Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

عام 1964، أصدر المجمع الفاتيكاني الثاني مرسوماً شرقياً Orientalium ecclesiarium ينصّ على عدم استبدال الممارسات الكاثوليكية الشرقية الأصيلة بممارسات الطقوس اللاتينية. كما أضاف أنه يجب على الكنائس الشرقية أن تعود إلى ممارساتها الليتورجية الأصيلة والعودة إلى روحانيتها الأصيلة. إلا أن الأمور الإصلاحية لا يمكن أن تتم بباسطة بعد مأسسة سياسة الليتنة في المشرق العربي لمئات السنين.

ميريام شراباتي

في مخاطبة اللا-أمة والدور المسيحي

كلما تعمقت الأزمة اللبنانية وازدادت تعقيداً، كلما أيقن أيّ محلل موضوعي أن لبنان لا يمتلك المقوّمات التي يحتاجها لبناء ما يسمى في علم الاجتماع السياسي بالدولة – الأمة (nation state). فلبنان بحدوده الجغرافية المرسومة منذ قيامه، تشكَّل ككيان خدمة للاستعمار الكولونيالي الحديث، والذي جاء بديلاًً عن الاستعمار الاستيطاني التقليدي. واعطي شكلاً سياسياً بامتياز يسمح له بالوجود مثله مثل الكيانات الأخرى في المنطقة. وهنا يجب التمييز بين الدولة الأمة، والدولة اللا-أمة الناشئة ما بعد الاستعمار الكولونيالي الحديث، ففيما تتشكل دولة الأمة بشكل تلقائي ضمن سياق التطور التاريخي، تنشأ دولة اللا-أمة من خارج السياق التاريخي الطبيعي أو من خلال جزء مقتطع منه لتشكل دولة - الحاجة للمستعمِر القديم – الحديث، ولو قامت على تقطيع أوصال النسيج الاجتماعي التاريخي الأوسع، وهي بذلك تخدم حاجة خارجية مثل إدامة الاستعمار بشكل أكثر حداثة. (وهذا الموضوع هو موضوع بحث قائم بذاته).

في نفس الفترة التي تم فيها انشأ الكيان اللبناني تم انشأ كيانات أخرى محيطة به وبنفس الطريقة إذ تم اعتماد حدود رسمية لكل كيان بهدف خدمة المستعمر الحديث وإن تعددت أطرافه، انطلاقاً من  لبنان، سوريا، الأردن، وصولاً للمملكة العربية السعودية. إلا أن المستعمِر أراد لكل كيان دور تفصيلي يرتبط بحاجاته هو وبمشروعه الاستعماري في المنطقة. فالكيان اللبناني مهمته أن يشكل منطقة عازلة وآمنة مثلاً فيما شكلت بعض الكيانات الأخرى عائقاً جغرافياً أمام أمكانية تشكل الدولة القومية العربية كالحدود السورية مثلاً. بعض الكيانات شكلت غطاءً لشركات نفطية وغيرها عالمية ترفد المستعمر الحديث بمواد أولية رخيصة وتشكل أسواقاً عالمية للاستهلاك. 

لقد تم عزل هذه الكيانات بحدود جغرافية مهندسة بدقة تسمح للمهيمن، أي المستعمر الحديث، إثارة النعرات الطائفية أو القومية أو الاقتصادية والتأثير عليها من خلال القوة  الناعمة أو المباشرة. فهي كيانات ذات اقتصاد نامٍ غير متكامل وأعجز من الاكتفاء الذاتي وذات بنى اجتماعية تقليدية في الإجمال، ولكي لا نغوص بالتفاصيل الكثيرة هنا يجدر بنا أن نشير إلى أن تقسيم حدود الكيانات لم يكن اعتباطياً بل جاء بعد فهم عميق لطبيعة المنطقة اجتماعياً وسياسياً وبُني على التناقضات والانقسامات القائمة أصلاً وسعى إلى تعزيزها. ولنا في الحرب الدائرة على الأراضي السورية - بلاد الشام تاريخياً - مثالاً يجسد كافة هذه التعقيدات المذكورة. 

الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة هو "الكيان الإسرائيلي" على أرض فلسطين المحتلة، فهو أيضاً ليس دولة فعلية بل كيان غاصب يخدم هدفاً مختلفاً. ففيما يبدو ظاهرياً أن  النهب والاستيطان هو الهدف الأساسي للاحتلال بالنظر إلى سياسات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الممنهج، إلا أنه في جوهره يشكل "دولة حاجز" تمنع توحد الأمة العربية ويشكل قاعدة عسكرية متقدمة تسعى إلى منع تطور أي من الكيانات المحيطة الأخرى. لقد نشأت فكرة دولة الحاجز منذ احتلال نابليون بونابرت للمنطقة، فدولة الحاجز هي الدولة التي تهدف إلى عدم الاندماج مع الدول المجاورة وتمنع نشوء الدولة القومية كما تسعى إلى حصار اقتصادي يقطع التجارة والتبادل الثقافي بين الأراضي الموحّدة تاريخياً إضافة إلى إنشاء جيش متفوّق لديه القدرة على تدمير أي تطور ملحوظ في الدول المجاورة.

