يمكن القول إن الخفض الطفيف في عديد القوات الأمريكية خارج الحدود، الذي أجراه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، تنفيذًا لوعوده الانتخابية، هو خفضٌ محدود رغم أنه الأكبر منذ 60 عامًا، بحسب إحصاءات البنتاغون، تمامًا كزيادة الرئيس ترامب المحدودة التي لا تندرج ضمن التعديلات الجوهرية على انتشار القوات الأمريكية.
العسكر الأمريكي في الشرق الأوسط: فرص المواجهة وخيار الانسحاب
بداغتيال اللواء سليماني مطلع العام الحالي، وكأنه رسم خطاً عريضاً لنهاية التواجد العسكري الأمريكي المتعاظم في غرب آسيا منذ حرب الخليج الثانيةتتالت عقب الاغتيال ردات فعلٍ حاسمة تجاه الوجود الأمريكي، بدأت بالتشييع الشعبي المهيب والنادر للشهداء، فقصفُ قاعدة عين الأسد الأمريكية بصواريخ باليستية إيرانية وبتبنً رسميٍ واضح من القيادة الإيرانية، في حدثٍ لم تجرؤ عليه دولةٌ قط منذ الهجوم الياباني الشهير على ميناء "بيرل هاربور" عام 1941 الذي شكل الذريعة المباشرة لدخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية وقصف اليابان بالقنابل الذرية للمرة الأولى في التاريخ، ثم قرار البرلمان العراقي الملزم للحكومة بإنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق، وتلاحقت هجماتٌ صاروخيةٌدوريةٌ على السفارة والقواعد الأمريكية في العراق حملت بصمات فصائل المقاومة العراقية التي انسجمت بياناتها حرفياً مع خطاب أمين عام حزب الله اللبناني الذي وضع حينها جميع القواعد والأساطيل الأمريكية في المنطقة ضمن خانة الأهداف المشروعة لردٍ لا يمكن أن يكون سقفه أقل من إخراج الأمريكي كلياً من المنطقة.
لم يُفلح الإعتداء الأمريكي على مقرات الحشد والجيش في كبح جماح الهجمات الصاروخية ضد القواعد الأمريكية، فقد قوبل ذلك بردة فعل شعبية ناقمة وشكوى رسمية من الخارجية العراقية إلى مجلس الأمن الدولي، ما اضطر الولايات المتحدة إلى إجلاء موظفيهاغير الأساسيينمن سفارتها في بغداد وقنصليتها في إربيل، وتقليص تحركات بعض قواتها إلى الحد الأدنى تفادياً لخسائر أكبر، فيما تم التذرع بمواجهة كورونا لسحب بعض القطعات العسكرية من عدة قواعد "غير آمنة"، وهي ذريعة بالغً الأمريكيون في استخدامها في العراق وغيره، فالإعلان عن إجلاء الجنود بسبب كورونا تبعه إعلانٌ آخر يُناقضه بإرسال الفرقة الخاصة المجوقلة 101 إلى العراق للسبب نفسه، بالتزامن مع نشر منظومات باتريوت للدفاع الجوي في قاعدتي عين الأسد وحرير، وتحركات ليلية غامضة في مراكز تموضع القوات التي تشهد هبوطاً وإقلاعاً كثيفاً لطائرات الإستطلاع والشحن والمروحيات، إضافةً إلى إجراءات بناء قاعدة عسكرية جديدة في قضاء هيت بمحافظة الأنبار غرب البلاد عند الحدود مع سوريا، والتي يندرج بناؤها، على ما يبدو، ضمن السعي الأمريكي لمنع أي ترابط بين العراق وإيران من جهة وسوريا ولبنان من جهةٍ أخرى.
تسارعت التحركات العسكرية الأمريكية الواسعة النطاق في المنطقة ككل والعراق بشكل خاص، رغم إعلان الناطق باسم البنتاغون في 25 نيسان الماضي عن وقف تحرك جميع القوات بسبب فيروس كورونا، فوزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي الامريكي روبرت أوبراين، قادا ضغوطًالاستغلال انشغال ايران بمواجهة كورونا والقيام بما أسمته صحيفةنيويورك تايمز "عمليةً دمويةً في العراق" تَلْقى رفضًامن قبل جنرالات مرموقين يعتبرونها "باهظة التكاليفتسعى الإدارة الأمريكية إلى الاستفادة القصوى من تفشي كورونا لزعزعة النظام في إيران وتحصيل مكاسب سياسية في الإقليم، لا سيما العراق، عبر حرمان إيران من الأدوية والمستلزمات الطبية الضرورية لمواجه الفيروس – حتى عبر آلية انستكس للتبادل التجاري الإيراني الأوروبي - ومنع صندوق النقد الدولي من تلبية طلب إيراني "نادرلقرض بقيمة 5 مليارات دولار للغاية نفسهايأتي ذلك ضمن سياسة "الضغوط القصوى على إيران" التي تنتهجها إدارة ترامب بتشديد الحصار والعقوبات والضخ الإعلامي وتسعير التوترات السياسية والأمنية، في الخارج خصوصًا في العراق ولبنان أو في الداخل لاسيما في المناطق الحدودية ذات التنوع العرقي، بالتزامن مع تكثيف الهجمات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سوريا ضمن ما بات يُعرف عبرياً بـ"المعركة بين الحروب".
