لقد باتت "الغوغاء" ترى نفسها على المستوى ذاته مع النخبة المثقفة والعلماء والمفكرين وأصحاب الإنجازات والطروحات على أرض الواقع. وباتت لديها الجرأة التي تمكّنها من انتقاد ومناقشة ومجادلة وتقييم النخبة بل وحتى تحقيرها وتصنيفها وتحديد مدى أهميتها
تغريبة المفكر وشهرة الفرد الرقْمي
ا"إذا جلست إلى العالم فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن القول ولا تقطع على أحد حديثه". الإمام علي بن ابي طالب ا
***
أثناء أحد الأنشطة الثقافية جرت دعوة مجموعة من النخب ممن لهم باع طويل في العمل الاجتماعي والثقافي والسياسي. حضر الحفل مجموعات متنوعة من الشباب والمثقفين. إحدى المحاضرات، وهي "إنفلونسر"، أشكلت على وجود بعض "النساء النخبة". لم تكن تدري هذه "الفقيرة" في وعيها أن النساء اللواتي أشكلَت على حضورهن كن ممن نظم الحفل. هذه الحادثة البسيطة عمّقت لدي هماً: "أي مسوخ تنتج وسائل التواصل الاجتماعي؟".ا
أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي عملية الاتصال والتواصل لجميع الناس دون استثناء، فأزالت الحدود والقيود الاجتماعية والقيمية والمعرفية والنفسية المتعارف عليها في التواصل الفيزيقي، وحررت الفرد من المعايير والتقييمات التي كان يخضع لها عمله أو قوله في الحياة الواقعية.ا
مما لا شك فيه، أن التواصل هو عملية اجتماعية بين أفراد وجماعات مترابطة - أو غير مترابطة -. لكن أن يصبح التواصل افتراضيا فهذا أمر آخر.ا
يدّعي البعض أن التواصل الافتراضي وإن بدا افتراضياً ورقْمياً في ذاته إلا أنه انعكاس لحقيقة فيزيقية يتأثر بها الفرد ويؤثرمن خلالها. فالفرد الرقمي الذي يعرّف نفسه في الفضاء الافتراضي بما شاء وكيفما شاء هو إنسان يعكس أيضاً مجموعة ما تلقّاه من قيم ومعارف، ويعكس من خلال سلوكه الافتراضي تركيبته المعرفية والعقدية والنفسية، وهو في الوقت ذاته يؤثر من خلال ما يعرضه وما يتفاعل معه ومن خلال كيفية العرض والتفاعل في شريحة واسعة من الأفراد المتابعين له.ا
هذا الانسان الرقمي الافتراضي الذي لم يكن معروفاً أو معرّفاً في السابق، ولم يكن يستطيع أن يحصّل أي شهرة على ارض الواقع، بات بإمكانه التعريف عن نفسه وفق أهوائه ورغبته. وبات بإمكانه استخدام مواقع التواصل بأثرها المرآتي الانعكاسي الواهم ليروّج لنفسه كذات فردية متمايزة عن المجتمع وعن إنجازات الواقع وغير ذائبة في روح الجماعة. وبات عدد المتابعين الافتراضيين هو المعيار الأول لنجاحه ووجوده وصوابية رأيه ودليل إنجازاته.ا
عزّز هذا السياق الأنا والفردانية لدى الانسان الرقمي وأدى تباعاً إلى تضخم الثقة بالنفس وتزايد الكبرياء وترسّخ إيمانه بقدراته الافتراضية من دون أن يكون لها أثر موازٍ واقعي دقيق. وأدّى تضخم كل ذلك إلى استشعاره بأنه من النخبة ومن المفكّرين ومن العارفين والعلماء ذوي الرأي السديد والمقام الرفيع والتأثير العميق. وبات يقيس قيمة غيره من الأفراد بحجم وجودهم على منصات التواصل الاجتماعي ومدى تأثيرهم فيها. هذا التضخم والتعاظم لوجود الفرد الرقمي المجهول فيزيقياً أو شبه المعلوم فيزيقياً (وفي أفضل الأحوال المعروف فيزيقياً من خلال الانعكاس المرآتي لوجوده الرقمي) يندرج في حجم نشاطه وتأثيره تحت ما يسمى اصطلاحاً بحكم الغوغاء.ا
