Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

مرّ الملف النووي الإيراني منذ نشأته في ستينيات القرن العشرين، بالعديد من المراحل، يُمكن تقسيمها إلى مرحلتين أساسيتين، الأولى هي مرحلة النشأة والتأسيس وإقامة البُنى النووية الأساسية (1958– 2002)، أما الثانية فهي مرحلة الشكوك والمواجهة الدولية (2002– حتى الآن).

أحمد عيسى

النووي الإيراني: مسار قانوني وانقلاب أميركي على التأسيس

"

مرّ الملف النووي الإيراني منذ نشأته في ستينيات القرن العشرين، بالعديد من المراحل، يُمكن تقسيمها إلى مرحلتين أساسيتين، الأولى هي مرحلة النشأة والتأسيس وإقامة البُنى النووية الأساسية (1958– 2002)، أما الثانية فهي مرحلة الشكوك والمواجهة الدولية (2002– حتى الآن).
البرنامج النووي الإيراني تأسيس أميركي
ترجع البداية الحقيقية للملف النووي الإيراني إلى ستينيات القرن العشرين، وتحديداً إلى عهد الشاه "محمد رضا بهلوي"، الذي كان حليفاً إستراتيجياً للولايات المتحدة الأمريكية، بحيث تجلت البدايات النووية لإيران كثمرة لهذا الحلف عبر برنامج "الذرة من أجل السلام"، الذي أطلقه الرئيس الأميركي "دوايت ديفيد أيزينهاور" في العام 1953، والذي كانت نتيجته توقيع إيران في العام 1957 اتفاقية للتعاون النووي مع واشنطن مدتها 10 سنوات، حصلت بموجبها على مساعدات نووية فنية من الولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة إلى تدريب الكادر البشري التقني والعلماء والمستشارين النوويين. 


الثورة الإسلامية واشتعال شرارة المواجهة النووية
في العام 1979، إثر سقوط نظام الشاه وإنتصار الثورة الإسلامية، مرّ البرنامج النووي الإيراني بتحولات جذرية، تمثلت برفض الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية التعاون في المجال النووي مع إيران بنظامها الجديد، وفرضها حظراً ضدها في كافة المجالات، بالإضافة إلى تعرُّض المنشآت النووية الإيرانية للقصف الجوي والصاروخي العراقي أثناء الحرب العراقية– الإيرانية (1980– 1988).
سرعان ما نجحت الحكومات الإيرانية المتعاقبة في احياء وتفعيل البرنامج النووي، وذلك بالتعاون مع مجموعة من الدول الصديقة (باكستان، الإتحاد السوفياتي، روسيا الإتحادية، الأرجنتين...)، وقد حرصت على أن يجري ذلك تحت نظر ورقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.  
هذه الإنطلاقة الجديدة للبرنامج النووي الإيراني، وهذا التعاون مع مجموعة من الدول غير الصديقة لأميركا، ونتيجةً لفشل الولايات المتحدة الأمريكية، التي صنفت إيران ضمن الدول المارقة الراعية للإرهاب؛ دخل البرنامج النووي الإيراني، وبالتالي إيران، في مواجهة مع المجتمع الدولي، بدأت طلائعها منذ العام 2002، إثر إتهام إيران ببناء منشآت نووية سرية بعيداً عن أنظار ورقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
 
تدويل الأزمة النووية الإيرانية
نتيجة الضغوطات الكبيرة التي شكلتها الأزمة النووية الإيرانية على المصالح الأمنية الأوروبية، وتأثيرها على الإستقرار النووي في الشرق الأوسط، ومن أجل الحؤول دون دفع إيران إلى نقطة اللاعودة – كما حصل مع كوريا الشمالية – تدخلت الدول الأوروبية الثلاث "فرنسا"، "بريطانيا"، "ألمانيا"، التي عُرفت بـ "الترويكا الأوروبية" على خط التفاوض التي أنتجت بعض التفاهمات عُرفت في إيران بإتفاق "سعد أباد"، الذي تم توقيعه في العام 2003، و"إتفاق باريس" في العام  2004، إلا أن فشل المباحثات اللاحقة وبالخصوص تلك المتعلقة بتخصيب اليورانيوم، دفع الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى إحالة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي، الذي أصدر سلسة من القرار (1737، 1747، 1803، 1835، 1929) قضت بفرض سلسلة من العقوبات الإقتصادية والعسكرية والدبلوماسية على الجمهورية الإسلامية.
في العام 2013، إتخذ الملف النووي الإيراني منحاً جديداً مع إنتخاب الرئيس "حسن روحاني" رئيساً جديداً للجمهورية الإسلامية، حيث انطلقت محادثات جديدة كانت نتيجتها توقيع اتفاق مؤقت بين إيران ودول ما يُعرف بـ (5+1)، عُرف باتفاق جنيف للعام 2013، وقد حدد هذا الإتفاق إطاراً زمنياً مدته عام، للتوصل إلى إتفاق نهائي بشأن البرنامج النووي الإيراني، وبموجبه حصلت إيران على بعض الحوافز الإقتصادية، وترافق مع تخفيض الإتحاد الأوروبي للعقوبات المفروضة منه على إيران.

