Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

اسمي أنس. أسجل على بقعة من ذاكرتي اليوم الأول للحرب في حارتي. أنا محاصر. أحاول أن أقنع نفسي أني ما زلت أتقن السيطرة عليها. أتحدث لأقتنع ولكن لا أقتنع. أعود لعادتي القديمة؛ الجلوس أمام التلفاز لا أكثر. أرى نفسي تشاهد الحرب خارج حارتي، في لبيبا ثوارٌ وضعوا نياشين جنرلات، بعد قتلهم، ومن حولهم جثث لا يمكن إحصاءها. إنها الساعة التاسعة و النصف، غرباء يتحركون في الشارع

محمد بزي

منفيون من الجنة: يوميات هامشي في حلب 2012

آب 2012، حلب، عندما بدأت الثورة.

***

اسمي أنس. أسجل على بقعة من ذاكرتي اليوم الأول للحرب في حارتي. أنا محاصر. أحاول أن أقنع نفسي أني ما زلت أتقن السيطرة عليها. أتحدث لأقتنع ولكن لا أقتنع. أعود لعادتي القديمة؛ الجلوس أمام التلفاز لا أكثر. أرى نفسي تشاهد الحرب خارج حارتي، في لبيبا ثوارٌ وضعوا نياشين جنرلات، بعد قتلهم، ومن حولهم جثث لا يمكن إحصاءها. إنها الساعة التاسعة والنصف، غرباء يتحركون في الشارع؛ "بشار ما رح يحميك، نحنا معنا الله انت مين معك؟". هذه اللغة كانت غائبة عنّا، ولا تعرفنا. اللغة منفى. عليك انتقاء ما تيسر منها لكي تمرّ. "انشق يا عسكري منك الو، لك انشقو، الله واحد" صوت غريب آخر اعتقد أنه أكثر إقناعاً ليجبر عسكري "منذ أكثر من 20 عاماً" على ترك السلاح وتسليم نفسه. لماذا يزجون الله ليحاكم على المتاريس؟ سأقترب من النافذة، أشق الستائر قليلاً وأُبصر. ما زلت أقنع نفسي أني اتقن السيطرة عليها وهي محاصرة في غرفة الجلوس أما دخول الحمام فمغامرة مؤلمة. اقتربت من النافذة، حملت يدي التي أصابها الخوف وكأنها انفصلت عن جسدي، مرتجفة ونبضات قلبي. في الحصار تدرك التفاصيل، لم ألحظ يوماً الورود المرسومة على الستائر، اصبح رفعها مهمّة مصيرية، تكشف لك اسراراً لم يخطر في بالي يوماً أنها ستُخبأ خلفها. رفعت الستائر ما يكفي لاشباع عيناي، مسلحين بلباس مدني حلقوا ذقونهم حديثاً، أحدهم يرتدي ساعة استيك فضية، آخر يجلس على كرسي بلاستيكي يحاول تثبيت حزام الكلاشينكوف، يبدو أنهم غير مدرَّبين؛ إنهم من طلبة الجامعات. على بعد 100 متر من نافذتي يتمركز الجيش السوري. لم أعد استطع النوم في غرفة النوم خاصتي، أبقت لي الحرب المطبخ وقسم من غرفة الجلوس.

