Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

لا أذكر أني وعيته في حياته. كنت ابن أربع سنوات في الرابع من حزيران سنة 1989، عندما رأيت "في باص المدرسة" مجموعة من الطلبة - "الكبار" يتشاجرون حوله. كان النقاش بين مؤيد له ومعاد حاد جداً. لم أعِ من نقاشهم شيئاً غير أن اسمه الخميني. الخميني فقط. هكذا كانوا ينادونه

بشار اللقيس

صوَرٌ للخميني

الصورة الأولى:

لا أذكر أني وعيته في حياته. كنت ابن أربع سنوات في الرابع من حزيران سنة 1989، عندما رأيت في "باص المدرسة" مجموعة من الطلبة - "الكبار" يتشاجرون حوله. كان النقاش بين مؤيد له ومعاد حاد جداً. لم أعِ من نقاشهم شيئاً غير أن اسمه الخميني. الخميني فقط. هكذا كانوا ينادونه. بعد الظهر، وعندما عدت إلى البيت سارعت إلى أمي لأسألها عنه. رأيتها ترتدي الأسود باكية. سألتها من الذي توفى بالأمس: قالت لي: الإمام الخميني. سألتها عنه مجدداً: قالت لي "إمامنا". حزنت لبكائها لكني لم أفهم شيئاً. كل ما عرفته أن رجلاً طاعناً في السن (هكذا تخيلته) قد توفي بالأمس واسمه "الإمام الخميني". أحسست أن خطباً ما قد نزل بالناس. لا، ليس بكل الناس، بل بفقراء حينا. كان يوماً أسود بالنسبة لي كطفل. لا أذكر بعدها الكثير من التفاصيل، لكنه اسمه ظل يراودني: الإمام. اعتقدت أن اسمه الإمام.

***

الصورة الثانية:

في حينا الهادئ في بعلبك أواخر الثمانينيات، كان الحرس الثوري الإيراني وحزب الله قد "استأجروا" الكثير من البيوت. كانت بعلبك مدينة ثورية. مظاهر المسلحين، الشعارات الثورية كانت اعتيادية لي كطفل. في أحد تلك البيوت كان ثمة "مقر" يشغله مجموعة من الشباب - لم أعرف طبيعة عملهم إلى اليوم -. أحد هؤلاء الشباب كان رساماً. ولأني أحب الرسم كنت أقف عند المدخل الرئيسي للمنزل لاسترق النظر فيما يرسم. مع الوقت، لاحظ الشاب وقوفي عند الباب فصار يدعوني للجلوس بقربه. كان يرسم كل يوم وجه "الإمام". وفي كل يوم يكتب تحت وجهه عبارة ما. لا أذكر العبارات جيداً. لكني أذكر أنها كانت من قبيل: "يا أيها المسلمون اتحدوا واتحدوا"، "إن يوم القدس هو يوم إحياء الإسلام". صراحة، لا أذكر بالدقة إن كانت تلك هي العبارات التي كان يخطها الشاب. لكن رسوماته كانت تمتثل أمام ناظري كل يوم. على الجدران في الطريق إلى السوق، إلى المدرسة، عند مدخل حينا ومداخل الأحياء الأخرى من المدينة. كل ما في بعلبك كان يشير للقدس، للإسلام، ولوجه الخميني.

***

الصورة الثالثة:

كنت في السادسة من عمري على ما أعتقد. إنه العام 1991. لا أذكر المناسبة على وجه الدقة. يُخيّل لي أنها كانت ليلة من ليالي القدر. كنت برفقة أخي الأكبر في مسجد الإمام علي في بعلبك. مع انتهاء شيخ المسجد من الدعاء بدا أن خطباً ما قد وقع. كان صوت "الطيران الحربي" الإسرائيلي مسموعاً بشكل واضح. دب الخوف في قلوب الحاضرين. لا زلت أذكر ملامح الخوف في وجوه الناس في تلك اللحظة. وبينما علا الضجيج أرجاء المسجد وقف شاب في مقتبل العمر وصرخ لاطماً "يا حسين". ثم بدأ الآخرون في اللطم والهتاف معه. علا صوتهم الصارخ باسم الحسين صوت الطيران. ذُهلت لشجاعتهم. كانوا يلطمون الرأس مرتدين ثياب "الحرس" وعلى صدورهم صورة الخميني. تلك كانت اللحظة الأولى التي سمعت فيها صوت الخميني في كل ما أراه.

