماء في السلطوية"، وقد جاء فيها ما نصّه: "بينما بدت الديمقراطية وكأنها تزدهر في كل مكان في السنوات التي أعقبت نهاية الحرب الباردة، يبدو أنها اليوم آخذة في الذبول أو في انهيار شامل على مستوى العالم. بصفتنا علماء في الشعبوية والاستبداد والفاشية والتطرف السياسي في القرن العشرين، نعتقد أنه ما لم تُتخذ إجراءات فورية، فإن الديمقراطية كما نعرفها ستستمر في تراجعها المخيف، بغض النظر عن الفائز بالرئاسة الأميركية في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر".
انتصر جو بايدن (78 عاماً) في الانتخابات الأميركية في هذا المناخ الديمقراطي المشوب بالخوف والتشكيك والحذر، وفي أجواء مشحونة بالانقسام والاستقطاب الحاد، ليقف على رأس ديمقراطية شائخة تكشّفت الكثير من عوراتها، وأخطرها سؤال العدالة الملحّ في ظل النظام الديمقراطي الليبرالي الذي ما فتئ الفلاسفة الأميركيون يحاولون الإجابة عليه بدءاً من جون ستيوارت ميل وصولاً إلى جون رولز. ناهيك عن الإرث الثقيل الذي خلّفه الرئيس دونالد ترامب، والذي وصفه فيلسوف هارفارد، مايكل ساندل، بأنه "شكّل التهديد الأعظم للنظام الدستوري الأميركي من بعد ريتشارد نيكسون". فلقد نجم عن حكم ترامب العديد من الاضطرابات داخل أميركا وخارجها، بسبب الخلل الكبير في السياسات وفي كيفية التعامل مع المؤسسات وفي معايير الحكم نفسها. فقد تورط ترامب في تبني خطاب يميني شعبوي متطرف، أسفر عن تعميق النزاع العرقي والتحريض ضد الأقليات وتعاظم العداء ضد المهاجرين. كما أضعف دونالد ترامب المؤسسات الأميركية الأساسية، وقوّض نظام الضوابط والتوازنات الذي طالما أنيطت به مهمة تقييد الزعيم المنتخب للسلطة التنفيذية من قبل مجموعة من الفروع والهيئات الأخرى. وكذلك أفرغ فكرة سيادة القانون التي تتباهى بها أميركا من مضمونها حين عبر عن رفضه لأي قانون يدينه، بل عمل على تشويه سمعة أي مؤسسة أو شخصية تسعى إلى تطبيق القانون ضده: مجتمع الاستخبارات الأميركية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، والمدعي العام والقضاة والمحاكم، ووسائل الإعلام الرئيسية التي سماها "عدو الشعب الأميركي". ولم يدّخر ترامب جهداً للتشكيك في نزاهة انتخابات بلاده كونها لم تأت في صالحه.
أما على المستوى الدولي، فقد انخرط ترامب في حرب تجارية ضارية مع الصين، كانت نذيراً ببداية الحرب الباردة الثانية. وكاد أن يتسبب في نشوب حرب عسكرية مع إيران بعد اغتيال الفريق قاسم سليماني. كما قلّص المشاركة الأميركية في العديد من المنظمات الدولية ومنها منظمة الصحة العالمية. وانسحب أيضاً من اتفاقية "نافتا" التجارية مع كندا والمكسيك وأجبرهم على توقيع اتفاقية بديلة عنها. وحاول التشكيك بجدوى التحالفات الأمنية والعسكرية الاستراتيجية التي تقودها الولايات المتحدة بما فيها "الناتو". وتسبب كذلك بتوتير العلاقات مع حلفائه الأوروبيين الذين انكفأ بعضهم عن العلاقة مع واشنطن، وأخذوا بالبحث عن بدائل تغنيهم على المدى البعيد عن هذه العلاقة. وعمل على سحب القوات الأميركية من مناطق مثل أفغانستان وسوريا ومنطقة الساحل دون تنسيق مع حلفائه المحليين. أما فيما يخص القضية الفلسطينية، فقد صادق لحليفه الأوحد نتنياهو من خلال صفقة القرن والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على القدس ومرتفعات الجولان على كل متطلباته متجاوزاً بذلك كل تعهدات الإدارات الأميركية السابقة وقرارات الأمم المتحدة، الأمر الذي رآه الحلفاء الأوروبيين قبل غيرهم، تهديداً لأمن واستقرار الشرق الأوسط.
