Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

يمكن أن نقول أي شيء عن العلاقات الإنسانية وحركتها، خاصة في عالم الجنوب، إلا قدرتنا على التنبؤ بمسارها، وخواتيمها المفترضة. وليس هناك من شعب رشيد، أو نخبة قادرة على حسم ومعرفة مآلات الأمور وإلى أين يمكن أن تذهب. بل لعل مسار حركات الشعوب يشبه المسار اللاعقلاني غير الخطي أكثر من كونه عقلانياً أو خطياً

سامر غدار

ثورة لا يمكن التنبؤ بمآلاتها

يقول الفيزيائي الشهير ريتشارد فيمان: "تخيل كم كانت الفيزياء لتكون أصعب على الفهم لو أن للذرات مشاعر".

***

بدأ دخول الرياضيات في العلوم الاجتماعية، وخاصة الاقتصاد، مع بول سايملسن في كتابه التحليل الاقتصادي الصادر سنة 1948. ومن بعدها، توالت الاستعمالات في مجالات العلوم الاجتماعية كافة، والعلاقات الدولية خاصة. وهكذا صارت العلوم الاجتماعية مبنية على نظريات يدعمها الرياضيات الإحصائية في الاقتصاد والمبادئ العامة لقوانين المنفعة، وعلى الركن الأساسي لتلك القوانين؛ الإنسان الرشيد الذي يبني قراراته بناءً على أسلوب علمي يوازن المنفعة العظمى الممكنة بأفضل الطرق. لكن الخلل الأساسي في هذا المنطق، ظل كامناً في تجاهل الشعور الإنساني الفردي، الذي بطبيعته ليس رشيداً، والشعور الجمعي المجتمعي الذي يبتعد كثيراً عن الرشد والمنفعة العامة بكليتها.

قبل أسبوع، لفت انتباهي تعليق لأستاذ العلاقات الدولية، جون ميرشايمر، في جامعة إلينوي، عندما قال "أنه حينما يستمع إلى القادة السياسيين الغربيين، يقول لنفسه أن أياً منهم لم يأخذ حتى كورس/ مقرر واحد عن الاستراتيجية للمبتدئين". وربما في قوله هذا إشارة إلى غياب الاستراتيجية عند الزعماء الغربيين في تعاطيهم مع القضايا العالمية، وقضايا عالم الجنوب بشكل خاص.

في الحقيقة، يمكن أن نقول أي شيء عن العلاقات الإنسانية وحركتها، خاصة في عالم الجنوب، إلا قدرتنا على التنبؤ بمسارها، وخواتيمها المفترضة. وليس هناك من شعب رشيد، أو نخبة قادرة على حسم ومعرفة مآلات الأمور وإلى أين يمكن أن تذهب. بل لعل مسار حركات الشعوب يشبه المسار اللاعقلاني غير الخطي أكثر من كونه عقلانياً أو خطياً.

تأخذني هذه المسألة إلى الحدث السوري الكبير الذي أعلق عليه من زاوية لبنانية بحتة. الشعب اللبناني عموماً، وسياسييه خصوصاً، ليسوا بعيدين عن المبالغة في التحليل واستشراف مستقبل منطقة شرق المتوسط. فيما المسار العام للأمور يشبه حركة أسواق المال، فمن يربح يعتبر سيتربع على عرش المعرفة كسيد مطلق الإحاطة، ومن يخسر يتهيأ له أنها نهاية العالم، وأن الخسارة ستتلوها الخسارة. وفي كلتا الحالتين، يخطئ الجميع التقدير، لا لشيء سوا أن مسار الشعوب والمجتمعات لا يسير بشكل خطي من نقطة أ إلى نقطة ب. بل يكون مساراً صعباً تحركه جملة مشاعر مجتمعية لا قدرة لأحد على التنبؤ بها. ولكل من يحاول استشراف المستقبل أقول له: لا تنتشِ ولا تنكسر بناءً على مشاعر فردية آنية، لأنك قد تعرف لحظتها الآن، لكن قد تنعدم قدرتك على توقع نتائجها المستقبلية.

كاتب وباحث اقتصادي لبناني