الإتفاق النووي الإيراني الدولي والخذلان الأميركي
توصلت الأطراف المتفاوضة إلى نص إتفاق دولي نهائي وتاريخي حول البرنامج النووي الإيراني بتاريخ 14 تموز/يوليو 2015، قضى بمجموعة تنازلات ايرانية على الصعيد النووي، مقابل رفع العقوبات الأحادية الأميركية والأوروبية بشكل مباشر، ورفع العقوبات الأممية بشكل تدريجي، وفي هذا الإطار اعتقد الجميع من خلال هذا الإتفاق، أن معضلة المسألة النووية الإيرانية قد انتهت، بعد عقود من الأزمات والإشتباكات الدبلوماسية والعقوبات حولها.
لكن العبرة في أي اتفاق تبقى في التطبيق والتنفيذ، فالولايات المتحدة الأميركية وبعد وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، أعلن انسحاب بلاده من الاتفاق النووي نهائيًّا بتاريخ 8 أيار/ مايو 2018، واعادة فرض عقوبات أحادية قاسية على إيران، وكل من يتعامل معها تجارياً، ما دفع بالأخيرة إلى تخفيض التزامتها المقررة بموجب الإتفاق.
وبالنظر إلى هذه العقوبات نجدها غير قانونية، أولاً استناداً لقرار أصدرته محكمة العدل الدولية أواخر العام 2018، جاء لصالح ايران بخصوص الدعوى المتعلقة بالعقوبات الأمريكية ضدها، وثانياً أن هذه العقوبات صدرت بصورة منفردة وليست بصورة أممية، وبمنطق القوة فقط، وثالثاً هذه العقوبات يمكن تصنيفها في خانة الأعمال العدائية بحسب القانون الدولي، والمتناقضة كل التناقض مع مبادئ هذا القانون.

قانونية الخطوات الإيرانية بعد الخروج الأميركي
من الناحية القانونية، أشارت تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية لالتزام إيران بخطة العمل الشاملة المقررة في الإتفاق دون خرقها إلى تاريخ 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، أي ما يقارب 18 شهرًا بعد انسحاب الولايات المتحدة.
وفي هذا السياق، يُسجل لإيران هذا الإلتزام، بحيث أن الفلسفة القانونية لأي عقد أو اتفاق تقوم على وجود التزامات متقابلة، ويعني ذلك أن تنفيذ الطرف الأول لالتزاماته، يقابله تنفيذ الطرف الآخر لالتزامه، والعكس صحيح، عدم تنفيذ أحد الأطراف لالتزامه، يسمح للطرف الآخر بالدفع بعدم تنفيذ الالتزام الذي يقع على عاتقه؛ هذه القاعدة الحقوقية البسيطة والواضحة، يمكن تعميمها على كل عقد أو اتفاق مهما بلغ حجمه، وبالتالي، فإن الاتفاق النووي الإيراني لا يُعد استثناء من هذه القاعدة، وذلك واضح في البندين 36 و37 منه، اللذين شكلا تجسيدًا لهذه القواعد، واللذين يتضمنان آليات حل النزاع بين الأطراف المتعاقدة.
فالمادة 36 من الإتفاق تُقرّ أنه إذا اعتقدت إيران أن أيًّا من الأطراف الأخرى في الإتفاق، أو جميعها، لا تفي بالتزاماتها بموجب خطة العمل المقررة فيه، فيمكنها إحالة المسألة إلى اللجنة المشتركة لحلها، خلال فترة زمنية محددة لا تتعدى في مجموعها الثلاثة أشهر، وهذا ما فعلته إيران بالإبقاء على التزامها ببنود الإتفاق 18 شهراً بعد انسحاب الولايات المتحدة، بانتظار شركاء الإتفاق لحل المشكلة، ولكن عندما وجدت ايران أن الأطراف غير قادرة على الحل، بدأت التخفيف من التزاماتها، وهي خطوات قانونية استناداً إلى الفلسفة العقدية "الإلتزام مقابل الإلتزام"، وإلى المادتين 36 و37 من الإتفاق، التي تنص في أحد بنودها على: "...يمكن للمشارك المشتكي التعامل مع المشكلة التي لم يتم حلها كأسباب للتوقف عن أداء التزاماته بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة بالكامل أو جزئيًّا و/ أو إخطار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة...".