كل هذه الفوضى والملفات الشائكة والمعقدة التي خلفها ترامب سيرثها الرئيس القادم إلى البيت الأبيض جو بايدن. ومن نافلة القول، إن هذه التحولات العميقة التي حدثت في الولايات المتحدة لم تكن وليدة حقبة ترامب، بل كانت عبارة عن عملية تراكمية مدفوعة في الأساس بالتغير الديموغرافي والاقتصادي الذي شكل الوقود الأساسي للشعبوية الأميركية المعاصرة، وقد جاءت رئاسة ترامب تجسيداً لهذا التدهور وأدّت إلى تكثيفه. وقد يكون من الصعب جداً على الرئيس المسن بايدن، الديمقراطي الوسطي المحافظ الأقرب إلى النمط الأوروبي، تعديله باتجاه معاكس وجذري. لقد وصف بايدن نفسه في إحدى حملاته الانتخابية بأنه سيكون "الرئيس الجسر" بين قيادات الجيل القديم في الحزب الديمقراطي وقيادات الجيل الجديد. وفي الواقع أن بايدن سيكون الرئيس الجسر بين أميركا ترامب وأميركا ما بعده. فانتخاب جو بايدن في هذه الظروف، يعني أنه سيترأس دولة تعاني من وباء متفاقم، وركود اقتصادي، وانقسام حاد. ومن المتوقع أن يقع بايدن في الفخ الذي وقع فيه سلفه الديمقراطي باراك أوباما الذي لم يتمكن من إجراء إصلاحات جذرية بسبب سيطرة الجمهوريين على مجلس الشيوخ، مما سيقوّض إمكانية إجراء تغييرات راديكالية واستصدار تشريعات جديدة ذات قيمة تمكنّه من تغيير الأوضاع القائمة ولو بشكل متدرج.
أما على الصعيد الدولي، فلا شك أن الغالبية العظمى من دول العالم تنفست الصعداء بعد خسارة ترامب. وهذا لا يعني بالضرورة أن بايدن سيقوم بتحولات سحرية في سياسة بلاده الخارجية. فمن ناحية أولى، من الواضح أن اهتمامات بايدن المحلية ستطغى قطعاً على اهتماماته الخارجية، ومن ناحية أخرى، فإن السياسات الأميركية في الخارج بين الديمقراطيين والجمهوريين عادة ما تتفق في الغايات وتختلف في الوسائل والأدوات. خطاب جو بايدن السياسي فيما يخص الخارج عبارة عن استمرار لتقليد طويل في الخطاب الديمقراطي المنمّق. أعلن بايدن أنه "يؤمن بقوة النموذج، لا نموذج القوة". وأكّد أنه "سيكون حليفاً للنور لا للظلام". وتعهد بايدن "بالوقوف إلى جانب الحلفاء والأصدقاء"، والكف عن "التسامح مع الطغاة"، وعدم "غض الطرف عن التجاوزات الروسية وتدخلهم في الانتخابات الأميركية". أما الصين، فالإشارات المرتبطة بها فهي قليلة تتعلق بالتشديد على الحاجة الملحة لجعل أميركا أقل اعتمادًا على الإمدادات الطبية الصينية الصنع ومعدات الحماية، مما يدفع للاعتقاد برغبة بايدن بتجنب الحرب الباردة مع الصين. ولكن هذا الخطاب الديمقراطي التقليدي الذي يكثف استحضار البعد المعياري القيمي في السياسة، أكثر ما ينطبق عليه ما قاله الفيلسوف الروماني فرجيل قديماً: "احذروا من الإغريق الذين يحملون الهدايا".
