Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

لعل أولى التجارب العربية في الاستفادة من الإعلام الجديد في الحركات السياسية الشعبية الاحتجاجية كانت مع حركتي كفاية و6 إبريل المصريتين قبل اندلاع ثورة يناير عام 2011، ومن ثمّ شهدنا حضوراً قوياً لهذا الإعلام في كل الساحات التي شهدت تحركات فيما بعد من تونس إلى مصر نفسها، وليبيا، والأحداث السورية، والبحرين، واليمن وغيرها

مصطفى خليفة

الحراك اللبناني بين الإعلام التقليدي والمعاصر

"

وكأنه كتب لهذا الوطن أن يكون وطن الاستثناءات. هو استثناء في نظامه السياسي الغريب، واستثناء في دوره ومركزيته في منطقة الشرق الأوسط على صغر حجمه، كما في مقاومته التي جعلته لاعباً أساسياً على مستوى الإقليم، هو الوطن الذي ينتظر شهوراً لتتشكل فيه حكومة تدير شؤونه ومشاكله الجمة.

استثناؤه هذا امتد على ثورته وانتفاضته الشعبية بمعظم جوانبها، وأحد هذه الجوانب والأوجه هو مركزية دور الإعلام التقليدي (شاشات التلفزة والصحف) على حساب الإعلام المعاصر (وسائل التواصل الاجتماعي خاصةً) على خلاف كل الثورات والحركات الاجتماعية التي شهدناها مؤخراً في محيطنا العربي.

لعل أولى التجارب العربية في الاستفادة من الإعلام الجديد في الحركات السياسية الشعبية الاحتجاجية كانت مع حركتي كفاية و6 إبريل المصريتين قبل اندلاع ثورة يناير عام 2011، ومن ثمّ شهدنا حضوراً قوياً لهذا الإعلام في كل الساحات التي شهدت تحركات فيما بعد من تونس إلى مصر نفسها، وليبيا، والأحداث السورية، والبحرين، واليمن وغيرها حتى من بعض الدول الأوروبية، بل وحتى في أحداث وال ستريت في الولايات المتحدة.

حيث استطاع الإعلام المعاصر من حجز مكانة شعبية هامة ودور مركزي مرافق لأي حراك مطلبي، من خلال قدرته على تأمين منصة إعلامية لقوى معارضة غير قادرة على إيصال صوتها عبر الوسائل التقليدية التي تسيطرعليها الأنظمة الدكتاتورية المستبدة كما في بعض الدول، أو الرأسماليات الحاكمة في دول أخرى، والتي تقرر حجم ونوع المعرفة المقدمة للجمهور من خلال الإعلام. كما ساهم في إيجاد مجتمع فعلي افتراضي شكّل بديلاً للطبقات الاجتماعية المهمشة عادةً في المجتمع الواقعي الحقيقي، ضمن إطار من الديمقراطية غير المتوفرة في الواقع الخارجي،والتي تتمثل في التفاعل الجماعي Interaction many to many بين الأفراد، وتخطي حواجز الرقابة لإفساح المجال أمام المشاركة في النقاش العام حول القضايا والمصالح والأحداث المستجدة.وهذا إضافةً إلى تحول الجمهور مع هذا النوع الجديد من الإعلام من مجرّد متلق سلبي إلى مساهم حقيقي في صناعة الخبر ونشره، ما سمح له في أن يمتلك بلاغته الخاصة، حيث لم تعد السياسة شأن النخبة والصفوة وتحولت إلى ثقافة شعبوية، الأمر الذي كان له دور كبير في تنامي الحركات الاحتجاجية وتطورها في أكثر من مكان.

إلا أن غفلة الأنظمة – بتنوعاتها – عن الوافد الجديد على عالم الإعلام لم تدم طويلاً، حيث برزت بشكل واضح وجلي سعيها لمحاولة التكيف معه، لتوظيفه والاستفادة منه، وهذا ما تجلى على المستوى السياسي في الحملة الانتاخبية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، كما في الحراك المطلبي الجاري في لبنان. حيث بدأت تلك الأنظمة بتطوير أدواتها للاستفادة من الاعلام المعاصر في الترويج لدعايتها السياسية من جهة، إضافةً إلى تطوير قدراتها لضبطها وتعقب المعارضين وملاحقتهم، وسن التشريعات التي تمكنهم من التحكم والرقابة على المواد المنشورة، ما قلّص إلى حدّ كبير هامش الحرية الذي كان متاحاً لهم من خلالها.

