Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

كان من المفترض لهذا المقال أن يتحدث عن المواطن العربي؛ حياته، يومياته، وسيرته. لكن، ولبديهة لدى الكاتب وفطنة لافتة، فقد تنبّه سريعاً ومن السطر الأول لتفاهة الموضوع. أذ ليس ثمة مواطن، ولا أوطان، ولا "من يحزنون". عليه، وحتى لا نختتم المقال ها هنا فيشعر القارئ بالغبن، وخدمة لنفس معنى العنوان أعلاه، سنكتب عن الكلاب، وحياة الكلاب في أوطاننا، مع علمنا برتابة الموضوع، أو أقله، رتابة الدخول إليه

بشار اللقيس

في الحديث عن المواطن العربي

تنويه*

كان من المفترض لهذا المقال أن يتحدث عن المواطن العربي؛ حياته، يومياته، وسيرته. لكن، ولبديهة لدى الكاتب وفطنة لافتة، فقد تنبّه سريعاً ومن السطر الأول لتفاهة الموضوع. أذ ليس ثمة مواطن، ولا أوطان، ولا "من يحزنون". عليه، وحتى لا نختتم المقال ها هنا فيشعر القارئ بالغبن، وخدمة لنفس معنى العنوان أعلاه، سنكتب عن الكلاب، وحياة الكلاب في أوطاننا، مع علمنا برتابة الموضوع، أو أقله، رتابة الدخول إليه.

***

الكلب "كرّمكم الله" حيوان غالباً ما نراه داشراً في الشوارع والأزقة بلا مأوى أو مأكل. والكلب، "كرمكم الله"، حيوان قابل للإلفة (لا يعضُ دائماً). قال لبيد بن ربيعة (من شعراء الجاهلية المتأخرين):

الكلب والشاعر في منزلٍ... فليتَ أني لم أكن شاعرا

هل هو إِلا باسطٌ كفّه... يستطعمُ الواردَ والصادرا[1]

وقد يعوي الكلب فقط إذا ما فتح الله عليه ووجد قوت يومه. وقد يجوع إلى نحو يأكل فيه الحصى والحجارة. في حالات كهذه كان يُنصح بقتله عادة والتخلص منه (قبل عصر ما بعد الحداثة وخطاب حقوق الحيوان العالمي). في أحيان أخرى يحدث أن يأكل الكلب الخضار فيصير نباتياً. تزداد وتيرة هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة مع غياب بقايا اللحم في المزابل. بالطبع نحن هنا لا نتحدث عن كلاب البيوت؛ أبناء البيوت، بل عن الكلاب الشاردة، تلك التي تقتات على ما يهبها الباري من طعام يرميه لها أصحاب الفضل والمكارم.

وللكلاب سمات. أولها النُباح. كأن تنبح على أي مارٍ أو راجل أو عابر سبيل. فهي تشعر بالتوتر من كل غريب أو جديد. فتنبح إذا ما غضبت، وتنبح إذا ما لعبت، وتنبح للمنادى، وتنبح حباً لصاحبها إذا ما أطل عليها. وتنبح لمن يطعمها، وتنبح لمن يشفق عليها. وتنبح في الليل، وتنبح في النهار دون تعب أو كلل أو ملل. قال الإمام الشافعي مرة: "دع الكلاب تنبح والقافلة تسير".[2] (عبارة الشافعي التي دخلت العالمية لم تلحظ إمكانية وجود كلاب في القافلة مثلاً. وإلا تخيلوا الحال لا قدّر الله. قافلة تنبح، والكلاب ينبحون من حولها. الكل ينبح في وجه الكل متوتراً، ولا أحد يريد سماع أحد... مشهد مؤذٍ للخيال حقاً).

وللكلاب مهام ووظائف كالحراسة، وحماية القطيع، وصيد الطائر الجريح، والإيتاء بالفريسة للصياد. وهذه كلها تفعلها لا لشيء، إلا لأن جهازها العصبي والنفسي معدّ لمثل هذه المهام ليس إلا، وتلك حكمة الباري في خلقه جل وعلا.

والكلاب أنواع وأجناس. منها السلوقي مثلاً؛ الكلب الشعبي وابن المنطقة منذ آلاف السنين، والكلب الأكثر حضوراً في تراثها الفقهي والشعري. والسلوقي "الدرويش" هذا، لا شك، أنْ لحِق كلاً منا ولو مرة واحدة لسبب ما. لهذا الكلب مائز نعرفه كلنا جيداً؛ سرعته وطول نفسه. السلوقي من أسرع الحيوانات ذات الأربع قوائم بعد الفهد، وهو أطول نفساً من الأخير إذ يجري لمسافات دون تعب ويتحمل مشقة المطاردة. وذاك هو سر لهاث كلبنا الشعبي هذا ليل نهار.