 انه اليوم الثاني. أغلب الجيران هجروا الحارة. توقفت الاحاديث وانقطعت عما تبقى من الارض. انا مسجون في نقطة لا تُرى بالعين المجردة على خريطة العالم. أقول في سرّي "أنت رقم واحد لا يضيف فارقاً على الأحياء ولا حتى عند إحصاء الجثث". الهاتف مقطوع، الانترنت مقطوع ومعهما الكهرباء. لي ممر آمن من غرفة الجلوس إلى المطبخ لاعداد حاجتي من المتّة. إنها الحرب على قرقعة المتة. إن الحصار مفيد لإعادة بناء أفكارك؛ الوجودية منها. تنهمر علي الأسئلة التي اختبأت في زحمة يومياتي كتلك التي أخاف أن أقول أن لا عودة إليها. في الحصار تقتنع أنك إنسان هامشي، على ضفة الأرض مصنوع من ورقٍ ممزق وكأنك بقايا لإنسان ولد قبلك. الهامشيون هم المذنبون. من في الحصار مجانين بحاجة إلى مصحّات. كيف لعاقل أن يسمح لأحد أن يفرض على رئتيه نفساً معيناً ضمن نطاق معين. ينادون في الأسفل بالثورة، ما حاجتي أنا الهامشي بالثورة. المبنى يهتزّ. لم يعتد هذا الكم من الرصاص. ماذا يفعل السجناء لتمضية مدّة عقوبتهم. لأسأل نفسي لما لم أهجر هذه الحارة مع جيراني.

تمضي الأيام حتى صرت لا اعرف غير النهار من الشمس، والليل عند غيابها. لا دقائق تعنيني ولا حتى أيام الأسبوع! وما حاجتي لأنهك ما تبقّى من دماغي في تذكّر أيام الأسبوع. أصبحت البديهات عملية عقلية صعبة. أشعر بتوتّر ما تبقّى من الجيران. إنهم يخترقون الجدارن. يبدوا أن الغرباء بدأوا يفقدون ثورتهم، يصرخون لبعضهم البعض بالابتعاد. أنظر من فسحة الأمل التي خلقتها لي الستاره، إنهم يركضون في كل الاتجاهات، أيُعقل أنهم تائهين عن ساحة الحرب؟، جثة سقطت هناك أمسكها اثنان و سحبوها على بلاط الحارة فصار متسخاً بالدم."جيب سيارة لهون"... "بسرعة، وين السيارة"، حملتُ عصاً ورحت ألوّح بها وكأني قائد أوركسترا، أثبت لنفسي مجدداً أني أتقن السيطرة على ما تبقى منّي. أنا من يقود هذا الجنون. نداءات استغاثة من المسلحين لاسعاف ما تبقى من الجثة، لكنهم سحبوا جثة هامدة لا أنين فيها و لا ألم. لقد أشبعها الموت. جثة واحدة كانت كافية لإسكات الرصاص ثلاثة أيام. الغرباء رحلوا. كانوا يسمونهم الجيش الحرّ. بدأ الناس بهدم الحواجز والمتاريس مع أن البعض منهم كان قد ساهم ببنائها. لا أبرياء في الحرب. بعض جيراني يعمل للطرفين. إنهم بعض الهامشيين. كل هامشي مذنب. المَحال فتحَت من جديد، ولو أنها خلت من البضائع وما يصلح للبيع، لكنها تجربة لاعادة روتين الحياة. أن تعود الى روتينك اليومي يعني أنك ما زلت حيّاً، ولو من دون رزق. الشوارع امتلأت برائحة الشاي الخمير، وضحكُ السهّيرة عاد ليقلق نومي من جديد. لكني أبقيتُ على نفسي محاصرة كي أثبت لنفسي أني أتقن السيطرة عليها. الهدوء لم يدم. الهدوء سكون يحمل الغدر. المسلحون دخلوا مرة أخرى إلى الشارع، لكنهم مختلفون هذه المرّة، خلعوا عنهم عادات من ورثوهم. أطلقوا لحاهم. ارتدوا البزّات العسكريّة وأسلحتهم تنوّعت. إنهم عازمون على القتل. إنهم لواء التوحيد... النظام يطلق عليهم تسمية إرهابيين. الإعلام الدولي أطلق عليهم اسم مقاتلي الحرية. سأبقى هامشي فالشعوب ليست بريئة، إنها محرِّضة على القتل. لا أبرياء... فنحن منفيون من الجنة.

كاتب مسرحي لبناني