Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

كثيرة هي الصور التي ترتبط في وجداني مع "الاستقلال"، كلها تعود للطفولة، كان لهذا "العيد" ميزة خاصة لطالب لم يكن يوماً على وئام مع المدرسة، فبفضل هذه المناسبة كانت الدروس تتعطل ليومين، يوم بسبب التعطيل الرسمي ويوم للاحتفاء به... طائرات مروحية تحمل العلم اللبناني، استعراض عسكري يبهر الأطفال – فقط الأطفال – الاستماع للنشيد الوطني اللبناني باللغتين العربية والفرنسية

مصطفى خليفة

في ذكرى الاستقلال: نعم.. أنا ملحد

كثيرة هي الصور التي ترتبط في وجداني مع "الاستقلال"، كلها تعود للطفولة، كان لهذا "العيد" ميزة خاصة لطالب لم يكن يوماً على وئام مع المدرسة، فبفضل هذه المناسبة كانت الدروس تتعطل ليومين، يوم بسبب التعطيل الرسمي ويوم للاحتفاء به... طائرات مروحية تحمل العلم اللبناني، استعراض عسكري يبهر الأطفال – فقط الأطفال – الاستماع للنشيد الوطني اللبناني باللغتين العربية والفرنسية (نعم في ذكرى الاستقلال عن فرنسا)، التلويح بالعلم اللبناني وعلم الجيش... كثيرة هي الصور التي تحمل معها حنين براءة الطفولة، حينما كانت أرواحنا أكثر استعداداً لتلقي الفرح ولو بأصغر التفاصيل... كثيرة هي الصور، ولكنها كلها لم تحمل لي يوماً إحساساً بـ"الوطنية"، هذا الإحساس الواجب، المشاعر الضرورية، كحب الأم لرضيعها، الذي لا ينبئ غيابه أو فقدانه إلا عن تشوه كبير وخطيئة قاتلة، أعترف اليوم، لم أشعر يوماً به، ولا أعرف ما هو، سمعت عنه كثيراً، ولم أعرفه يوماً.

كثيراً ما كنت استغرب وأستهجن من عمق "المشاعر الوطنية" التي كانت تعكسها الأعمال الدرامية المصرية،  أو السورية أو غيرها، مثل رأفت الهجان ونصار العريبي... كنت أقف أمامها تماما كما أقف أمام من يتحدث عن نشوة المخدرات، أو احساس الثمالة، لم أكن على صغر سني حينها أدرك أسباب عدم تفاعلي مع هذا النوع من المشاعر، وعدم الإحساس بهذا القدر من الانتماء، ولكن، ومع كل عام كانت تنضج هذه الأسئلة أكثر فأكثر، وتنضج معها أجوبتها، أجوبة لا زالت حتى الآن مراهقة ومتقلبة، وما ستقرأه اليوم هو محاولة ترتيب تلك الإجابات وتنظيمها.

مفهوم الوطن والإشكالات عليه

إن لتبلور مفهوم الوطن وتطوره سياق طويل وممتد إلى ما قبل حرب المائة عام في أوروبا، في هذا السياق الطويل ولدت "الدولة الأمة" وتمظهرت معالمها في حوادث ومحطات عديدة على مدى أكثر من قرن، تفاعلت معها، وتحولت وتغيرت مرات ومرات حتى استقرت إلى ما استقرت عليه بعد مؤتمر وستفاليا عام 1948، ومن ثم مع أوروبا الحديثة، بعد عصر التنوير، حيث أتت الدولة لتحل محل "الله" في الاجتماع البشري، ليصبح"الوطن" كيان اعتباري متخيل، يمثل الخير المطلق، والقوة المطلقة، والحق، والرحمة على أبنائه، له تقدم القرابين، وفي سبيله تبذل الدماء، وإنكاره أعظم الجرائم، التي قد تصل عقوبتها إلى حد القتل بتهمة الخيانة العظمى.

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ودخول الغرب لتقاسم تركة السلطة العثمانية، أدخل معه كل ما نتج عن صراعاته الدينية الطويلة في أوروبا، أدخلها كنتائج منسلخة السياق، نتائج يجب أن تعمم على كل البشر، فأوروبا اليوم رائدة الإنسانية ويجب أن تحول كل الأقوام الأخرى إلى ثقافتها لتنجيها من نفسها، ولتكن ممتنة لها حتى يوم الدينونة على ما قدمته من فضل في تقاسمها وصفة خلاصهاالتي تكبدت ثمنها مئات الأعوام من الحروب، وعلينا نحن بالتالي بدءاً من تلك اللحظة أن نؤمن بأن الدين شأن خاص بين الفرد وما يؤمن به، وأن هناك ما يسمى وطناً، له ننتمي جميعاً، فالدين لله والوطن للجميع، هذا الوليد الجديد أصبح هو المقدس المعبود، من أجله تخاض الحروب وتقام الطقوس؛ مثل النشيد الوطني ونصب الجندي المجهول وتأدية التحية وغيرها.

ولأننا كنا أمة منهزمة، تلقفنا ما أتى كما هو، ولم نر فيه إلا سبباً لازدهار أوروبا، ولم نر في أنفسنا إلا تخلفاً يجب أن يُتَدارك، ولم نر بداً بغير أن نحذو حذو أوروبا حذو النعل بالنعل: "فلنضع الدين جانباً، ولنبني الوطن".