***

ما بين عام 1991، و2022، كانت صور الإمام تعود ماثلة. في مشاهدتي لـ"يوم القدس" (العرض العسكري الذي كان يقيمه حزب الله كل عام). في التحرير عام 2000. في مشهد الآليات الإسرائيلية المحررة وقد ألصق المقاتلون صورة الإمام عليها. تتوالى الأيام والسنين. يتيح الزمن للإنسان مراجعة فهمه لواقعه وللأشياء. على مدار كل هذه السنين كنت أسأل نفسي عن الإمام وعن واقعنا الذي نعيشه. ما مدى حضور صورة الإمام (أقله تلك التي تخيلتها عنه) في يومياتنا؟. في كل هذه السنين كنت أسأل عن حضوره وغيابه وعن ملامح وجهه. إذا قدّر لي اليوم أن أرسم وجهه مجدداً، كيف سأرسمه – أسأل نفسي -؟.

لا شك، توّجت حركة الإمام جهود الحركة الإسلامية في القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين ميلادية. لمرتضى مطهرى كتيب عن "الحركة الإسلامية في القرن الرابع عشر". يعرض مطهري لجهود الإصلاحيين الإسلاميين من جمال الدين الأفغاني، مروراً بمحمد إقبال، وليس انتهاءً بالمودودي وسيد قطب. من يقرأ كتيّب مطهري ذاك سيتنبه لحضور الخميني في مقاربة مطهري للحركة الإسلامية. الإمام الحاضر وإن غاب. في الكتاب ينطلق مطهري في مقاربته للواقع الإسلامي من سؤال: كيف نعيد الإسلام إلى مسارح الحياة، وهو السؤال الذي لازم النهضويين الإسلاميين من جمال الدين الأفغاني، حتى انتصار الثورة الإسلامية في إيران. الثورة الإيرانية بقيادة الإمام كانت، بهذا المعنى، إجابة على سؤال مستحق منذ أكثر من مئة عام عند الإسلاميين (فعلياً منذ بدء مرحلة "التنظيمات العثمانية" وما آلت إليه من سقوط السلطنة)؛ هل سنتمكن من استعادة الثقة بالإسلام كناظم للحياة وللشأن العام؟.

لقد أفقدَت الحداثة ثقة الناس بثقافتهم كعامل من عوامل النهوض (وكان الدين على رأس هذه الثقافة)، وهو ما حاول الإمام الخميني استعادته. لكن استعادة الخميني تلك لم تكن لتبارح مسألة الدولة. إن نجاح الفكر الإسلامي مرهون بقدرته على النجاح في بناء "تجربة الدولة". وهو ما دأب الإسلاميون التنظير له في سبيل تحقيقه طيلة قرن سابق على الثورة. بهذا المعنى، نعم، لقد توّجت حركة الإمام جهود الحركة الإسلامية في القرن العشرين (القرن الرابع عشر الهجري). وبهذا المعنى، نعم، يكون الإمام قد أنجز مهمته بتقديم البديل للحداثة المعلمنة في منطقتنا بحسب الشيقاقي (أنظر كتاب الشيقاقي: الخميني الحل الإسلامي والبديل). لكن السؤال بعد أربعين عاماً من هذه التجربة يصير مستحقاً: "ثم ماذا؟". ماذا بعد نجاح الإمام في إنجاز مهام الثورة والتصدي لشؤون الدولة؟.

