باختصار غير مخلٍّ يمكن القول أن المنطقة تنزلق يوماً بعد آخر إلى مواجهة كبيرة - بغض النظر عن دائرة أو سعة هذه المواجهة – منذ فجر السابع من تشرين الأول 2023. فسياسات حافة الهوية التي مارستها الأطراف المختلفة، بما تضمره من ممارسة كل الممكنات دون سقف الانفجار السياسي، لم تعد ممكنة اليوم. لقد طوى فجر السابع من تشرين واحداً من أخطر فصول التاريخ السياسي لمنطقتنا؛ فصل تميّز بالسيولة السياسية وعدم وضوح الحدود بين الأفرقاء والخصوم
المواجهة الكبرى؟: تقدير موقف (1)
باختصار غير مخلٍّ يمكن القول أن المنطقة تنزلق يوماً بعد آخر إلى مواجهة كبيرة - بغض النظر عن دائرة أو سعة هذه المواجهة – منذ فجر السابع من تشرين الأول 2023. فسياسات حافة الهوية التي مارستها الأطراف المختلفة، بما تضمره من ممارسة كل الممكنات دون سقف الانفجار السياسي، لم تعد ممكنة اليوم. لقد طوى فجر السابع من تشرين واحداً من أخطر فصول التاريخ السياسي لمنطقتنا؛ فصل تميّز بالسيولة السياسية وعدم وضوح الحدود بين الأفرقاء والخصوم، فضلاً عما شهده من "شبهات" تبادل المنافع بين الخصوم والأعداء مرات عدة، فأعاد السابع من تشرين الأول القسمة في منطقتنا بشكل حاد بين اتجاهين رئيسيين: الأول يتطلع لممالأة الولايات المتحدة بشكل كلي باعتبارها الضامن السياسي الأوحد للاستقرار العالمي، والآخر يراهن على بدائل لم تنضج بعد، إلا أن التفكير فيها بات ملحاً اليوم. الصدع الأساسي الذي اجترحه فجر السابع من تشرين كان في أن هذين الاتجاهين، لم يعد ممكناً لهما التعايش في هذه المنطقة تحت "سقف واحد".ا
***
لا يمكن قياس السابع من تشرين الأول 2023 بحروب "اسرائيل" العديدة على قطاع غزة. موضوعياً، شكل السابع من تشرين لحظة مفصلية في تاريخنا السياسي الحديث. بإمكننا مقارنة ذلك النهار بالتاسع عشر من آذار/مارس 2003 (تاريخ بدء الاجتياح الأميركي لبغداد) أو الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، أو ربما مقارنته بالخامس من حزيران/يونيو 1982 (تاريخ الاجتياح الإسرائيلي للبنان). بمعنى من المعاني، 7 تشرين 2023 ليس يوماً عادياً ولا حتى استثنائياً في حقبة سياسية، إنه مفصل عسكري/ سياسي/ ثقافي، بين حقبتين. سيدوِّن التاريخ ما قبل السابع من تشرين وما بعده. وقد لا نبالغ إذا ما قلنا بأن للسابع من تشرين أثر يتجاوز حرب حزيران 1967، ولا يقل عن تبعات 15 أيار/ مايو 1948. من هذه الزاوية سيطل هذا التقدير على تأثيرات السابع من تشرين في الساحات المختلفة على الأفرقاء/ الفاعلين في المشهد السياسي لمنطقتنا والتبعات المترتبة على مواقفهم.ا
على المستوى الفلسطيني، جاء السابع من تشرين بعد تحولات إقليمية كبرى لعبت دوراً في تعطيل أو في دفع الحوار بين فصيلي المشهد الفلسطيني الرئيسيين؛ حركتي فتح وحماس. وكان من أبرز هذه التحولات:ا
י- صعود الدور القطري بعيد بدء مرحلة الربيع العربي وتأثيره على المشهد الفلسطيني (عام 2012، كان أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة الثاني، أول رئيس دولة يقوم بزيارة إلى غزة تحت حكم حركة حماس، وتعهد بجمع 400 مليون دولار لتمويل إعادة الإعمار)، قبل تراجع دور الدوحة نسبياً بُعيد انقلاب السيسي عام 2013.ا