بالمقابل عادت مضايقة الزوارق الإيرانية السريعةللقطع الحربية الأمريكية في مياه الخليج، وعاد ترامب ليهدد بتدمير أي هدف إيراني يقترب من قواته -دون أي إعلان من البنتاغون بتلقيه أمرًا من هذا النوع - ما عزز الاعتقاد بعودة تصعيد مشابه للعام الماضي الذي شهد إسقاطًا لطائرة تجسسٍ أمريكية واستهدافًا لناقلات نفط في ميناء إماراتي وإنزالًا لقواتٍ إيرانيةٍ خاصة على ناقلة نفط بريطانية في تموز 2019 واحتجازها لأشهر رداً على احتجاز ناقلة نفط إيرانية متجهة إلى سوريا في جبل طارقلكن الوقائع فعليًا لا تؤشر إلى مزيد من التوتر غير المضبوط فقد حصلت سابقًا احتكاكات أكثر خطورةً في الخليج، وتم ضبطها كالاعتقال المُذل لجنود مشاة البحرية الامريكية على يد حرس الثورة الإيراني في مياه الخليج في كانون الثاني ،2016 أو اعتقال بوارج حربية إيرانية لجنود بريطانيين من فرقاطة Cornwall HMS"" في .2006
تصاعدت بالمقابل وتيرة الاستفزازات العسكرية الأمريكية في غير منطقة من العالم، فالاحتكاكات بين البحريتين الروسية والأمريكية قبالة الشواطئ السورية في البحر المتوسط، وقبالة شواطئ شبه جزيرة القرم ومضيق كيرتش في البحر الأسود، تُوّجت بولوج بوارج أمريكية إلى بحر بارنتس للمرة الأولى منذ عقود بحجة مواجهةالسعي الروسي لكسر التفوق البحري الأمريكي"، كما توجت التحركات العسكرية المتنامية في البلطيق بإجراء مناورة ضخمة في بولندا للتدرب على نقل القوات الأمريكية إلى الحدود الروسيةأما على الجهة الصينية، فقد استمرت الاستفزازات في بحر الصين الجنوبي وبلغت ذروتها مؤخراً في نهاية الماضي، حين أقدمت البحرية الصينية على طرد مدمرة أمريكية من مضيق تايوان بالقوةأعطت هذه الحوادث مصداقيةً أكبر للحديث عن إستدارة أمريكية كاملة نحو الشرق الأقصى، وإعطاء الظهر للحلفاء في الشرق الأوسط وللمنطقة ككل، ضمن سياقٍ من التحوّلات الجذرية في الاهتمامات الأمريكية من العراق وأفغانستان إلى أوروبا، لمواجهة روسيا بعد أزمة أوكرانيا واستعادة روسيا للقرم، ومن غرب آسيا إلى شرقها لمواجهة صعود الصين وحصار مشاريعها كعقد اللؤلؤ وخط الحرير، لكن ذلك كله لم يحل في الواقع دون استمرارالتركيز الامريكي على الشرق الأوسط الذي لم تنخفض قيمته الاستراتيجية العابرة للإقليم عقب الحرب الباردة كما كان يّظن، ولا يبدو أنها ستنخفض اليوم، استناداً إلى مؤشر تضاؤل أهمية النفط العربي مقابل النفط الصخري الأمريكي. فهذه المنطقة لم تفقد خصائصها التقليدية الأساسية التي جعلتها مطمعاً دائماً للقوى الكبرى، كوقوعها على خطوط الملاحة الدولية الرئيسية، واختزانها للطاقة وقربها الجغرافي من أوروباخصائصٌ لا تسمح مطلقًا لواشنطن بالغياب عن مسرح عمليات هذه المنطقة، الذي تتوثب قوىً معادية لملأ أي فراغٍ سياسيٍ أو أمنيٍ يطرأ عليه، فالخطط الحربية الأمريكية تعتمد بشكل رئيسي على هذه المنشآت والتموضعات التي تُعتبر مراكز عسكرية مستقلة ومتكاملة يحظى فيها الأمريكيون - والبريطانيون غالبًا - بتسهيلاتٍ قانونية ولوجستية ومالية واسعة النطاق ممنوحة لهم من قبل الدولالمضيفةتشمل استخدام المجال الجوي والمياه الإقليمية والموانئ والمطارت المدنية والعسكرية وعمليات التزود بالوقود، وتخزين عتاد وأسلحة بالغة الكلفة وهائلة القدرة التدميريةوالصيانة ونصب محطات الاتصالات والتجسس والراداركما أن التواجد العسكري ما يزال مريحًا لاتخاذه أُطراً قانونيةً تميزه عن الاستعمار الكولونيالي الذي شهدته المنطقة خلال القرون الماضي، على شكل معاهدات تعاون دفاعي و/أو جماعي، ورفعه لعناوين إيجابية كالمحافظة على أمن الخليج والطاقة والممرات الدولية، وما يزال يمنح تفوقًا عسكريًا للجيش الأمريكي، ويتيح لواشنطن التحكم بإمدادات النفط وممرات الملاحة كمضيقي هرمز وباب المندب وقناة السويس ومحاصرة إيران، والسيطرة على التسليح العربي بما يضمن اختلاله لصالحإسرائيلوحصره بشركات السلاح الغربية وخصوصًا الأمريكية.