قد يميل  الكثيرون للرد على ذلك بالقول إن "إسرائيل" قد اندمجت في الواقع مع محيطها من خلال التطبيع، إلا أن هذا  التطبيع استمر واقعياً منذ عقود وإن لم يكن معلناً إلا في بعض الحالات، ومع ذلك يمكننا القول أن التطبيع بحد ذاته هو في خدمة دولة الحاجز. التطبيع مع مصر ليس إلا دليلاً على ذلك بحيث جعل من مصرأحد أهم الأصول الاسرائيلية، ولم تربح مصر منه سوى وهم السلام فيما خسرت غازها وأمنها القومي والاقتصادي وباتت دولة مشلولة، ومرتهنة لاتفاقيات السلام  على عكس الخطاب القائل بأن التطبيع يؤدي إلى التنمية.

هذا البعد الاستعماري له بعده التاريخي وهو ليس وليد الحقبة المركنتالية. ولفهم حركته بشكل أفضل  سـأعود إلى "طريق الحرير" أولاً؛ طريق التجارة البرية التاريخية في المنطقة التي كانت تعبر إلى الصين مروراً في بغداد فتدمر فدمشق وصور وغزة  فممفيس (الجيزة) وصولاً إلى الإسكندرية، فيما تؤدي طرق التجارة البحرية عبر طرسوس وأنطاكية وصور وغزة والإسكندرية إلى (بيزنطة) اسطنبول ورودس وصولاً إلى بقية العالم. يعود تاريخ طرق التجارة هذه إلى 300 عام قبل الميلاد، ولم تختف آثارها بعد ذلك بل استمرت خلال العصر الروماني، والعصر البيزنطي، ثم الفتح العربي.

***

عام 1000 بعد الميلاد شكّلت الحملات الصليبية أول عملية تبادل قصرية بين أوروبا وغرب آسيا ومع اشتداد الحروب الصليبية، تفاقم الانقسام المسيحي بين الكنائس الشرقية والغربية. اعتبر الصليبيون، الروم الكاثوليك أو الكنيسة اللاتينية في حينه، جميع الكنائس الأخرى هراطقة ودعوا للحرب عليها. واقعاً، شكلت هذه الحروب أول مرحلة من مراحل ليتنة الكنائس الشرقية. الليتنة هي عملية تبني الطوائف المسيحية غير اللاتينية للمفاهيم والطقوس الدينية اللاتينية مرة بالترهيب ومرة بالترغيب.

هذا يعني أن الكنائس الشرقية، حتى يومنا هذا، فقدت العديد من تقاليدها وقواعدها ومعتقداتها التاريخية لتصبح أكثر تماهياً مع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية.

عام 1964، أصدر المجمع الفاتيكاني الثاني مرسوماً شرقياً Orientalium ecclesiarium ينصّ على عدم استبدال الممارسات الكاثوليكية الشرقية الأصيلة بممارسات الطقوس اللاتينية. كما أضاف أنه يجب على الكنائس الشرقية أن تعود إلى ممارساتها الليتورجية الأصيلة والعودة إلى روحانيتها الأصيلة. إلا أن الأمور الإصلاحية لا يمكن أن تتم بباسطة بعد مأسسة سياسة الليتنة في المشرق العربي لمئات السنين. ومع ذلك، شكل هذا المرسوم اعترافاً غير مباشر بأن استعمار الكنيسة  للكنائس الشرقية لم يكن إلا ضمن استعمار الغرب للشرق بطرق متعددة، ولم يكن تسييس الكنيسة الغربية مفاجئاً للأكاديميين ورجال الدين على حدٍ سواء إذ تمت مناقشة هذه الموضوعات بالذات لمئات السنين.

ومع ذلك فإن استخدام هذا التسييس للدين عبر ما بات يُعرف أكاديمياً بسياسة الليتنة تم بناؤه بشكل ممنهج على مدى طويل من الزمن وبدل أن تقوم الكنيسة بدورها الاجتماعي المرتجى في الدفاع عن المظلومين والدفاع عن الفئات المهمشة إضافة إلى الأدوار المناطة بها تحولت تدريجياً الى مؤسسة دينية واجتماعية واقتصادية وسياسية تملك ثروات هائلة ومؤسسات خدماتية تبغى الربح وتماهى معها المسيحيون كمؤسسة سياسية تعبر عن هويتهم، وبات دورهم الدفاع عنها لأسباب عدة لسنا بوارد ذكرها هنا. المهم في الموضوع أن هذا التماهي الذي استمر لعشرات العقود شكل تماهياً مع كنيسة تعيش في صراع دائم بين هويتها المشرقية المشطوبة وهويتها اللاتينية المموهة تحت مسار الانفتاح على الغرب الحضاري والتي ارتبطت بالاستعمار الحديث منذ حقبة السلطنة العثمانية مباشرة. تبقى الحقيقة أن الهوية المسيحية المشرقية بحاجة إلى إعادة إحياء فعلي لاسباب وجودية خدمة لهويتها الشرقية ولضرورة استمرارها في هذا الشرق كمكوّن أساسي من مكوناته وليس خدمة لسياسات الاستعمار وكأنها دخيلة على الشرق.

 

كاتبة لبنانية