يرى جو بايدن برئيس الوزراء الياباني يوشيهيدي سوجا حليفاً رئيسياً له. مع تصاعد التوتر مع الصين، تحاول الولايات المتحدة استمالة طوكيو لصالحها من جديد. الأخيرة لم تخرج من عباءة الولايات المتحدة، هذا صحيح، إلا أن سنوات مرحلة ما بعد الحرب الباردة شهدت فتوراً في العلاقات بين البلدين. فمنذ مطلع التسعينيات حل التنافس الاقتصادي بدلاً عن التعاون الاستراتيجي، وهو ما لم تستدركه الإدارات الأميركية المتعاقبة.
أميركا ليست بخير
يرى جو بايدن برئيس الوزراء الياباني يوشيهيدي سوجا حليفاً رئيسياً له. مع تصاعد التوتر مع الصين، تحاول الولايات المتحدة استمالة طوكيو لصالحها من جديد. الأخيرة لم تخرج من عباءة الولايات المتحدة، هذا صحيح، إلا أن سنوات مرحلة ما بعد الحرب الباردة شهدت فتوراً في العلاقات بين البلدين. فمنذ مطلع التسعينيات حل التنافس الاقتصادي بدلاً عن التعاون الاستراتيجي، وهو ما لم تستدركه الإدارات الأميركية المتعاقبة.
رئيس الوزراء الياباني يوشيهيدي سوجا هو أول زائر أجنبي للبيت الأبيض بعد انتخاب بايدن رئيساً اليوم. لسوجا وبايدن همٌّ مشترك يتمثل بكيفية احتواء الصين. في لقائه مع مجلةNewsweek قال رئيس الوزراء الياباني أن الولايات المتحدة واليابان تقودان خارطة طريق الرؤية الاستراتيجية للمحيطين الهادئ والهندي. جنباً إلى جنب وبمعاونة كل من الهند وأستراليا، تتطلع اليابان والولايات المتحدة لإحكام الطوق على بكين. يستعيد سوجا رؤى رئيس الوزراء الياباني الأسبق ياسوهيرو ناكاسوني لبلاده، عندما أعلن منتصف الثمانينيات عزمه جعل دولته "حاملة طائرات غير قابلة للإغراق". مستشار الأمن القومي الأميركي السابق هربرت ماكماستر عبر عن كون العلاقة بين الولايات المتحدة واليابان اليوم هي أهم ما يمكن أن تتحصل عليه واشنطن في السياسة.
يتركز قلق كل واشنطن وطوكيو اليوم على توغلات بكين بالقرب من جزر سينكاكو - المتنازع عليها بين اليابان والصين -، والتهديدات الصينية المتلاحقة لتايوان. انتهاكات حقوق الإنسان في هونغ كونغ وشينجيانغ هي الشماعة الأخرى التي يتطلع من خلالها البلدين لمواجهة بكين.
تريد اليابان المحيطين الهندي والهادئ، منطقة حرة ومفتوح في آن. هذه صيغة رئيس الوزراء الياباني السابق شينزو آبي لمعالجة التوتر مع بكين. فيما يطالب المسؤولون الأميركيون اليوم طوكيو رفع موازنة إنفاقها الدفاعي. المسؤولون في البنتاغون يحثون اليابانيين على الانتقال من الدفاع إلى الردع. هم اقترحوا على سوجا خلال زيارته الأخيرة لواشنطن الحصول على صواريخ أرضية يمكنها ضرب القوات الصينية. "كلما زاد عدد صواريخنا في المحيط الهادئ كان ردعنا أكبر"، هذا ما قاله أحد مسؤولي البنتاغون لمجلة نيوزويك.
نقاش استراتيجية الولايات المتحدة في الباسيفيك، هو جزء من نقاش أكبر اليوم وسط نخب السياسة الأميركية حول الالتزامات التي ينبغي الاحتفاظ بها في العالم. يعترف الأميركيون أن ثمة تراجعاً أميركياً على مستوى موازين القوى العالمية ويختلفون في تحديد حجم هذا التراجع، وآلية التعامل معه.
يحاول الأميركيون جاهدين تحديد أولويات وجودهم عالمياً. ما هي أهمية كل منطقة من العالم وأيها أولى في الإنفاق والحضور العسكري؟. يختلف الباحثون في تحديد هذه الخارطة لكنهم يتفقون على ضرورة إيلاء منطقة بحر الصين والمحيط الهادئ الأولوية. في مقال لشارلز غلاسر (مدير معهد دراسات الأمن في جامعة جورج واشنطن) في الفورن أفايرز قبل أيام، يرسم غلاسر خارطة الأولويات الأميركية. بحر الصين، والباسيفيك، أولاً. من بعدها يأتي "الخليج الفارسي" وأوروبا.
ليس هذا فحسب، هو يضع أولويات ضمن خارطة الباسيفيك. فبكين عززت قدراتها في منع الوصول/المنطقة العازلة (2D/AD أو استراتيجية منع الخصم من احتلال أو عبور منطقة، أرضاً أو بحراً أو جواً) لمنع القوات الأميركية من العمل بالقرب من الأراضي الصينية. الخيار الأميركي الأفضل بحسب غلاسر هو تقليص التزامات الولايات المتحدة في شرق آسيا. منح بكين مساحة أكبر في بحر الصين الجنوبي. التخلي عن تايوان كحليف هامشي (تايوان ليست مصلحة حيوية أميركية نظراً لحجمها وموقعها القريب من الشواطئ الصينية ما يضعها في مرتبة دنيا على سلم الاهتمام الأميركي)، والإبقاء على حماية الحليفين الاستراتيجيين "اليابان وكوريا الجنوبية".