يمكن القولن الخفض الطفيف في عديد القوات خارج الحدود الذي أجراه الرئيس الأمريكي السابقأوباما، تنفيذًا لوعوده الانتخابية، هو خفضٌ محدودجداً رغم أنه الأكبر منذ 60 عاماً، بحسب إحصاءات البنتاغون، تماماً كزيادة الرئيس ترامب المحدودة التي لا تندرج ضمن التعديلات الجوهرية على انتشار القوات الأمريكية كما يحب ترامب أن يدّعي، فهي لا تقارن مثلاً بحجم الزيادة التي أجراها جورج بوش الأب، وهي زيادة في أماكن محددة توازي تقليصاً في أماكن أخرىهذا ما ينسجم مع توجهات الإدارات الأمريكية المتعاقبة في الحفاظ على قواتها المنتشرة حول العالم كعصا غليظة طويلة لفرض إرادتها وتنفيذ عمليات عسكريةلا ترقى إلى مستوى الحرب" عند الحاجة، انطلاقاً من عدم سماح الدستور الأمريكي للرئيس بإعلان الحرب دون موافقة الكونغرسهذا ما يحاول الرئيس ترامب أن يستغلّه إلى الحد الأقصى فما تحدثت عنه "وول ستريت جورنال" مؤخراً، من سحب لجنود وبطاريات باتريوت، تمّ نشرها خلال فترة التوتر في مياه الخليج، فسّرته وكالة "رويترز" بأنه يأتي ضمن حزمة الضغط الأمريكي على السعودية، لخفض الانتاج النفطي الذي إرتد عكسياً وطال تأثيره السلبي الشركات النفطية الأمريكية أكثر من الروسية والإيرانية، واستفادت منه الصين بشكل كبير، وقد يكون مردّه رغبة واشنطن في فرض المزيد من مبيعات الأسلحة للسعودية بحجة تعويض النقض الناتج عن سحب الأسلحة الامريكية، بما يعنيه ذلك من تعزيز ودعم كارتلات الصناعات العسكرية الأمريكية، وتعويض النقص في الوظائف والحد من أضرار البطالة التي خلفها وباء كورونا حتى ولو كان ذلك على حساب أمن المنطقة كما ألمحت مجلة "فوربز"، التي اشارت الى أنه لا حاجة استراتيجية لمنع التصعيد العسكري في الوقت الحالي، إذ لا مخاوف تًخشى من ارتفاع سعر النفط بل على العكسخصوصًا في ظل مخاوفٍ من دخول الإقتصاد العالمي في ركود مشابه لما حدث أثناء الكساد العظيم، وفي خضم الاستعدادات الأمريكية لخوض الانتخابات القادمة في ذات الأهمية البالغة للرئيس الأمريكي ترامب!
يُقال أن تبريد الأجواء الإقليمية بتكليف الكاظمي برئاسة الحكومة في بغداد وقبله دياب برئاسة الحكومة في بيروت هو تنازل إيراني إستطاعت الإدارة الأمريكية تحصيله بإستثمارها الجيد للشارع في البلدين وللعقوبات الإقتصادية في زمن كورونا، فهل يوفر ذلك ظروفًا تخلق بيئة مناسبة لترتيبات أمنية متعددة الأطراف تُقلم فيها أظافر إيران الإقليمية مؤقتًا؟ أم أن أمام الولايات المتحدة، منذ إغتيال اللواء سليماني، خياران مؤجلان، إما الإنسحاب من المنطقة أو المواجهة العسكرية الشاملة؟
"Related Posts
كاتب لبناني