י- تعاطي مصر المتذبذب مع حركة حماس، وتحوّل القاهرة من لعب دور الموازن بين الأطراف في غزة إلى ضاغط سلبي على حركة حماس وفصائل المقاومة من خلال المشاركة بتجفيف منابعها وإحكام الحصار عليها. وهو الحصار الذي ضُرب على المقاومة فور استلام السيسي لمقاليد الحكم بالتضييق على حركة الناشطين في سفرهم إلى خارج غزة، أو من خلال إقامة منطقة عازلة وإغراق الأنفاق على الحدود مع القطاع بُعيد كمين "كرم القواديس" في تشرين 2014.ا
י- توتر العلاقة بين حركة حماس ومحور المقاومة إثر اندلاع الأزمة السورية، قبل محاولة رأب الصدع بينهما عام 2018 مع انخفاض وتيرة المواجهة في سوريا بين الدولة وفصائل المعارضة المسلحة. ثم عودة العلاقات الدافئة بين الطرفين مع انتخاب يحيى السنوار رئيساً للحركة في غزة، وانتصار خيار الجناح الجهادي في الحركة على الجناح الدعوي فيها.ا
י- غياب السعودية عن المشهد الفلسطيني كلياً بُعيد عام 2015 (مع تعيين محمد بن سلمان ولياً للعهد في نيسان/أبريل 2015).ا
ا- انكفاء تركيا عن مشهد دعم للشعب الفلسطيني منذ المحاولة الانقلابية في أنقرة عام 2016، ومع إيلاء تركيا الأولوية السياسية لترتيب البيت الداخلي، وحفظ توازن نظامها، ومحاولة كسر الطوق المحيط بها في كل من سوريا (من خلال مسار "آستنة – سوتشي")، اليونان، أرمينيا، والعراق.ا
ا- جمود المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية منذ مؤتمر أنابوليس (تشرين الثاني/ نوفمبر 2007)، ثم انحياز الولايات المتحدة، وحلفائها الإقليميين (دول الخليج والنظام الرسمي العربي) بشكل كلي تجاه "إسرائيل" بعد مبادرة ترامب للسلام (صفقة القرن في حزيران 2019).ا
عرفت كذلك مرحلة ما قبل السابع من تشرين الأول 2023 جولات مصالحة فلسطينية عدة أبرزها: اتفاق مكة (شباط/ فبراير 2007)، إعلان صنعاء (نيسان/ أبريل 2008)، إعلان الدوحة (شباط/ فبراير 2012)، اتفاق غزة (نيسان/ أبريل 2014)، اتفاق القاهرة (أيلول/ سبتمبر 2014)، ثم القاهرة (أيلول/ سبتمبر 2020)، وليس أخيراً اتفاقية الجزائر (تشرين الأول/ أكتوبر 2022)، ولقاء العلمين (تموز/ يوليو 2023). لكن جل هذه الاتفاقيات بقي عاجزاً عن معالجة الخلافات الجوهرية بين طرفي النزاع الفلسطيني بما يخص نقاطاً أربع بشكل رئيس:ا
ا-النقطة الأولى: مسار العمل السياسي الوطني والموقف من الرباعية الدولية والمفاوضات مع الإسرائيليين.ا
ا-النقطة الثانية: شكل السلطة الفلسطينية (والخلاف حول قانون الانتخابات التشريعية، والانتخابات الرئاسية والإطار الناظم للمجلس الوطني لمنظمة التحرير).ا
ا-النقطة الثالثة: التنسيق الأمني مع الإسرائيليين والسقف السياسي الذي يسمح للمقاومة الفلسطينية بالعمل في الضفة الغربية.ا
ا-النقطة الرابعة: ملف المعتقلين السياسيين لدى السلطة الفلسطينية (تعتبر حماس أن إطلاق سراح 1200 معتقل سياسي في سجون السلطة شرطاً أساسياً لبدء الحوار الجاد مع حركة فتح).ا
عملياً حقق السابع من تشرين كوة في جدار الواقع السياسي بتجاوزه حدود الممكن أو المُفكَّر فيه بين الإسرائيليين والفلسطينيين. لكنه وبقدر ما كان قراراً فلسطينياً داخياً، كان حدثاً إقليمياً ودولياً بتداعياته وآثاره. فقد أعاد ذلك النهار الحسابات السياسية لكل من واشنطن، الخليج (قطر، السعودية، الإمارات)، تركيا، إيران، و"إسرائيل" بشكل جذري.ا
على المستوى الدولي، أثبت السابع من تشرين أن الولايات المتحدة غير قادرة ترك المنطقة وأن وجودها العسكري والسياسي حاجة موضوعية لها ولحلفائها. في الآن عينه، كشف هذا الحدث عن مواقف متقدمة للصين وروسيا تجاه القضية الفلسطينية، لكنها لا تزال دون القدرة على موازنة الدعم الأميركي لـ"إسرائيل". وهو ما يحتاج للبناء عليه، والمبادرة تجاه إنضاجه مستقبلاً من قبل القوى المؤيدة لفلسطين والسلطة الفلسطينية معها.ا
