Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

هناك، على مقربة من الحلم الأكبر، غفا العمر الطويل في راحة التوقيت الفصل، وراح الله يكتب على تلال عاملة قوله الحق: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى

ملاك عيسى

حلم عند بوابة فلسطين

 

هناك، على مقربة من الحلم الأكبر، غفا العمر الطويل في راحة التوقيت الفصل، وراح الله يكتب على تلال عاملة قوله الحق: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى.

هناك، وقف يتنفس نسيم فلسطين، يختصر عشرين عاماً من الحفر في صخرة المستحيل، يمسح من عينيه أرق ليالي الرباط، لينجلي عنهما غبار الشك باليقين، فيرى القدس تطل من بين جنبات روحه، يتقدم للقياها مواكب المزغردين وأعراس الفاتحين، ويؤم في محرابها صلاة النصر الأخيرة.

لم تكن المشاهد المحفورة فينا من ذاكرة التحرير محض صدفة، أو فرحةً شعبيةً عفويةً وحسب. لم يكن بحسبان الترابي الذي كتب فصول الرواية من بدايتها أن يرضى بخاتمة عادية، كان في عقلية المخطط الفذ الذي رسم خارطة النصر من ألفها إلى يائها، أن يقدم النصر بلوحة تاريخية لا ينساها العالم أجمع، العدو والصديق. وعلى بعد إشارة وابتسامة، حضرت فلسطين. لتحيل النهايات بدايات، ولتبصر في عيني ابنها البار ملامح الفتح القريب.

***

"أجمل قصة بحياة الحاج عماد هي قصة التحرير، وأجمل أيام هي أيام التحرير"

الشيخ نبيل قاووق

***

الأحد 20 أيار 2000. فتح بوابة القنطرة. بعد الغروب، يصل الحاج إلى الجنوب، يعقد جلسةً يجمع فيها القادة الميدانيين، ويقرر: مشهد الفتح الأعظم يجب أن يكون على أيدي الناس والأهالي القادمين من القرى تحت رعاية مجاهدي المقاومة.

كان الحاج في صياغة مشهد التحرير يصر على أمرين؛ الأهاليهم من سيدخلون إلى القرى، على أن يكون الانسحاب الإسرائيلي تحت النار. وهذا ما يتطلب دخول المجاهدين قبيل ساعات لتأمين حماية الناس.

وقد تقرر دخول الأهالي للمناطق المحتلة من محورين، المحور الأول، يتجمع الناس في بلدة "شقرا"، ويدخلون باتجاه "حولا". أما المحور الثاني، يكون التجمع في بلدة "مجدل سلم" ويدخلون باتجاه "وادي السلوقي" صعوداً إلى "طلوسة"، ومن "طلوسة" إلى بلدة "مركبا".

وبالفعل، تم وضع بعض اللمسات التنظيمية والإعلامية، واللافت هو حرص الحاج على أن يرافق الناس عدد من العلماء، لكي يكون أول عمل يقومون به عند الوصول إلى كل بلدة، هو الدخول إلى مسجدها، وأداء صلاة الشكر لله.

من يعرف الحاج عماد حق المعرفة، يعرف أنه كان إنساناً بشوشاً، دائم التبسم، بشره في وجهه. لكن من رآه في تلك الليلة المقمرة لا يمكن أن ينسى ابتسامته التي اعتلت وجهه، والبهجة التي تجلت من قلبه.

كان الأمل بالنصر حاضراً في قلبه دوماً، ولكن الأمل في تلك الليلة كان أكبر من أي وقت مضى. كان الحاج بحضوره آنذاك، يشهدعلى تحقق الحلم، على قطاف الزرع، وحصاد تضحيات الاستشهاديين والشهداء، والجرحى والأسرى، وكل أهلنا. الحاج عماد على مدى أيام التحرير كان حاضراً على الأرض، في القرى، بين الناس والمجاهدين.

عندما كان الناس يدخلون إلى القرى كان يدخل معهم، يشاركهم فرحتهم، يرقب  دمع العزة بعد التضحيات في عيونهم، يسمع زغردات الأمهات، ويتلقى بكفه الذي ما انفك قابضاً على الزناد، براعم الورد المنثور.

ومن ثم، يعود ليطل على غرف العمليات، يتفقد المجاهدين في الميدان، وكان أكثرهم لا يعرفون من هو هذا الرجل الذي يتنقل بينهم ليطمئن على أحوالهم وسير أعمالهم.

أصر الإسرائيلي أن يتابع القصف حتى اللحظات الأخيرة. كان الحاج متأثراً بأعداد الشهداء والجرحى من المدنيين، لم يرض بذلك، وقرر قلب المعادلة بالضغط على العدو. طلب الحاج أن يتم تهديد العدو بتحديد مهلة ساعة لا أكثر، وبعد هذه الساعة، فإن أي قصف للمدنيين يتبعه سقوط أي جريح أو شهيد،  سيقابل برد المقاومة بقصف المستوطنات في العمق.