للسلطة في عالمنا العربي كلابها أيضاً. كان الملك فؤاد، ملك مصر، على سبيل المثال، أول من أدخل كلب الجيرمان شيبرد أو كلب الراعي الألماني إلى دوائرنا الرسمية العربية، وذلك عندما أشار على "عزيز باشا الألفي" مدير مدرسة الشرطة في القاهرة عام 1931 بالاستفادة من كلبه الملكي "هول". فصار كلب الراعي الألماني، ومنذ ذلك الحين، نزيل الشرطة وقرين السجون العربية. ولإن تجاهلَت السلطة فضل الكلب الألماني عليها، فغيبته عن أناشيدها وأعلامها وبيارقها القومية، إلا أن المثقف العربي الوفي لم يفته الأمر. والمثقف العربي - وهنا لا بد من إنصافه - هو أنبل من شرّع لسانه وقلمه في مديح كلاب السلطة وجرائها. بعيد مباشرة كلب الملك فؤاد "هول" عمله في مكتب الشرطة المركزي بالقاهرة، كتب الشاعر محمود غنيم (خليفة حافظ إبراهيم شاعر النيل كما أسماه العقاد) قصيدة للتاريخ قال فيها:

"قد بات يرعى الأمن هول وغيره يرعى الشياه

خافته دون الله أفئدة الجبابرة الطغاة

عجبا يخاف الكلب قوم لا يخافون الإله"

والكلاب ليست كلها سواسية، فقد فضل الله بعضها على بعض. فمن كلاب الشعب، إلى كلاب السلطة، إلى الكلاب من أبناء البيوت الوطنية والسياسية تطول اللائحة.

ولكلاب البيوت حكاية قلما تنبّه إليها المثقفون. هي حكاية التهجين المديني. المدينة لا تقبل كلاباً كبيرة فيها ولو كانت أليفة. في المدينة يصير الكل صغيراً. الكلب اليساري كنظيره اليميني يصير أقرب إلى "البوميرانيان". والأخير نوع من الكلاب الصغيرة نتج من عمليات تلقيح وتهجين لكلاب كبيرة من قبل. لم يكتسب البوميرانيان عن ذويه غير النباح، ووهم اعتقاده أنه كبير الحجم وقادر على لفت نظر أو إخافة الآخرين.

وفي المدينة اليوم ثمة كلاب للسفارات. وثمة سلطات وأجهزة في خدمة تلك الكلاب. على سبيل المثال لا الحصر، بتاريخ 10 كانون الثاني 2023، أبرقت السفارة الأميركية إلى جهاز أمن السفارات والإدارات والمؤسسات العامة اللبناني، برقية تطالب فيها تسهيل ترحيل كلبين للسفارة هما MARCO و GINA بعد نهاية خدمتهما "مشكورَين" في حرم السفارة. سافر الكلبان لبنان شاكرين للدولة حسن المعاملة وكرم الضيافة، في الوقت الذي كان فيه عشرات المواطنين واقفين في المطار عند دائرة الجوازات، ينتظرون حقهم بالمعاملة بالمثل، ولو لمرة واحدة غير قابلة للتجديد.



[1]طبعاً، لا فائدة من ذكر بيت الشعر هذا ولا حتى ابن ربيعة، لكن تذكير الناس بما جاء في الأثر وجهلوه ضرورة يفترضها تقليد الكتابة لدى المثقف العربي.
[2]ويردُ قول: "لا يضر السحاب نبح الكلاب" في نفس السياق أو المعنى. فيُقال "لا يضر السحاب نبح الكلاب" عندما يهجو وضيعٌ رفيعاً. يفسر الجاحظ في "العُجاب وبحره العُباب: الحيوان" ذلك، بأن: "الكلب إذا ألحّت عليه السحائب بالأمطار في أيام الشتاء لقي جنة، أي أصابه نوع من الجنون، فمتى أبصر غيماً نبّحه. قال الأفوَه الأودي (من شعراء الجاهلية) في نبح الكلاب السحاب: فباتت كلاب الحي ينبحن مزنه... وأضحت بنات الماء فيها تعمجُ

 

رئيس تحرير صحيفة الخندق