Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

ربما لم يأخذ النزوح الفني اللبناني نحو منابع الدولارحقه من التداول والنقاش بقدر تصريحات الفنانين "الصادمة" لجمهور المعجبين بصورة "الفنان" الرومانسية الكاملة. فبقي "كبار" النجوم بعيداً عن النقد لسنوات كأنصاف آلهة ورثهم الوطن عن الزمن الجميل المجهول الهوية

علي حمية

سوبر ستار التسلّق

ربما لم يأخذ النزوح الفني اللبناني نحو منابع الدولارحقه من التداول والنقاش بقدر تصريحات الفنانين "الصادمة" لجمهور المعجبين بصورة "الفنان" الرومانسية الكاملة. فبقي "كبار" النجوم بعيداً عن النقد لسنوات كأنصاف آلهة ورثهم الوطن عن الزمن الجميل المجهول الهوية.

وعلى عكس الصورة المتخيلة، بالكاد يفقه الفنانون والفنانات اللبنانيون في أمور الفن فضلاً عن غيرها، فغالبهم سلكوا طريق الشهرة بفضل الحظ والصدفة، وبعضهم تقاطعت على إسمه مصالح تجاريةٌ في مجالٍ يدر الملايين فغدا نجماً، أو انخرط في لجانٍ تحكيمية في برامج فنية ترفيهية فصار يقيم مواهب تفوق موهبته بأضعاف دون أي اعتبارات علميةٍ أو فنيةٍ سوى الحظوة عند أولي الأمر الفني، فظهر بمظهر من "يداوي الناس وهو عليل".

أما اليوم، فقد فضحت مواقع التواصل مستوى الفنانين الضحل وعجزهم عن الكتابة بالعربية. انسحب ذلك على من حاول الهرب إلى الإنكليزية، ليبدو اكثر تحضراً فوقع في أخطاء مضحكة لم يسلم منها إلا من أوكل الكتابة عنه تفادياً للمزيد من "الجرصة". وقد لا يقتصر الأمر على الكتابة، إذ لا يجيد معظم فنانينا نطق جملة فصيحة كاملة بالعربية أو الانكليزية ولا تقديم فكرة مترابطة او الإجابة على سؤالٍ بشكلٍ متزن إلا ما ندر. فيُستعاض عن ذلك بشراء ملايين المتابعين والإعجابات والدفع لشركات الترويج. رغم ذلك، يحظى هؤلاء بمتابعة الملايين وتتناقل وسائل الإعلام تصريحاتهم الهمايونية كأنها صادرةٌ عن مجمعٍ علمي مختص او صاحبِ فكرٍ ورأيٍ مشهود له بالحكمة، ما يجعل المسؤولية الأكبر على مستخدمي وسائل التواصل في ترسيخ القاعدة الدارجة بأن "الهراء بوابة الشهرة"، أذ تجتذبهم أخبار الفضائح واستخدام الألفاظ النابية والتنمر والتصرفات البهلوانية الغبية.

يشارك الإعلام في "الجريمة" حين يستصرح آراء الفنانين في مجالات السياسة والاقتصاد والعسكر والطب وغيرها من المجالات التي يُعد الفنانون وهؤلاء يعطون، بلا خجل، آراء يسمعها الملايين وتسهم في تشكيل قناعاتهم وأفكارهم. فيما لا تتاح هكذا فرصة للخبراء الذين تُزجى آراؤهم الحصيفة جانباً ولا يكاد يسمع أحدٌ بهم رغم ما أفنوه من عمرهم في التخصص العلمي. فاستمزاج رأي مطربٍ أو فنان في شؤون سياسيةٍ أكثر جدوى، على الرغم من ميل فناني العرب، وغيرهم، في مجال الغناء والرقص إلى من يملك مفاتيح شهرتهم وحنفيات الدولارات والذهب المفتوحة؛ أي الحكومات الخليجية التي تنفق بلا حساب لتشتري من يسبح بحمدها ويثني عليه من المشاهير.

لقد أدرك الفنانون كلمة السر هذه بسرعة. فانطلق ماراتون تملق المؤسسات الفنية الخليجية، لا سيما رئيس مجلس الهيئة العامة السعودية للترفيه تركي آل الشيخ، الذي يخاطبه الفناون بتذلل لا قعر له، بل ويتسابقون في تأدية فروض الطاعة والخضوع لمعالي "المستشار الشيخ أبو ناصر كما يلقّب". حتى جاز القول إن الفن العربي يمر اليوم بمرحلة "البوناصرية" بعد أن مر بمراحل ومدارس كثيرة لم تبلغ أيٌ منها ما بلغته المرحلة الحالية من الانحطاط إلى الحد الذي صار فيه اسم ابو ناصر مرادفاً للإبتذال والتملق.