وبالفعل بعد ربع ساعة من القرار، تم الاتصال بالقيادة الإسرائيلية،التي أبدت اهتماماً مباشراً بالموضوع، وتعهدت بعدم استهداف المدنييين. ما حقق عنصراً إضافياًمن عناصر الانتصار أثناء تسجل أحداث التحرير.

 

يروي الشيخ نبيل قاووق: "يوم الأربعاء قبيل الغروب، كنا نتحضر للصلاة، وقد جرت العادة أن نلتقي كل ليلة في وقت الغروب. وكان البيت الذي نجتمع فيه يطل على موقع مركبا".

في تلك الليلة، قال لي الحاج: دعنا نصعد إلى السطح لنعاين هذا المشهد. سألته ماذا هناك؟ فأجاب: أعطيت أمراً للشباب بتفجير المواقع الإسرائيلية من باب الاحتياط،فلربما أقدم العدو الإسرائيلي على أي اجتياح أو عملية عسكرية في المستقبل، وقتذاك لن يجد مواقع جاهزة ليستقر فيها. وكان من المواقع التي أشرف الحاج أيضاً على قصفها، المواقع الإسرائيلية في مزارع شبعا بصواريخ الكاتيوشا، وذلك ليثبت حق لبنان في تحرير مزارع شبعا.

 

كان الحاج مصراً أن يسجل التاريخ مشهد مذلة العدو في الجنوب في كل التفاصيل. فكما كانت عدسات الكاميرات تلتقط مشاهد مذلة الجيوش العربية عندما كانت إسرائيل تجمع أحذيتهم وتطردهم حفاة، فإن المقاومة عمدت إلى جمع الأعلام الإسرائيلية المتروكة على الأرض في جنوب لبنان، ليظهر مشهد خروجه ذليلاً مدحوراً من أرضنا.

من الأمور التي زادت فرحة وسرور الحاج أيام التحرير، هي أنه استطاع أن يزور أماكن العمليات الاستشهادية المباركة، وخاصةً أماكن عمليات بعض الاستشهاديين الذين كانت تجمعهم به صداقة خاصة، كالشهيد الاستشهادي الشيخ أسعد برو. ذهب الحاج وزار مكان العملية في بلدة، القليعة، وتلا لروح الشيخ الشهيد الفاتحة.

تابع الحاج كل تفاصيل الانتصار من ألفها إلى يائها، بما في ذلك تفاصيل احتفال التحرير الذي تحدث فيه سماحة السيد في بنت جبيل. "كنا في جلسة في بنت جبيل ندرس الخيارات عن مكان الاحتفال، في السوق أو الملعب، وقمنا بجولة ميدانية لنرى كم يتسع كل منهما. حينها، أسر لي الحاج عماد بأمرين. قال لي: "بدأت تتضح عندي خطة لاستعادة الأسرى والمعتقلين من السجون الإسرائيلية".

لم يكن التحرير قد انجز بالكامل بعد، حتى بدأ الحاج بالتفكير بالأخوة الأسرى المعتقلين عند العدو الإسرائيلي.لم ينسهم يوماً.كان فرحاً حتماً، ولكن فرحته كانت ناقصة قبل عودة الأسرى والمعتقلين. في الجلسة في بنت جبيل، كان يتحدث ويضحك، قال أيضاً: "بتعرف، في الحرب القادمة سنحارب الإسرائيلي بسلاحه." قلت له كيف؟. قال:" إن حجم الأسلحة والغنائم التي أخذناها، كافية لنحارب الإسرائيلي بسلاحه في الحرب المقبلة."

يروي الشيخ أخيراً، في 22 أيار 2000، قدم الحاج ضاحكاً إلى ملتقانا المعهود عند الغروب. قال لي: "يا شيخ اليوم أجمل يوم في حياتي. أنا وصلت إلى السياج الحدودي مع فلسطين... لو تشوف تلك اللحظة. ما أجمل أن تشم هواء فلسطين وريح فلسطين." كان حلم فلسطين يعيش في قلبه. كان يرى في كل مشاهد تحرير الجنوب، ساحات القدس، وحدود المقاطعات المحتلة تتهاوى تحت أقدام الأهالي الفاتحين في فلسطين.

يقول عماد مغنية: "بعد التحرير عام 2000 تيسر لنا التعرف أكثر إلى العدو وقدراتنا نحن.صار بذلك حلم فلسطين قابلا للتحقق... اليوم، من حق الحاج عماد على هذه الأمة أن تعرفه من أجلها لا من أجله"

من أجل أن تفقه أسرار الحب، فتتعلم كيف تحجز مكاناً لها في ذاكرة الأبد الماجد. من 25 أيار 2000 إلى 25 أيار 2022، للقلوب الطرية الغضة التي لم تلقاك، للعيون المتعبة التي ترى في عينيك وجوه كل الشهداء، للأجيال الواعدة التي تغنيك لحناً وتحملك هوية، للأيادي الأنيقة التي ترتب صورتك كل مساء عند السواتر ونقاط العبور، لحاملي رايات الثورة الأخيرة من كل حدود الدنيا إلى فلسطين، وحدك أنت الحضور الحضور، ويفنى الغياب.

 

كاتبة لبنانية