وفي نظام كالنظام اللبناني، الذي تتقاسم السلطة فيه مجموعة من الأحزاب الكبرى، شهدنا توجهاً كبيراً لتلك الأحزاب لبناء جيوشها الرقمية الخاصة، والتي تميزت بحضور مؤثر ومنظم (مستفيدة من التنظيمات الحزبية الداخلية)، وتأمين الغطاء الحزبي والحماية للناشطين ضمن تلك الجيوش، إضافةً للتفوق في القدرات المادية والمعلومات، الأمر الذي سحب تلك الأداة من أيدي الأفراد العاجزين عن مواجهة الماكينات الحزبية كماً ونوعاً، وبالتالي تحوّل الإعلام الجديد من فضاء مفتوح ومنصة تعبر عن أراء الشريحة العاجزة عن الوصول إلى الامبراطوريات الإعلامية الكبرى إلى جزء من تلك الامبراطوريات تروج لسياساتها وشعاراتها وخياراتها، وبالتالي دخلت وسائل التواصل الاجتماعي في ميدان الحروب الداخلية بين تلك الأحزاب عوضاً عن أن تكون منبراً للمطالب الشعبية وساحةً لمواجهة الحكومات المتعاقبة وقراراتها.

ولذلك لم نشهد لوسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر) حضوراً قوياً ومؤثراً في اندلاع الاحتجاجات الداخلية في لبنان المستمرة من يوم 17 تشرين الأول 2019 حتى يومنا هذا، واحتلت مكانها بعض الوسائل الإعلامية غير الحزبية (ولا نقول انها حيادية في تغطيتها أو أنها كانت منحازة للمطالب الشعبية) مستغلّةً عجز الإعلام الجديد عن القيام بدوره للأسباب أعلاه، فحاولت من خلال اعتمادها سياسةً شعبوية، قاربت فيها بشكل كبير مناخ وسائل التواصل الاجتماعي، لتقود المواكبة الإعلامية للأحداث من خلال فتح الهواء مباشرة على مدار الساعة (خاصةً في الأسابيع الأولى) لتغطية التحركات والمظاهرات، مع اعتماد سياسة استصراح المتظاهرين من الساحات أثناء التغطية عوضاً عن استقدام الخبراء والمحللين إلى استديوهاتها، كما تخصيص فترات الذروة لبرامج مختصة بالأحداث الجارية، تستضيف خلالها أيضاً الناشطين والمؤثرين من الحراك في محاولة لتحويلها لمنبر بديل مفتوح لهم بشكل دائم. ويضاف إلى ذلك الدور الذي لعبته مجموعات تطبيق الواتس أب، التي ساعدت في تشكيل تجمعات مغلقة يتبادل أعضاؤها داخلها الأراء ويتناقشون في التطورات، بل ويتفقون على الخطاوت التصعيدية والتحركات التي تحدث على أرض الواقع.

يمكن كخلاصة عامة أن نستنتج بأنّ الدور الذي لعبه موقع الفيسبوك خصوصاً في مواكبة الاحتجاجات الشعبية، وتأمين منبر مفتوح من الحرية للشعوب لم يعد صالحاً تماماً، إن على مستوى قضايا الأمة حيث صار محظوراً على أعداء الإدارة الأمركية والكيان الصهيوني مناصرةً قضاياهم واستعراض جرائم الاحتلال الإسرائيلي وغيرها، وإن على المستوى الداخلي حيث باتت القوى المحلية تسيطر بشكل قوي على هذه المساحات الافتراضية. وهنا علق أصحاب المطالب الشعبية في لبنان بين براثن الإعلام المملوك من أصحاب رؤوس الأموال، والذي بات هو يقرر متى يناصرهم ويرى فيهم ثواراً محقين، ومتى يكونون عناصر شغب فاسدين ومندسين.

"

كاتب وإعلامي لبناني