على المستوى الإقليمي، جاء السابع من تشرين بُعيد الحديث عن تقارب سعودي إسرائيلي، ومضي السعودية أشواطاً في التقارب والتطبيع مع تل أبيب. وبعيد تحول أصاب السياسات التركية، منذ عام 2016، حيث عمل حزب العدالة والتنمية على إعادة تدوير سياسات تركيا الخارجية مع ما يتلاءم مع سياسة "تركيا أولاً" بتقارب حزب العدالة والتنمية مع لوبي الدولة القومية في أنقرة.ا
الحرب بالمنظور الإسرائيلي:ا
كاستراتيجية عامة، تتطلع الحكومة الإسرائيلية للحرب، باعتبارها مفصلاً مهماً بين حقبتين. وبنفس آثار حرب عام 1973، التي أنهت حقبة "الصهيونية الأولى" (حقبة حزب العمل واليسار الإسرائيلي الحاكم حتى عام 1977) وأفضت بالتالي إلى ولادة "الصهيونية الثانية" (حقبة حكم الليكود)، فإن اليمين الإسرائيلي المشيحاني اليوم يتطلع إلى هذه الحرب باعتبارها فرصة ينبغي أن تُفضي إلى إنهاء الحقبة الثانية من الحكم اليميني العلماني، واستيلاد "الصهيونية الثالثة" (اليمينية المتدينة) من خلال "تديين الدولة"، وإعادة صوغ رؤى الأمن القومي الإسرائيلي وفق تصوّر جديد.ا
من هنا، حددت الحكومة الإسرائيلية أهداف المرحلة الأولى من الحرب بتدمير القدرات العسكرية لحركة حماس وسائر قوى المقاومة في غزة، فـ"أي إنجاز يقلّ عن التدمير التام لحركة حماس وتحويل غزة إلى أرض خراب أمام ناظرَي العالم، وإلى الأبد، سيمثل إنجازاً لمحور المقاومة".[1] لكن هذا ليس كل شيء. فالمؤدى الإسرائيلي النهائي من الحرب يهدف إلى إعادة صوغ الشرق الأوسط بما يعزز المكانة الاستراتيجية لـ"إسرائيل".لذا، لن تكتفي "إسرائيل" بـ"تدمير حركة حماس" فحسب، بل ستتولى مسؤولية إدارة التغيير في الشرق الأوسط من خلال تصورها الجديد لأمنها القومي. من هنا، تتطلع "إسرائيل" لتحويل الحرب على غزة إلى ماكينة هدم تحفر أسس النظام الإقليمي القائم في سبيل هندسة إقليمية جديدة قوامها:ا
أ- كي وعي المجتمع الفلسطيني، من خلال تدمير قطاع غزة بشكل ممنهج وتطبيق "عقيدة الضاحية" على كامل ترابه. ثم ممارسة سياسة التجويع والإهانة المتعمدة للإنسان في غزة، وهذه مسألة سياسية – لا حقوقية بالمعنى الصرف - لدى الإسرائيليين. فكما سبق وأشرنا، يوازي المسؤولون الإسرائيليون بين هذه الحرب وحرب عام 1973، وإذا كانت حرب تشرين/ أكتوبر 1973 قد أفضت إلى اقتناع الشعوب العربية بجدوى المقاومة، وانهيار قناعة الجيوش العربية بإمكانية قتال "إسرائيل" (لما رأوه من تفوق عملياتي للجيش الإسرائيلي عليهم)، فعلى الحرب الراهنة أن تقضي على إقناع الشعوب العربية والإسلامية بـ"عدم جدوى قتال إسرائيل" بل وباستحالة الإنتصار عليها. من هنا يمكن قراءة سياسات القتل غير المقونن، التي يقوم بها عدد من عناصر الجيش الإسرائيلي بشكل فردي، باعتبارها جزءاً من المنظور الإسرائيلي العام للحرب، لا باعتبارها "حالات فردية غير منضبطة". والأمر نفسه يمكن لحاظه عند إسقاط صناديق الإغاثة الإنسانية في القطاع. إن رمي المعونات الغذائية دون توضيب مرة، ثم في البحر مرة أخرى، وفي مستوطنات غلاف غزة عند الحدود الشمالية الشرقية للقطاع مرة ثالثة هو أمر متعمد (يمكن أن تكون إسرائيل قد اشترطت على الأردن ذلك للسماح له بتنفيذ مهام الإغاثة) إذ لا يمكن فهمهه بأي شكل على أنه خطأ تنفيذي. وهذه سياسات لا يمكن احتسابها بمعزل عن التصور الإسرائيلي الساعي لـ"إنزال الهزيمة النفسية في الوعي الفلسطيني"،[2] الأمر الذي نادى به رهط من أصوليي اليمين الإسرائيلي في بداية الحرب (مورخاي كيدار، غابي سيببوني، وكفي ميخائيل).ا
