Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

‎مشاعر الغضب التي تترافق مع كل قصف صهيوني لمنازل الآمنين، تطفئها صواريخ المقاومة. نحن عاطفيون بالفطرة، لم يكن أهل غزة المحاصرون ليغريهم أكثر من مشهد قصف صفد وتل ابيب وحيفا على حساب فكّ حصارهم. صدقاً، وبعيداً عن العاطفة فإن مليونيّ إنسان ينشدون الحرية لا يستبدلون فك حصارهم بأقل من تحرير الأرض، كل الأرض.

عبد الله شري

عن اليأس، والإنسان، وحلمنا في التحرير

أنا أحد الأشخاص المتفائلين في كل ما يجري اليوم في قطاع غزة. هناك مشاعر قلّ ما تمر على المرء في هذه الحياة، تشبه الموروثات الشعبية التي تتحدث عن فرصة واحدة في الحياة لا تتكرر. لا ضحداً للموروثات، لكن الفرص الكبيرة قلما تتكرر، وإن كنت أؤمن أننا من نصنع الفرص. فجر السابع من تشرين الاول/ أكتوبر 2023 كانت إحدى هذه الفرص التي صنعها شبان محليون بفعل تراكم مشاعر الظلم وتراكم خبراتهم بمكامن ضعف العدو. ليس هذا التفاؤل على حساب أهل غزة والمجازر المستمرة بحقهم حتى هذه الساعة، هذا التفاؤل لحسابهم، في نفس خندقهم. تفاؤل لئلا تذهب تضحياتهم ودماؤهم هدراً.

‎مشاعر الغضب التي تترافق مع كل قصف صهيوني لمنازل الآمنين، تطفئها صواريخ المقاومة. نحن عاطفيون بالفطرة، لم يكن أهل غزة المحاصرون ليغريهم أكثر من مشهد قصف صفد وتل ابيب وحيفا على حساب فكّ حصارهم. صدقاً، وبعيداً عن العاطفة فإن مليونيّ إنسان ينشدون الحرية لا يستبدلون فك حصارهم بأقل من تحرير الأرض، كل الأرض.

أذكر أحد شبّان الأحياء المهمّشة هنا في لبنان قبيل إخلاء سبيله من السجن، أبلغ حارس زنزانته أنه عائد قريباً، كان وقبل أن يغادر أسوار سجنه يخطط لعودته؛ لم يكن السجن زنزانته بقدر ما كان الخارج الذي نهش لحمه. وبالفعل بعد أيام قليلة قرر فتح قنبلة يدوية على دورية شرطة قامت بحجز دراجته النارية. ليست الدراجة النارية بالنسبة لكثير من المهمشين والمضطهدين في بلداننا غير مصدر رزقهم الوحيد؛ أملهم، قوت يومهم، منها كان يعتاش هذا الشاب وأطفاله وأهله (أنا هنا لا أناقش صوابية هذا الفعل من عدمه، بالتحديد هنا، لا يصح على الإطلاق طرح السؤال الاخلاقي، فهو مردود على المضطهِد). هكذا يولّد انقطاع أسباب الحياة حالة تجعل من صاحبها شخص فريد صعب التكهن والتحليل (غير مُعَرّف unknown). هو يفكر في أساليب "من خارج الصندوق". إنه شخص غير متوقَّع في خطواته، وهذا بالتحديد ما يجعله خطيراً على المضطهِد أو ظالمه.

ما أريده من هذا كله، القول بأن مقاومة غزة انطلقت من يأسها، لم يعد لأهل غزة مكان آخر سوى هذي الأرض؛ ولا إيمان سوى بالمقاومة؛ غزة سجنهم الذي يطيب لهم العيش فيه، ولا يستبدلونه إلا بفلسطين التاريخية كلها. من على دراجاتهم النارية انطلقوا، حملوا قوت يومهم، ودخلوا أراضيهم التاريخية، في هذه الحالة، وفي هذه الحالة فقط، يستعد الغزّي أن يخسر دراجته، أو أن تصادر، أو أن يفخخها ويفجر نفسه ودراجته بمحتلّه. 