وطن ولد من رحم محتله

إضافةً لكل ما ذكر أعلاه حول مفهوم الوطن، والعرض الموجز غير الكافي لسياق تكونه وبلورته، فإن للبنان تحديداً ميزةً أخرى، لا يمكن تغافلها ولا تجاوزها، أن هذا الوطن ولد نتيجة الاتفاق الفرنسي البريطاني على احتلال هذا الشعب وتقسيمه فيما بينها ضمن اتفاقية سايكس بيكو، بعد أن قطعت بريطانيا وعدها للعرب بالحفاظ على وحدة الأراضي العربية، ومن ثم بعد أن كانت سوريا – أي بر الشام (سوريا، لبنان، فلسطين، الأردن) من حصة الاحتلال الفرنسي (باستثناء فلسطين والأردن) اختار أن يسلخ عنها بيروت وجبل عامل والبقاع وطرابلس لضمهم إلى جبل لبنان لإنشاء دولة لبنان لكبير، الذي أريد له أن يكون "وطناً نموذجياً" في خدمة الاستعمار الفرنسي في الشرق، ليكون في قبال الوطن اليهودي الذي تنشئه بريطانيا في فلسطين للهدف نفسه.

وبالتالي أتى مساء أحد أيام أيلول من عام 1920، الحاكم المنتدب من قبل الاحتلال الفرنسي على بلادنا (الجنرال غورو) ليتلو علينا حدود "وطننا" الجديد، ومنذ ذلك اليوم بات مفروضاً علينا الانتماء له، الانتماء الذي فرضه علينا المحتل.

عدم الاعتراف بالأطراف جزءاً من الوطن

وحتى بعدما فرض الوطن علينا بحدوده وكيانه من قبل الاحتلال الفرنسي، رفض أبناء المركز (جبل لبنان وبيروت) الاعتراف بأطرافه، بدءاً من إميل إدة الذي كان يعترض على ضم مناطق ذات أغلبية مسلمة إلى "لبنان" مروراً بالرئيس بشارة الخوري "بطل الاستقلال" الذي ظل يسأل حتى نهاية عهده ما إذا كان جبل عامل سيظل "لبنانياً" أم سيضم إلى "دولة إسرائيل"، هذه النظرة الإقصائية امتدت إلى الشأن الإنمائي، حيث كانت لبيروت وجبل لبنان الحصة الكاملة من الإنماء والبنى التحتية في حين لا زالت بعض الأطراف إلى الآن (في بلد صغير كلبنان) بلا شبكة صرف صحي، وحتى عندما يُتَغنى بزمن "العز" في أيام الستينات، كان ذلك العز يتنعم فيه حصراً سكان جبل عامل وبيروت (برجوازية بيروت تحديداً)، أما أهل الجنوب والشمال والبقاع فلم يكن لهم إلا نصيبهم من الخدمة في الجيش والعمل في المدن، عليهم قام هذا "الوطن الوليد" وعليهم كانت حمايته، وبلا أي امتنان أو مقابل.

كما امتد حتى صناعة أسطورة هذا "الوطن" التاريخية، إلى الحد الذي يجعل من أبنائه، وطوال فترة دراستهم المدرسية، لا يتعلمون من تاريخ "لبنان" سوى تاريخ جبل لبنان حصراً، ولا يعرفون من أدبائه سوى جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، ومن سياسييه سوى أمراء الشهابيين والمعنيين، ومن أحداثه سوى الحروب الدرزية المارونية، أما عن أعيان جبل عامل وتاريخيه وتاريخ البقاع، والدور التاريخي لطرابلس... فهو ما لن يتعلم عنه شيئاً لا في مدرسة ولا خارجها.

كذبة الاستقلال وغياب المواطنة

وأخيراً، لم يصنع لبنان، حينما صنعه الاحتلال الفرنسي، ليكون وطناً شبيهاً بالأوطان الأوروبية، لأن ذلك سيجعل منه يوماً كياناً قادراً على الاستقلال الحقيقي وهو ما لم يكن المراد من إنشائه، كان لا بد أن يبقى عبارةعن مجموعة من الطوائف، تخاف الواحدة منها على نفسها وجودياً من الأخرى، ويبقى الدور الدور الفرنسي ضرورياً لضبط التوازن وتطمين تلك الأقليات ومنع إلغاء الواحدة للأخرى، وبعد الحرب العالمية الثانية وتراجع الدور الفرنسي، كان "لبنان"، هذا الوليد الجديد، على موعد مع مرحلة اضطراب بعدما تخلت أمه فرنسا عن حضانته، حتى تحسم أمر الوصاية عليه لمن، اضطراب تسبب (إضافة لكثير من الأسبابا بعضها ما ورد أعلاه من مشاكل في بنية هذا "الوطن") في نشوب الحرب الأهلية، حتى تقرر أن تكون الإدارة فيه لأميركا تحت الوصاية السورية، إلى أن نزعت تلك الوصاية ليدخل من جديد في حال اضطراب مستمرة وستستمر حتى تحسم وصايته من جديد، وكل ذلك يعود لسبب واحد أساسي عام – بعيدا عن الأسباب التفصيلية – "لم تبن فرنسا وطنا قابلا للحياة" بل أسست لعقد شتى بين مجموعة من الأقليات تحتاج لمن يتولى الوصاية عليها، هكذا بني "لبنان" وهكذا سيبقى حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.

ولكل هذا، أقول أنا اليوم، أنا لا أؤمن بالوطن، لا بهذا ولا غيره، أنا ملحد بالوطن... فأقيموا علي الحد.

 

كاتب وإعلامي لبناني