ب- الانفصال عن "نماذج انتهى زمنها" بحسب المنظور الإسرائيلي، كالحاجة إلى دعم السلطة الفلسطينية بالنحو القائم اليوم، دون أن تخضع هذه السلطة لتغييرات في جوهرها. إن السيطرة على قطاع غزة بحسب ما تتطلع إليه تل أبيب يتطلب تسوية تعيد تأهيل شروط عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع، مستقبلاً، بعد أن تثبت قدرتها في الضفة الغربية على الوقف التام ضد المقاومة، ووقفها دفع الرواتب لأبناء الأسرى وعائلاتهم. وهذا كله ينبغي أن يكون مترافقاً مع حفاظ "إسرائيل" على حرية العمل الأمني والعسكري التام في القطاع، على غرار حرية العمل في المتوفرة لها في مناطق الضفة الغربية.ا
ج- في سياق إعادة صوغ الأطر العامة للأمن القومي الإسرائيلي، تتطلع تل أبيب إلى العودة إلى تصور زئيف جابوتنسكي حول مفهوم "الجدار الحديدي"، مع ما يعنيه هذا المفهوم من حسم الصراع داخل فلسطين التاريخية، وتأمين حزام طوق جغرافي آمن لـ"إسرائيل" عند تخوم "الخارج القريب" بمسافة عدة كيلومترات. بإمكاننا التماس هذا التوجه في الورقة التي أعدها غادي أيزنكوت وغابي سيبوني تحت عنوان: "توجيهات لاستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي" لصالح معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى أواخر عام 2019،[3] ومن خلال السياسات التي دفعت وتدفع، وستدفع بها إسرائيل مستقبلاً في كل من مصر (قامت مصر بإنشاء منطقة أمنية عازلة بعمق 4 كيلومترات على طول حدودها مع قطاع غزة)، منطقة بقاء الجيش الإسرائيلي بُعيد الانسحاب من غزة (بعمق كيلومتر واحد داخل القطاع)،[4] ثم في المطالب الإسرائيلية بإبعاد حزب الله عن حدودها الشمالية (بعمق 7 كيلومترات). والحديث القديم الجديد عن منطقة حزام أمني تتطلع تل أبيب لإنشائه في الجنوب السوري.ا
ج- السير بمشروع التطبيع بين تل أبيب وعدد من الأنظمة والعواصم في العالم العربي وفق رزنامة العمل الإسرائيلية حصراً (لا الأميركية ولا العربية)، وهو ما سيؤمن لـ"إسرائيل" طوقاً واقياً يحول دون انتشار فكرة المقاومة في المجال الحيوي المحيط بـ"إسرائيل".ا
د- مواجهة "الخارج البعيد" ومناطق التهديد البعيدة المدى في دول من مثل إيران واليمن وحتى قطر، من خلال الضغط عليها بسياسات متعددة الأبعاد (أمنية، اقتصادية، سياسية). المفارقة أننا قد تلمس آثار هذه السياسة في قطر وإيران أولاً. وقد تعالت بعض الأصوات الإسرائيلية اليمينية، منذ اليوم الأول، سعياً لمواجهة إيران وقطر من خلال الاستهداف الأمني للأولى، والضغط السياسي على الثانية لمنعها من "مواصلة المراوغة". إن خيار انفصال الدوحة عن حماس وطرد جميع ناشطي الحركة منها، هو الخيار الأوحد أمام قطر لقبولها في نادي النظام الإقليمي الجديد بحسب الاستراتيجية الإسرائيلية لليوم التالي من الحرب.ا