لقد باتت "الغوغاء" ترى نفسها على المستوى ذاته مع النخبة المثقفة والعلماء والمفكرين وأصحاب الإنجازات والطروحات على أرض الواقع. وباتت لديها الجرأة التي تمكّنها من انتقاد ومناقشة ومجادلة وتقييم النخبة بل وحتى تحقيرها وتصنيفها وتحديد مدى أهميتها.ا
تجد النخبة نفسها غير قادرة على مجاراة الوجود الغوغائي وتجد نفسها غير قادرة على إبراز فكرها وأعمالها بالشكل الذي يتيح لها التأثير العميق والصافي. فأي مبادرة من النخبة سيقابلها تصد "رعاعي" يؤدي إلى سقوط المفكر غالباً في مستنقع لا يملك فيه المهارات الكافية للخروج منه سالماً، فينكفئ ويعود إلى عزلته مع المفكرين والمثقفين أمثاله. ذلك لأن عملية التواصل والتبادل التي يمارسها المفكر تقوم على المنطق والتأنّي والتحليل والتفكّر والتفنيد والاستفهام والاستيضاح ودراسة الآخر ومحاولة فهم مقصده، في مقابل ردود فعل لاواعية وانفعالية من الفرد الرقمي تخضع غالباً لضعف لديه في القدرة على فهم ما يقرأ واستقراء واستنتاج المعنى الدقيق والوثيق منه. يتميز المفكر والفَهِم بالتواضع والتأني والهدوء والصمت المؤدي إلى الحكمة في القول والفعل وردود الافعال؛ ويتميز الفرد الرقمي بالغرور والآنية والفورية والاندفاع المؤدي إلى الثرثرة والتسخيف والتسطيح والمغالطات وسوء الفهم. إلا انّ هذا الفرد الرقمي قد لا يشكّل ذات الخطورة التي يشكلها "شبه المثقف" الذي تصفح بضع أوراق ثم تحول إلى فرد رقمي. فحجم الانتفاخ والاعتداد بالنفس وبالمعرفة يفوق لديه حجمها لدى الفرد الرقمي الغوغائي. ولأنه يصنف نفسه من جمهور المثقفين نراه موغلاً بالحقد على النخبة الحقيقية ومسترسلاً بانتقادها وتحقيرها ورفض ما يصدر منها في محاولة منه لاثبات أحقية وصوابية بنات أفكاره واستنتاجاته. بل قد تكون هذه الردود "باب الفرج" نحو الشهرة الافتراضية.ا
تجد النخبة نفسها متغرّبة عن العالم الافتراضي، فالمعايير الاجتماعية والاخلاقية والمعرفية والقيمية التي تولّدها وسائل التواصل الاجتماعي لا تشبه المعايير التي يخضع المفكر نفسه لها.ا
إزاء هذه الصورة العامة لـ"نخب" مواقع التواصل الاجتماعي مقابل النخب الجادّة، نجد أنفسنا كمن يدخل سوقاً شعبياً: سوق الأفكار الشعبي. في السوق الشعبي قد تجد البضاعة الرخيصة وقد تجد الثمينة. البضاعة الرخيصة هي الأكثر مبيعاً والتاجر الشعبي هو الأعظم ربحاً. خارج هذا السوق، تجد النخبة ضالتها، في أماكن تحفظ فيها هُويتها، بين طيات الجرائد والكتب وفي ساحات دور النشر ووسائل الاعلام الراقية وجلسات المثقفين والمفكرين وحلقات التدريس (حتى الرقمية منها)... فهل باتت هذه الأماكن متغرّبة أيضاً عن الواقع الفيزيو - افتراضي؟ وما حالنا إذا وصلنا لليوم الذي لم يجد فيه المثقف منصة أو مكاناً تروج لطروحاته وافكاره ونقاشاته وانتاجاته وعلومه؟.ا
نحن بحاجة إلى إنعاش وسائل المعرفة والاعلام والصحافة - بكل أشكالها - ذات العمق الاجتماعي والعلمي والقيمي والعقدي والنفسي السليم. مع الترويج لها والتشجيع على انتشارها. وإلا، كيف سيكون وجه مجتمع ما بعد المعلومات إذا أوكلت صناعته إلى الغوغاء والرعاع ممن يتصدّون وينظّرون بما لا يفقهون ولا يعرفون؟.ا
Related Posts
كاتبة وناشطة تربوية لبنانية