وبعيداً عن الخطاب المعلن، وعن بعض الخطوات الشكليّة التي سيقوم بها بايدن لإصلاح ما أفسده ترامب في السياسة الخارجية، فإن القضيتين الرئيسيتين الأكثر أهمية في ملفات بايدن الدولية ستكون الصين وإيران. فالقلق الأميركي من تنامي قوة الاقتصاد الصيني وتأثيره على الولايات المتحدة -خصوصاً بعد أزمة الوباء- هو قلق مشترك بين الديمقراطيين والجمهوريين على السواء. وعلى الرغم من أن تركيز بايدن سيكون على التحديات الداخلية بلا شك، فإنه لن يكون قادراً على تأخير معالجة التغيرات في العلاقة بين الولايات المتحدة والصين التي تواصل توسيع نفوذها عسكرياً واقتصادياً. على المستوى الجيو-استراتيجي ستحرص إدارة بايدن على استغلال التوترات في بحر الصين الجنوبي وتايوان وهونغ كونغ لإزعاج الصين. وقد تُقابل الإجراءات الصينية التي تعتبر "عدوانية" بمزيد من الدعم العسكري الأميركي لحلفائها هناك. سياسياً، ستستمر الإدارة الأميركية في الضغط على الصين بشأن انتهاكات حقوق الإنسان المتعلقة بالإيغور ومجموعة من الحالات الأخرى، في سبيل تعزيز المقايضات وتحقيق مكاسب متزايدة من خلال الاستثمار الدبلوماسي ومواقف القوة. أما على المستوى الاقتصادي، فمن الواضح أن بايدن سيحافظ على غالبية الرسوم الاقتصادية التي فرضها ترامب على السلع الصينية. كما سيدفع الرئيس الجديد مع حلفاء الولايات المتحدة باتجاه التركيز على تلبية الصين لالتزامات منظمة التجارة العالمية والوصول إلى سوق الخدمات المتنامي في الصين. والسؤال البالغ الأهمية سيكون في هذه الحالة، إلى أي مدى ستصبر الصين على السياسات الأميركية تجاهها، وما هي طرق الرد التي ستعتمدها؟
أما بشأن ملف إيران، فسيكون نقطة الاختلاف الرئيسية الوحيدة في الشرق الأوسط بين إدارة ترامب وإدارة بايدن بشكل حقيقي. أوضح بايدن أنه ينوي إعادة الدخول في خطة العمل الشاملة المشتركة ومتابعة الدبلوماسية مع طهران بشأن قضايا أوسع، مشترطاً عودة إيران أيضاً إلى الامتثال الكامل بالاتفاق. ومن غير المستبعد أن يكون تعيين أنتوني بلينكن على رأس وزارة الخارجية في إدارة بايدن القادمة مرتبطاً بهذا الملف. كان بلينكين هو الوجه الرئيسي لسياسة بايدن الخارجية خلال حملة عام 2020، وقد عبّر في مواقف عدة عن حاجة الولايات المتحدة إلى إعادة بناء التحالفات الدولية التي أفسدها دونالد ترامب بنهجه القائم على شعار"أميركا أولاً". وكان بلينكن أيضاً من أبرز المدافعين عن فكرة عودة الولايات المتحدة للانضمام إلى الاتفاق النووي الإيراني. تظهر كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا -بشكل أقل- (E3)حماسة لهذا النهج من خلال الاستعداد للعب دور هام في رسم مسار دبلوماسي بين واشنطن وطهران من أجل مصالحهم مع إيران من جهة، والحد من الأضرار في الشرق الأوسط من جهة أخرى. ومن المؤكد معارضة الحزب الجمهوري بقوة لأي خطوة من هذا النوع، إلى جانب حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وتحديداً إسرائيل والمملكة العربية السعودية، والتي تعيش قلقاً حقيقياً من عودة الولايات المتحدة إلى تفاهم مع إيران حول ملفها النووي.
بإيجاز، فإن الولايات المتحدة مقدمة على مواجهة تحديات جسام في الفترة المقبلة من رئاسة بايدن على المستويين الداخلي والخارجي. هذه التحديات قد لا تتيح لها البقاء كقوة أحادية تفرض إرادتها في النظام العالمي القائم أو المقبل. كما أن فكرة نشر الديمقراطية الليبرالية كنمط عالمي يراد اتباعه طوعاً أو كرهاً، من خلال تصدير نظم ومؤسسات عبر الحدود لن يكون بنفس الجاذبية التي كان عليها في السابق طالما أنه لم يتمكن من اثبات الفعالية المرجوة في حدود مواطنه الأصلية. أمام الولايات المتحدة طريق طويل لتجاوز مصاعبها الداخلية، وتحديداً فيما يتعلق بالتخلص من تداعيات وباء كورونا، ومعالجة تحديات الركود الاقتصادي، كذلك تخفيف حدة التوترات العرقية وإصلاح المؤسسات. أما خارجياً، فإن التنين الصيني سيبقى هو التحدي الأكبر الذي تحاول الولايات المتحدة أن تطيل أمد قيادتها وتتجنب التفاهم معه ومع القوى الدولية الأخرى للعبور نحو نظام عالمي جديد.
"Related Posts
كاتب فلسطيني