ضحايا سياسات الذعر:
"هنالك شيء ما سيُبنى، وإذا لم نشارك في هذا البناء فإن الآخرين سيحددونه لنا". هذه إحدى الجمل التي أراد أيمانويل والرشتاين إنهاء كتابه "نظام العالم الحديث/ The Modern World System" بها. ثمة قلق من المستقبل، ومن فقدان الولايات المتحدة هيمنتها على العالم. الذعر من فقدان الهيمنة هو عين فقدان الهيمنة يقول والرشتاين. قلق الهوية، الحظوة، المكانة، والتي نراها جلية عند الكثير من مناصري الولايات المتحدة، ليست إلا ترداداً "وإن بشكل كاريكاتوري" لقلق يساور قلب النظام العالمي. نداءات الرئيس النيجيري محمد بخاري، للولايات المتحدة للنظر في نقل القيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) من ألمانيا إلى إفريقيا. مطالبات البطرك الراعي في لبنان المجتمع الدولي (يقصد أميركا) التدخل لإنقاذ لبنان، وغيرها من المطالب، ليست إلا تعبيراً صارخاً عن تراجع أصاب قلب النظام العالمي.
بالمحصلة، أميركا ليست بخير. هي غير تلك القوة العالمية التي أخرجت البشرية من حربين عالميتين. الجيش الأمريكي يفتقد زهو صورته منتصراً. هو لا يخرج اليوم من أفغانستان بنفس صورة خروجه المذل من سايغون. هذا صحيح. لكن أميركا تخرج من أفغانستان اليوم أضعف مما كانت عليه في قبل خمسة عقود عندما كانت قواتها تائهة في غابات كوانغ تشي. عودة لمطلع السبعينيات، وفي ذروة الغرق الأميركي في وحل فييتنام، كان الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون قادراً على اجتراح سياسات جديدة من الوفاق مع الاتحاد السوفييتي، حتى في أكثر لحظات فييتنام حرجاً. في هلسنكي عام 1975، بدت أميركا قادرة على دق أول معول في جدار برلين من خلال "مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي". اليوم، لا تبدو الولايات المتحدة شبيهة ذاتها قبل خمسة عقود. صورة أمريكا تغيرت. هي أكثر عجزاً وضعفاً. لا تبدو أميركا قادرة حتى على تنظيم مؤتمر للأمن والتعاون بين حلفائها الشرق أوسطيين. بايدن يعاجل الوقت في خسارة حلفائه دون بديل، هو توج السياسات الأميركية العدوانية تجاه تركيا (والمتصاعدة منذ كانون الثاني 2020، بعد فرض عقوبات قاسية على الصناعات الدفاعية التركية) بإعترافه بالإبادة الجماعية الأرمنية. هآرتس عنوَنت قبيل أيام: "لم تعد تركيا شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة بعد اليوم" في تعليق الصحيفة على اعتراف بايدن بالإبادة الأرمنية. سيمون وولدمان (وهو باحث زائر في معهد لندن الملكي) في هآرتس يقول: يعرف بايدن جيداً بأن تركيا عضو في حلف الناتو، وحصن سابق للولايات المتحدة كانت قد عملت من خلاله طوال الحرب الباردة ضد التوسع الشيوعي، وبأن أنقرة شريك في الحرب على الإرهاب، وهي خط دفاع متقدم ضد التهديدات المنبثقة من منطقة معادية. ومع ذلك، هو حافظ على تعهدات حملته الانتخابية، فاعترف بالإبادة الجماعية الأرمنية.
تتلاعب أميركا بخرائط حضورها العالمي إيفاءً بتعهدات لجمهور محدد من الناخبين. حال أميركا سيكون أصعب مع ايفاء بايدن بدينه الثاني لناخبيه، والمتمثل بإعلانه انسحاب كامل القوات الأميركية من أفغانستان في 11 أيلول/سبتمبر من هذا العام. خطوة بايدن هذه ستشرع السؤال حول خريطة انتشار الجيش الأميركي في العقود القادمة، وهو ما تخشى دولة الأمن القومي الأميركية من الاسراف في تقدير مضاره. قبيل أيام، وخلال لقاء بين أعضاء لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب مع كل من هيلاري كلينتون وكونداليزا رايس، أعربت الأخيرتان عن مخاوفهما من الانسحاب الأميركي من أفغانستان. رايس قالت أن على الجيش الأميركي ألا يسحب ورقة "عودته إلى أفغانستان" عن طاولة الطرح. "قد تحتاج الولايات المتحدة إلى العودة مجدداً". كلينتون بدورها دعت إلى مواصلة الحرب على الإرهاب من نقاط محاذية لأفغانستان. وقوف الاثنتين على الطرف النقيض من بايدن يطرح الأسئلة واسعة حول عائد هذه الخطوة في الداخل الأميركي.
كيف ستكون خارطة انتشار الجيش الأميركي مستقبلاً؟ سؤال قد يبقى معلقاً بانتظار استمكال بايدن ملامح استراتيجية الخارجية الجديدة. الوقت لا يسعف الرجل. موازين القوى تتغير بشكل سريع. قد تطول فترة التحول هذه بانتظار بناء مؤسسات النظام العالمي البديل. يشبه عالم اليوم بنحو كبير عالم ما بين الحربين العالميتين. بنى سياسية تتصدع وتنهار، نظم مالية ونقدية تتخذ مواطن جديدة، وعالم قيد الولادة لم يبصر النور بعد. الثابت الوحيد أن الولايات المتحدة ليست بخير، وأن ثمة ضحاياً كثراً لسياسات الذعر الأميركية اليوم، وغداً، وحتى حين.
"Related Posts
رئيس تحرير صحيفة الخندق