هـ- الاستقلال عن الولايات المتحدة عملياتياً وتغيير توازن العلاقة معها. فعلى غير المتصوَّر، لا يتطلع اليمين الإسرائيلي بحفاوة بالغة تجاه تبعية "إسرائيل" لأميركا. والمسألة تتجاوز حدود العلاقة المتوترة بين نتنياهو وبايدن. فحتى في ظل إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لم يكن نتنياهو متحمساً لتوقيع اتفاقية دفاعية مشتركة.[5] الفكرة في الأمر، أنه وفي الوقت الذي تتعاطى فيه إدارة بايدن بصلاحيات غير محدودة تجاه القرار الحربي الإسرائيلي متوقعة من تل أبيب أن تلائم حاجاتها الأمنية والسياسية مع العقيدة الأميركية، تجد تل أبيب نفسها مقيدة بالحلف الأميركي، وهذا ما يضيّق الهوامش على تل أبيب في علاقتها بواشنطن. تعي تل أبيب أن الإرتهان الكلي للولايات المتحدة "سيكون مشروطاً بعدم قيام إسرائيل بأي عمل تعتقد الولايات المتحدة أنه غير ضروري"، فيما يمكن للأولويات أن تتباين بين الطرفين في غير موضع ومحل، ليس أقله في الموقف من روسيا والعلاقة معها بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وغيرها الكثير من المسائل (على رأسها طريقة التعاطي مع إيران، والموقف من الصين).[6] ا
من هنا، على خصوم وأعداء "إسرائيل" قراءة الحرب على غزة بمنظور بعيد الأمد، فلا "إسرائيل" بوارد اقتصار حربها بالهجوم على غزة ليس إلا، ولا حرب غزة - فيما لو وقفت عند حدود القطاع - ستقتصر بآثارها على القطاع والمسألة الفلسطينية فحسب. إن الحرب على غزة ستكون المنعطف الأكثر حساسية في منطقتنا منذ احتلال بغداد عام 2003 في أقل تقدير. و"إسرائيل" - بمنظور نتنياهو - هي بين خطر الانكسار النهائي، وبين خيار النصر الحاسم، ولا حلول وسطى بين هذين الحدين. وما الانتصار في غزة غير مدخل لبدء سلسلة من الهزائم/ الانتصارات لأحد طرفي الصراع. وهو ما ينبغي لقوى المقاومة في منطقتنا أن تعيه جيداً. إن إسقاط قطاع غزة عن خارطة "جغرافيا المقاومة" سيعني نهاية القضية الفلسطينية إلى غير رجعة، ويعني أيضاً أن جهود قوى "محور المقاومة" في مواجهة الولايات المتحدة و"إسرائيل" لأكثر من أربعة عقود ستذهب سدىً. وهذا ليس من المبالغة في شيء. وقد كان راز تسيمت محقاً في تحليله، بأن "الحرب في غزة قد تؤثر، ليس فقط في توازُن القوى بين إسرائيل و"حماس" في غزة، بل أيضاً في توازُن القوى المستقبلي في الشرق الأوسط بين جبهة المقاومة التي تقودها إيران، وبين ائتلاف القوى الدولية والإقليمية المعتدلة". يضيف تسيمت: "يدرك الإيرانيون أيضاً أن تركيع حماس، قد يؤدي إلى تغيير موازين القوى في الشرق الأوسط، وخلق واقع سياسي جديد، يزعزع مكانة إيران الإقليمية".[7]يمكن ها هنا لحاظ إمعان أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في خطاباته طيلة فترة الحرب (وبغض النظر عن وتيرة التصعيد من عدمه في تلك الخطابات) في تأكيده على ضرورة منع سقوط قطاع غزة. فسقوط غزة اليوم، سيعني سقوط بيروت غداً (الأسوأ إذا ما كان ذلك دون حرب) وسقوط دمشق تالياً، ومن ثم بغداد، وصولاً إلى طهران، من خلال عمل عسكري مباشر، أو من خلال حروب هجينة يُستخدم فيها الاقتصاد، والانقسام الطائفي، والسياسي، ومثقلات الضغط الاجتماعي، في تغيير خارطة المنطقة.ا
من هنا، سيكون لزاماً على محور المقاومة الانخراط بنحو أكبر في المواجهة مع بدء المرحلة التالية من العمل العسكري الإسرائيلي في غزة. فالمرحلة التالية ستكون عنواناً لـ"اليوم التالي" لا في فلسطين فحسب، بل في منطقتنا بأسرها. بالمختصر، هذه المنطقة لم تعد تتسع "لحلمين" ولا لمشروعين، فإما شرق أوسط إسرائيلي لعقود، أو كرامة في المواجهة "بحياة تسر الصديق، أو بممات يغيظ العدا".ا
Related Posts
رئيس تحرير صحيفة الخندق