خيارات المواجهة والسيناريوهات المحتملة
لدى ايران مجموعة من الخيارات في مواجهة اعادة فرض العقوبات الاحادية عليها، أبرزها:
1.    رفع دعاوى ضد الولايات المتحدة الأمريكية لدى محكمة العدل الدولية، استناداً لمعاهدة الصداقة الثنائية، المبرمة مع الولايات المتحدة عام 1955، والتي تنتهكها الأخيرة بفرضها عقوبات على ايران.
2.    اللجوء إلى المنظمات التجارية الدولية، كمنظمة التجارة العالمية، لتفعيل حركتها التجارية مع الدول، والتخفيف من الحصار الإقتصادي عليها بفعل العقوبات المفروضة، على اعتبار أن لهذه المنظمات صلاحيات اصدار قرارات إلزامية للدول، ومن بينها الولايات المتحدة الأميركية.
أما السيناريوهات المحتملة حول الإتفاق النووي في المرحلة المقبلة، وأرجحية حصول أي منها فهي بنظرنا كالآتي:
1.    خروج ايران كلياً من الإتفاق، وهذا أمر بعيد الحصول لأهمية الإتفاق النووي بالنسبة لإيران من جهة، وبالنسبة للدول الأوروبية التي تتمسك به بقوة، لما له من تأثير ايجابي لديها على مختلف الصُعد، التجارية، والإقتصادية، والأمنية، والسياسية، والإستقرار في منطقة الخليج العربي الذي يُعتبر ذو أهمية قصوى بالنسبة للشركات الأوروبية، ولإمدادات الطاقة العالمية.
2.    بقاء ايران في الإتفاق من دون الولايات المتحدة الأميركية، وهو أحد الإحتمالات المعقولة بالنظر إلى التعهدات الأوروبية بضرورة الحفاظ على الإتفاق، وبذلك تحافظ ايران على مكتسباتها، وتؤمن غطاء دولي في مواجهة العقوبات والعزلة الدولية، التي تحاول الولايات المتحدة اعادة فرضها، ولكن هذا السيناريو قد يواجه صعوبات في التحقق، نظراً لنفوذ الولايات المتحدة، وتأثيرها الكبير على السياسة الدولية والدول الأوروبية.
3.    التفاوض الشامل مجدداً، وهو ما تحاول الإدارة الأميركية جرّ طهران إليه، علّها تنجح في ادخال مشروع الصواريخ البالستية الإيراني في دائرة التفاوض، إلا أن هذا الأمر بعيد التحقق، نظراً للقرار الحاسم من الجمهورية الإسلامية بشخص مرشدها الأعلى السيد "علي الخامنئي" برفض أي تفاوض جديد، وأن عودة ايران إلى الالتزام الكامل بالإتفاق منوط برفع العقوبات الأميركية، ولا شيء آخر.  
4.    اتفاق جديد بوساطة أوروبية، قائم على الاتفاق القديم مع بعض التعديلات الشكلية، كخارطة طريق، تبدأ بالخفض التدريجي للعقوبات التي فرضتها ادارة "ترامب" على ايران، والتي تربط الأخيرة عودتها الكاملة للإلتزام ببنود الإتفاق برفعها أولاً، بحيث يكون قد حُفظ ماء وجه الولايات المتحدة الأميركية في عودتها إلى الإتفاق، وحققت ايران طلبها المُحق برفع العقوبات غير القانونية، بنظر القانون الدولي وجميع اطراف الإتفاق، وهذا السناريو الأقرب إلى الواقعية، خصوصاً مع استعداد الولايات المتحدة الأميركية بادارتها الجديدة للعودة، ضمن مخرج لائق ترضى به جميع الأطراف.
خلاصة الكلام، امتلكت إيران أسرار الصناعة النووية السلمية، وقد وصلت إلى ذلك داخل الإطار القانوني والشرعي، الذي تسمح به معاهدة عدم إنتشار الأسلحة النووية والبروتوكول الإضافي، والدليل على ذلك عدم إدانة الوكالة الدولية للطاقة الذرية لإيران، وبالتالي مهما حاول الجانب الآخر في اتباعه لسياسة العصا والجزرة -التي تعيها ايران جيداً- فإن احياءً للإتفاق النووي، لن يحصل، إلا وفقاً للشروط الإيرانية والتسليم الأميركي، وهو السيناريو الذي بدأت الكثير من ملامحه تتبلور في الفترة الأخيرة.
 

"

كاتب وباحث لبناني