من قَبل، وصفت أجهزة الأمن الإسرائيلية عمليات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية بـ "الذئاب المنفردة"، وكذا سابقاً وصف العدو من هم على حدوده الشمالية "بالمخربين"، و"الإرهابيين" لمن على حدوده الجنوبية. فحين يعجز هذا العدو عن تفكيك معضلة ما، يسارع لقولبتها بقوالب غربية جاهزة. والغرب نفسه الذي ارتكب المجازر بحق اليهود تاريخياً، لا يعنيه من الصراع الدائر اليوم إلا ألا تنفلت الأمور من قبضته. فهو في الوقت الذي يمثل فيه النظام العالمي والضابطة له، فإن كل من حكومة متطرفين في فلسطين المحتلة، والمقاومة في غزة والضفة الغربية ولبنان، يشكلون الهاجس الأكبر لنظامه. "إسرائيل" تخوض حرب وجودية "بحسب وصف مسؤوليها، وكذلك المقاومة، وآخر ما تفكر فيه أميركا حالياً في الشرق الأوسط  تغيراً جذرياً إلى هذا الحد، (ثمة تهديد حقيقي بإزالة "إسرائيل" من الوجود، أو بالدقة إزالة/ إقصاء مصالح الغرب من الشرق الأوسط في ظل تنافس محتدم مع روسيا والصين). في الوقت نفسه إن أي انتصار لحكومة متطرفين في "إسرائيل" يعني بالضرورة ضرب "مصالح/ أخلاقيات الغرب"، وهو ما سيفتح على الأخير باباً من الصراعات التي لا تنغلق. الغرب نفسه يكاد يكون فيه من المهاجرين العرب ما يوازي أعداد مواطنيه الأصليين. 

الأصالة للفرد:

أميل للفرد في سؤال علماء الاجتماع الجدلي، لمن الأصالة... للمجتمع أم الفرد؟. مؤخراً، صرت أميل إلى الفرد في غزة، في الضفة، وفي بلداننا المضطهدة. يمكننا اليوم حتى وبعد ألفي عام أن نحاضر عما يجب أن يكون، إلا أن الواقع لا يعير إهتماماً للذي يجب، بل لما هو واقع. بمعنى آخر لو لم يكن هناك مقاومة في فلسطين، وأقيمت دولة عنصرية توسعية للصهاينة، وراحت تطالب بأكثر مما هو في حدود فلسطين التاريخية، كان لزاماً على لبنان ومصر والأردن وسوريا والعراق أن يعطوها هذه الأراضي، لأن مشروع إنشاء الدولة كان وعداً من المستعمِر، وبالتالي إنْ ما تخلى أهل فلسطين عن أرضهم، أصبحت "دولة اليهود" من النيل إلى الفرات أمر واقع. هذا هو فضل المقاومة الفلسطينية على جوارها. تخيل أن لفعل مقاوم واحد (فرد) في مدينة الخليل، قرر صباحاً أن يستيقظ وينفذ عملية بجنود الاحتلال، أن ينقذ مجتمعات من حوله، بثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم من نير الاحتلال والقتل والظلم. (بربكم، وهذا الحال، هل يبقى لأصالة المجتمع على حساب الفرد باقية؟) 

مشكلة "إسرائيل" أنها كيان محتل، والمحتل/ المستعمر يقتله الغرور، لم يكن في حسبان دوائر القرار في كيان الاحتلال أن يأتي يوم يتذوّقون فيه الكأس المرّ الذي سقوه، ولا حتى راودت الفكرة باني الجدار الفاصل. أن يستطيع أهل غزة في يوم من الأيام تجاوز تلك الجدران ودخول المنازل القرميدية هو نصر الإنسان/ الفرد، بعينه. 

لقد أثبت الشعب الفلسطيني، أننا قادرون، قادرون على كسر المحتل، قادرون على انتزاع حرية قرارنا، نحن أيضاً قادرون على رسم معالم المستقبل في بلداننا، نعم، أنا متفائل إلى هذا الحد.

ولأن سرديات التحرر تتشابه إلى حد كبير، فهذه دعوة لكل المقهورين في بلدان منطقتنا للتفكير ملياً، خصوصاً وأن اللحظة مؤاتية، بل ومؤاتية جداً، للتحرر... من أجل غزة، بل ومن أجل كل فلسطين.

 

كاتب لبناني