الدولة مقتلة الثورة:

لم تحز الدولة على قسط وافر من النقاش في واقعنا الإسلامي. صدام الدولة والأيديولوجيا، غالباً ما قُدم باعتباره خللاً نظرياً أو قصوراً أيديولوجياً في التطبيق. مثلاً، سقوط الاتحاد السوفياتي، يقدّم غالباً على أنه فشل لليسار في مواجهة الواقع، أو في مقارعة الليبيرالية. أما نقاش أصل الدولة وإذا ما كانت أصلاً تحتمل "الأفكار / الأيديولوجيا" فلا يزال غائباً عن خزيننا العربي. هل هناك احتمال لتفسير سقوط الماركسية أو اللينينية في الاتحاد السوفياتي نتيجة عدم احتمال الدولة للأيديولوجيا؟ بدل تفسيرنا سقوط السوفيات كنتيجة لفشل الشيوعية؟ (يمكن إعادة السؤال نفسه حول الصين؛ هل أن طبيعة السلطة تفرض هذا الكم من التنازل عن الأيديولوجيا إلى درجة أن لا يبقى من الشيوعية الصينية غير العلم الأحمر؟). وغير بعض من أفكار عبد الوهاب المسيري (الغالب عليها مقاربات فرانكفورت النقدية)، هبة رؤوف عزت، وما تُرجم للعربية من أعمال دايفيد ليؤون، لا نكاد نقع على كثير من النقاش حول مسألة الدولة وفلسفتها. وقد يعتقد البعض أن الدولة سلطة/ "مجرد سلطة" في حيز جغرافي ما (غالبية نصوص الإسلاميين التي وقع عليها نظري تضع الدولة في هذا إطار الأحكام السلطانية ليس إلا) وهذه إشكالية مضافة. إن الدولة أولاً وقبل كل شيء مقتلة للآيديولوجيا ومَنهكة لها. وعلى الضد مما يمكن أن نتخيل الدولة؛ هي لا تُعنى بسؤال المتعاليات بقدر انشغالها بسؤال "الآن وهنا". الدولة تقعيد للمصالح. تأبيد للمنافع. صانعة المأدبة الثورية الأخيرة. الدولة انشغال الإنسان بسؤاله عن اليومي، عن الفارق الطبقي، عن الحظوة، والمكانة. وقد كان روجيس دوبرييه محقاً في كتابه "نقد العقل السياسي" عندما اعتبر أن غاية السلطة الدولتية: الحفاظ على لحظة استحواذها للسلطة. إن نجاح أي جماعة في بناء الدولة هو نجاحها في المحافظة على مصالح النخبة التي استحوذت على السلطة في اللحظة الثورية الأولى.

ستظل هذه المسألة الخطر الأكبر في وجه مُنجز الإمام الخميني. فالخمينية لا تتمأسس، والخمينية لا تتأطر، والخمينية لا "تتدولن". الخمينية روح صوفية - ثورية تنادي من مشرق هذا العالم أن كل ما في هذا العالم جميل (ولمثل هذه العبارة ذاكرة تميل بالوعي الشيعي لحنين لحظة البدء). الخمينية انفجار روح هذا العالم؛ الفقراء. أولئك الذين لم يحسنوا يوماً تصفيف نسق ناجز من المعاني في تعريفهم أنفسهم (عندما سأل مراسل فرنسي أحد مقاتلي حركة أمل في مواجهات خلدة ضد الإسرائيليين في الثمانينيات من أنتم: لم يعِ الأخير ما يجيب. قال: نحن أبناء الخميني). الخمينية أبوّة عشق مغامر. بنوة لا تقبل الانتصار لغير الحق. ترداد صوت الفقراء، المستضعفين، الثائرين، البسطاء الحالمين، أن من يرضى بـ"الواقعية" وأنصاف الحلول – تحت أي مسمى - ليس منا. وأن من ينتظر حصته من الكسب (فرداً كان أم دولة) قد يشبه الكثير من الأشياء... لكن "غير الخمينية".

رئيس تحرير صحيفة الخندق