لا يُزعج الأمر تركي آل الشيخ، المنحدر من العائلة الأكثر تطرفاً في المملكة، والمسؤولة عن تصدير "فكر" كبيرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب الظلامي إلى أنحاء العالم العربي والاسلامي. بل هو يتلذذ في إذلالهم وإذلالهنّ، ويبالغ في إظهار خضوعهم وخضوعهنّ مقابل مشاريعه الترفيهية ومكرماته السخية الملطخة بالدماء. وكأن المملكة السعودية بتعيينها فرداً من آل الشيخ في منصب إدارة هيئة الترفيه تريد أن تُظهر جبروتها اللامحدود، وقدرتها على التغيير كما تشاء في الدول العربية والاسلامية دون أدنى اعتراض. فبهذه العائلة (ال الشيخ) نشرت التطرف الديني والإرهاب الذي خرب بلاداً بالمفخخات، وبهذه العائلة أيضاً تنشر الانحطاط الفني والاخلاقي الذي سيخرب بلاداً بالابتذال والإرهاب الفني.

يلاقي ذلك على الضفة الإماراتية مشروعٌ أكثر عمقاً وأقل استفزازاً من دولة نفطية محكومة وراثياً دون أي حدٍ للسلطة، أو تداول لها (ودون أي حدود فعلية بين جيوب حكامها والخزينة الحكومية). إنه مشروع "الإقامة الذهبي". بموجبه ما يحصد قادة الإمارات مئات الإشادات من فناني البلاط اللبنانيين والعرب، ويروّج لهم كأنموذج للحكم الرشيد لمجرد توزيعهم إقامات ذهبية، في الوقت نفسه الذي تُجنس الحكومة الاماراتية فيه آلاف الإسرائيليين على عجل (ولا نرى تملقاً وابتذالاً من الاسرائيليين كالذي نراه من الفنانين العرب المستعدين) وتوغل في سجلها الأسود في مسائل حقوق الإنسان، ودعم التنظيمات الإرهابيةـ وترحيلها للبنانيين بطلبٍ إسرائيلي، فكل ذلك يهون في سبيل الاقامة الذهبية وعطف بن زايد وبن راشد.

يبني الفنانون عداوات في الوسط الفني تنم عن عقد نقصٍ كثيرةٍ، وشبق للمال ونقص حاد في الإدراك والمعرفة، وإذ يبدو ذلك حكماً قاسياً "غير موضوعي" إلا أن الغباء بذاته هو فشل معرفي ينشأ عند من لا يمتلك أدوات الفهم المطلوبة. فالميل إلى توصيف الظواهر بشكل سطحي، مقروناً بكثير من جنون العظمة وتمنين الجمهور بالرغم من ترداد عبارات "نضحي ونقدم ونعمل من أجل الوطن"، إلا ان ذلك لا يجد طريقه إلى الواقع بل يناقضه تماماً حيث لم يقدم الفنانون شيئاً بالمجان ولم يسهموا ولو بنسبة قليلة في أي من قطاعات الاقتصاد، وهم الشريحة الاكثرالتصاقاً بحيتان المال وزعماء كارتيلات النهب وحلفائهم من السياسيين، والأكثر استفادةً لسنوات من قانون تثبيت سعر الصرف المدمر والتهرب الجمركي والضريبي.

لكن يحصل أنّ "سوبر ستار" اختار أن يبني عداوته مع الجمهور بسلسلة من المواقف المستفزة، وعند أقل امتعاضٍ منهم هرب نحو خطاب نازي مبنيٍ على ثنائية "فوق الأرض وتحت الارض" مستحضراً مصطلحات كليلة ودمنة لافتقاده المنطق ولتوهمه الانتماء إلى طبقة أرقى من بيئته. هذا قبل أن يتضخم "الإيغو" خاصته ليشعر أن طبقته باتت أعلى من الوطن وصارت تنتمي إلى مجتمعات النفط الثرية، دون أن يخبرنا عن حجم تأثيره الإيجابي الذي يجب أن نكون ممتنين له ونشعر بالخشية لفقدانه، فماذا كان الوطن ليفقد لو أنه فقده؟ أو أن أحداً لم يكتشف موهبته الثمينة "بالصدفة البحتة" وما الحاجة لبقائها؟ بل وما قيمتها الفعلية أمام غيرها من المواهب إذا ما وضعنا البروباغندا الفنية جانباً؟

 

كاتب لبناني